أثناء خروجي من قاعة السينما بعد مشاهدة فيلم “رسائل الشيخ دراز” إخراج ماجي مرجان، سألتني واحدة من الجمهور -بالعربية المكسرة-: أنتِ أيضًا من عائلة دراز؟
يبدو على هيئتي أنني غير أزهرية تمامًا، غير محجبة، أرتدي فستانًا قصيرًا، ومع ذلك ظنت السيدة أنني من الممكن أن أنتمي لتلك العائلة، فهكذا ظهرت عائلة الشيخ محمد عبدالله دراز بالفيلم، ومنهم بدأت الحكاية -البعيدة عن التوجيه أو الإرشاد الديني- متمسكة أكثر بالذاتية والسلاسة في الحكي.
البداية كانت من نقطة تجمع أبناء الشيخ وعلى الطاولة أمامهم كثير من الأوراق والرسائل بخط يده، تلك الرسائل التي تحمل بين طياتها تفاصيله الشخصية والإنسانية، وكذلك مواقفه في العمل الأزهري في النصف الأول من القرن العشرين، في بعضها كان دراز حاضرًا بذاته بخط يده وصوته أحيانًا، وفي أحيان أخرى تم الاستعانة بالممثل صدقي صخر لقراءة الرسائل بصوته نيابة عن دراز، ليس بهدف التقليد، ولكن بهدف الحضور المستمر وتأكيد بقاء الأثر والاهتمام به.
ذلك الاهتمام الذي بدأ من حفيدته نهى الخولي وهي المنتج الفني للفيلم، بالتواصل مع أغلب أفراد الأسرة، من الأبناء والأحفاد، المتنوعين على المستوى المهني، فمن بينهم رأينا الطبيبة، وفنانة الرقص المعاصر التي تعيش بالخارج، أما عن الهيئة فكما وصفتها سيدة من عائلته في جملة عابرة وهي تضحك: “إحنا مفروض عيلة أزهرية، لكن شكلنا مش أزهريين خالص“. حيث لا اهتمام مطلقًا بالصورة النمطية أو القولبة بسبب الانتماء لاسم العائلة، فلم تظهر بالعائلة بأكملها على تدرج أجيالها أي واحدة ترتدي حجاب، ولا حتى زوجة الشيخ دراز نفسها، كما هو موضح بالصور. لذا -أقول لنفسي- لا داعي للاندهاش حين تسألني واحدة من الجمهور عن انتمائي لهذه العائلة.
الحياة الشخصية
ظهرت بالفيلم لقطات توضح اهتمام الشيخ بالتنزه على البحر وارتداء ملابس خاصة به للرجال والنساء، كما ظهرت واحدة من بناته مُمثلة على المسرح حين أرادت ذلك، حيث أظهر الفيلم إرث الشيخ دراز المتمثل في العائلة من أبناء وأحفاد، وكذلك متعلقاتهم الشخصية من صور أو ديكورات أو حتى أفكار، وكلها توضح أثر الشيخ فيهم، والتطور الطبيعي لأفكاره مع الزمن. على الرغم من أن أسلوب سرد الفيلم لم يوجه إلى ذلك بشكل مباشر.
ومن اللافت أنه من ضمن متعلقات الشيخ آلة البيانو التي حرصت العائلة على الاحتفاظ بها كجزء من ذاكرتهم حيث كان يتدرب الأطفال عليها في الصغر.
لكن المخرجة قصدت في مناطق بعينها أن تقدم كادرات تحمل دلالة، مثل مشهد الافتتاحية، حيث الطاولة مليئة برسائل دراز، وفي زاوية الطاولة تظهر صورة للفنان نور الشريف، في أحد مشاهد فيلمه “المصير” للمخرج يوسف شاهين، مجسدا شخصية ابن رشد، وما يحمله تكوين الكادر واختيار الصورة من دلالة تتمثل في التنوير والتقارب بين شخصيتي ابن رشد ودراز في مواجهة التشدد والظلم.
ومن هنا بدأ التوثيق لحياة الشيخ العملية، التي كان لابد أن يسبقها حوار مستمر بين أفراد عائلته والذي تعرفنا عليهم من خلاله، حتى يكسر الفيلم الحواجز مع المتلقي، ويأخذه إلى عالم أكثر حميمية بصوت صاحب الرسائل، وداخل منزله لتتبع أثره في أولاده وأحفاده.
الحياة العملية
وُلد الشيخ دراز في إحدى قرى محافظة كفر الشيخ، في عام 1894، وبعد أن أنه دراسته الأزهرية درس فلسفة الأديان في جامعة السوربون، ونال منها شهادة الدكتوراه، حيث أقام في فرنسا 12 سنة، عاصر خلالها الحرب العالمية الثانية، وأنهى رسالة الدكتوراة الخاصة به، بعنوان “الأخلاق في القرآن” باللغة الفرنسية.
واستمرارا مع الرسائل، ودون قطع مطلق لخط العائلة نتعرف على ملامح علاقة الشيخ دراز بالسلطة في مصر بعد ثورة 1952، حيث طلب قادة الثورة من دراز أن يتولى مشيخة الأزهر، لكنه رفض بعد أن طلب استقلالية كاملة لمؤسسة الأزهر.
وفي خطابات أخرى بينه وبين الإذاعة المصرية، نكتشف رفضه المتكرر لبعض الأفكار التي طرحتها عليه الإذاعة، واقتراحه أخرى. ونكتشف طلب الإذاعة منه حذف بعض العبارات من أحاديثه، فما كان منه إلا الرفض والاعتذار فيما بعد عن تقديم فقرته بالإذاعة، وقوله: “لن أساهم في إخفاء الحقيقة“.
تابعنا في الفيلم أيضا الخط المرتبط بأثر دراز على أشخاص آخرين، مثل الدكتورة ملكي الشرماني، أو الشاب أحمد الفقي، الذي تحول من الفكر المتشدد المتطرف إلى التدبر والتفكير بعد أن عرف طريق كتب ولقاءات دراز، والدكتورة أميمة أبو بكر، أستاذ الأدب الإنجليزي المقارن، والكاتب الصحفي إبراهيم عيسى، والشاب الريفي البسيط الذي ظهر في الفيلم، فاقدًا بصره منذ الطفولة، فوجد مأمنه في الاستماع إلى تسجيلات دراز الإذاعية، مما دفعه إلى تسجيل أغلبها، ونشرها على قناة خاصة باسم الشيخ على يوتيوب.
إنها حقًا عائلة جميلة!
بالعودة من جديد للربط بين الخطين أو الاتجاهين (الحياة العملية، والحياة الشخصية) اللذين لم ينفصلا طوال الفيلم، يتضح فكر هذا الرجل، غير المائل للتشدد، بل ويتضح ما هو خارج سياق الفيلم، حيث توجه السلطة بفرض بعض الشروط على دراز بالإذاعة وفي منصب الأزهر ورفضه لهما، يؤكد أنه في المقابل، كان هناك سعي دائم من السلطة حينها للبحث عن غيره ليوافقوا توجهها، ومنهم من أصبحوا نجومًا ذات أسماء لامعة عنه ومعروفين للعامة، ومنهم من حاول تقنين عمله داخل سياق السلطة وشروطها حتى ينال القدر الأكبر من الشهرة، وبخاصة وقت عصر الانفتاح في عهد الرئيس محمد أنور السادات، وسيطرة الخطاب الديني الذي حول الدين إلى مظاهر و”موتيفات” كدلالة على الإيمان والتقوى، مثل الحجاب أو النقاب، واللحية، وعلامات الصلاة على الجبهة، تلك الأشياء التي لم يفرضها الشيخ على عائلته، والرسائل المليئة بالحب والدفء والكثير من روح الدعابة لديه مع أبنائه.
صورة مختلفة
هذا النموذج المختلف عن صورة رجال الدين المعتادة، بجانب تقديمه داخل فيلم سينمائي يحمل دلالته، ويحمل أيضًا فنياته المتسقة مع الحالة الحميمية المقصودة من تدرج سلس في السرد، وصورة سينمائية تتنقل بين أفراد العائلة داخل منازلهم، وموسيقى الفيلم المؤلفة لـ خالد الكمار وسؤال السيدة عن انتمائي للعائلة، كل هذا أدخلني في حالة بحث قوي منذ مشاهدة الفيلم عن هذا الرجل، ومازلت في مرحلة قراءة أول كتابين له تمكنت من الحصول عليهما إلكترونيًا وأولهما “الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان”، والثاني “كلمات في مبادئ علم الأخلاق”، واستوقفني في الأول تفكيكه لمفهوم أن “الإله يهيمن على شؤون الناس” ومفهوم “المتدين”، والثاني يستند في تحليله على تفكيك مفهوم الأخلاق بين الغريزي والمكتسب، والشق النظري والعملي، وآراء الفلاسفة والاستناد عليها، والتعامل الدائم مع الأمور بشأن البحث العلمي وما يحويه من مراجع، بجانب الأسلوب المُبسط في الكتابة، الذي لا يحتاج متخصصا في علوم الدين حتى يستطيع مواصلة القراءة، فالأهم من الاتفاق أو الاختلاف مع الأفكار المطروحة بالكتب هو طرح سؤال لماذا لم نكن جميعًا على معرفة مسبقة بالشيخ محمد عبدالله دراز، في مقابل شهرة آخرين من نفس جيله؟
فسؤال هذه السيدة لي، وتلك الحالة الحميمية بفيلم ماجي مرجان، جعلتني أستشعر حقًا بجزء من القرابة، بل وأتسأل هل لابد لي أن أنتمي حقا لعائلته المتفتحة حتى أطلع على كتب هذا الرجل، ومن هنا بدأت البحث، وكذلك توثيق التجربة بهذا المقال.