أحدث الحكايا

إبراهيم عبد الفتاح يحكي: ضيّ.. حكاية امرأة قاتلة

من دون قصد، وبإغماضة عين حكها شال امرأة تشبهك، وجدتني هناك عند أول قصتنا، لمعة في عينيك حين التفاتك لي وأنت على أول الدرج المؤدي لخشبة المسرح، دهشتي لروعة أدائك لدور القاتلة، عاتبت نفسي بعضّة في اللسان، بعودة خاطفة على أثر غصة في الحلق، كيف لم أدرك حينها بأني القتيل، ونهضت بكل حماقة أصفق لك، بينما كان دمي يسيل بغير ألم أو خدش يذكر.

صورة تعبيرية – مشهد من المسرحية التونيسية “آخر مرة”

 

على كل حال صرت فيما بعد أصدق ذلك الفارق بين الشاعر والممثل، لكني وبنفس الحماقة عشت أحدق في الفضاء بحثا عن قصيدة طازجة، فلما عدت كانت قد سرقت الأرض من تحتي، سرقت البيت، لو أنه بيدي لأوقفت عقارب الزمن قبل تلك الساعة التي التقيتها، أو في أقل تقدير كنت اعتذرت عن كتابة الأغاني لتلك المسرحية، فقد كانت هناك مسرحية أخرى حقيقية تدور فصولها على الهامش وفي الكواليس، مسرحية عنوانها الحب ولـ”ضي” وحدها بطولتها المطلقة.

صورة تعبيرية- مشهد من مسرحية “عندي حلم”

 

أما المسرحية الحقيقية فقد كان ينبغي أن تلعب بطولتها “منة” وهي إحدى نجمات الصف الأول بمشاركة أحمد مرزوق نجم الكوميديا آنذاك، لكني حين عدت من سفرتي لأسوان والتي طالت عن موعدها بعض الوقت ذهبت للمسرح ليلا لأتفقد ما وصلت إليه البروفات فلم أجد أحدا أعرفه عدا المخرج، ولكن أين منة وبقية الأبطال؟ سألته فأجابني: لقد اعتذرت ثم لحق بها أحمد، قلت: ومن البديل؟ أشار للجالسة عن يمينه وقال: ضي هي البديلة، ضي، ومن تكون ضي؟ أجابت وهي تقاوم أن تنعتني بالجهل، امنحني فرصة يا أستاذ ربما أعجبك.

أثناء تسجيل أغاني المسرحية، ادعت ضي أنها لا تمتلك مهارة إخراج سيارتها من موقف أسفل الاستوديو. تطوع رحيّم بالطبع، حين أدار المحرك انطلقت من المسجل أغنية تخصه، فمررها وظل يفعل ليكتشف أن كل أغاني الألبوم تخصه، عندما خرج بالسيارة إلى الطريق، سألها: من الذي جمع هذه الأغنيات من شتاتها، قالت: أنا يا أستاذ، تصدق أني معجبة بشغلك من زمان، ومعجبة بكل ما تكتب، لا بأس سنعرف كل شيء في حينه.

صورة تعبيرية – من مسرحية “عندي حلم”

 

كزهرة فريدة كل من مر بها استعملها ومضى، حتى رأتني؛ هادئا وديعا ميسورا إلى حد ما، حشدت أسلحتها وقررت الغزو.

يكبرها بعمرين، قالت: يبدو صغيرا، توددت واقتربت أكثر.

كان صادقا: تزًوجت من قبل. قالت: لا يضير الرجل تجربة وفشلت، سننجح سويا.

قال: لدي طفل، وأضافت: هو ابني.

وُزِّعت المهام؛ الأم تعترض، الأب يهدد، الأصدقاء ينصحون لا تقترب أكثر. “في العناد تكبر المشاعر” قال لأمها وأضاف: أعرف أنها ثروتك، رصيدك الذي ادخرته، عوضا عن زوج أهانك بل وخائن.

“كل الرجال خائنون” قالتها وهي تتحسس دفتر الشيكات: كم تريد وتترك ابنتي؟ أعرفها جيدا هي فقط تشتهيك.

“أنت لا تعرفين قدرها”، التقينا، قالت: سأمنحك عشر سنوات، ستكون الأب والزوج والحبيب. صفقة معقوله، لم أدرك فجاجة المساومة، تلك التي تدربت عليها جيدا في حظيرة الأهل، كل شيء له ثمن؟

زارت وصلّت وزكّت وترحّمت ودعت واستخارت، فكان من نصيبها. إمرأة تآتيك في آخر الليل، خلّفت أهلها وراهنت عليك هل تردها؟

مؤقت

أثاث مؤقت في بيت مؤقت سينتقلان فيما بعد لبيته لمدة عام ويزيد. سهر على إعداد البيت، تفنّن في جعله رحبا وهادئا وجميلا حتى يليق بها. حملت، وعدها بالعودة من المشفى بطفلهما إلى بيتهما الجديد. طلب أن تحضر أسرتها، احتفى بوجودهم أولئك الذين حقًروه وأهانوه، الآن يبتسمون في وجهه ولا يكفون عن عبارات الإطراء.

جاء الطفل، كل شيء إذن حضر، تهامسوا: سنضع الطفل على رأسه حتى لا ينظر إلى الوراء. قال: هناك طفل آخر، قالوا: تدخل به الجنة وأضافت إنه روحي.

مر أسبوع وأسابيع ولم يرحلوا، ظلوا في أماكنهم، البيت يتسع للجميع، نصعد له بدرج واحد بالضرورة ذلك أفضل من صعود ستة أدوار. سنبقى: قالوا وأضافوا: لا تنتظري أكثر.

صورة تعبيرية

 

قالت الأم: في غمرة الفرح اقتنصي البيت، ليكن باسمك. وانصرف الأب في مهمة ملائكية قال: يمكنك دفع مقدم بسيط لشقة صغيره ستملكها مع الوقت وامنحها لطفلك الآخر.

قال: يا الله كم هم طيبون!

أهدرت الوقت ولم أمنح روحي فرصة حقيقة لأعرفهم عن قرب.

ذكرى

لا أستطيع أن أنسى ذلك اليوم حين هاتفتني ضي وهي في طريقها لمكان التصوير: رحيم أنا تركت البيت وليس معي سوى حقيبة صغيرة بها بعض الملابس، سأنتظرك مساء عند انتهاء التصوير ولا تنسى أن تصطحب معك المأذون والشهود. المكان آخر ترعة المنصورية ستدركه ببساطة من عربات التصوير.

أُسقط في يدي ولم أعرف ماذا أقول، فكم أكدت عليها مرارا أننا لن نتزوج دون موافقة أهلها، وقبل أن أبدي اعتراضا، أضافت: لست صغيرة ويحق لي الزواج دون موافقتهم.

بدوري هاتفت عادل النجار فهو أكثر أصدقائي زواجا وطلاقا وبالضرورة لديه مأذون ملاكي، فأخبرني بسعادته بالخبر ومباركته وأنه سوف يصحب معه زوجته.

هاتفت أيضا صديقي السيناريست ربيع عبد الرحمن ليكون شاهدا ثانيا. التقينا أمام مكتب المأذون بحي العجوزة ثم انطلقنا نحو المنصورية. حين وصلنا كان جميع من في المكان على قدم وساق يترقبون نهاية المشهد الأخير، حيث كانت ضي تغسل يديها من دماء حبيبها الذي طعنته للتو ثم تحاول محو بصماتها من على الجثة والسكين ثم تتوجه للكاميرا بابتسامة صفراء وهي تدير قرص الهاتف لتبلغ الشرطة عن جريمة قتل بحق خطيبها، لكن المخرج أوقف التصوير وطلب إلى الماكيير أن يقطر الجلسرين بعينيها، وسرعان ما استأنف المشهد وراحت ضي تنوح وتولول باكية وهي تتمدد فوق الجثة.

 

انتهى المشهد بتصفيق حاد وتهنئة حارة لضي على إتقان دورها. حتى أنا صفقت لها بحماس، عانقتني ومن ثم راحت تبدل ملابسها. داعبني النجار قائلا: الثاني، وكان يقصد الزواج الثاني بالطبع، ضحكت وأنا أريد مداعبته: أتمنى أن يكون الأخير.

بسط المأذون أوراقه حين عادت ضي وتبعها بعض نجوم العمل وبعض المساعدين. سألها المأذون: طلباتك يا عروسة؟ اعتدلت ضي في جلستها وراحت تعدد طلباتها: المقدم خمسون ألفًا، الشبكة لا تقل عن المقدم والمؤخر أيضا، وأن يكتب البيت باسمي وسيارة تليق بمقام الزوجة.

كانت إنسانة أخرى غير التي عرفت والتي ظننت أن أهلها عثروا عليها أمام باب مسجد، فهي لا تشبههم في ملامحهم ولا طباعهم.

خلعت وجه الملاك وكأنما نهضت من جانبي وجلست بمقعد العائلة. مر شريط علاقتنا لثلاث سنوات وكأنه ثوان معدودة، قلت في نفسي: أحدهم استبدلها بالضرورة فليست هذه فتاتي. نهضت من مكاني باتجاه حمام السباحة وألقيت نفسي به كي أفيق من الصدمة، غصت بالمياه طويلا بينما تتناهي لأسماعي ضفيرة أصوات الحضور، حين أخرجت رأسي كانت دائرة من وجوه تحاصرني.

استندت إلى رصيف المسبح ثم نهضت بينما ينهمر شلال مياه من جسدي وملابسي، تمددت شاخصا للسماء وأنا أسأل المخرج: هل أعجبك المشهد يا أستاذ؟

جلس النجار عن يميني وزوجته عن يساري ووقف بينهما المأذون يرددون عبارة واحدة وكأنهم فريق كورال: الشروط دي في حالة الطلاق وانتو حبكم أكبر وأبقى.

كانت ضي تبكي بحرارة وكأني أنا الذي خنت توقعاتها، ظل الكورال يردد نفس جملته واجتهد البعض في إضافة جمل جديدة: دي باعت أهلها واشتريتك. ثم اقتربت مني وهمست: كتير عليا؟ فقلت لها: كتير عليا أنا. وأضفت: اطمئني سأوقع الأوراق وما بالقلب بالقلب. ليفوز كلُّ برهانه يا ضي.

شروع في قتل

كمن يقطف ثمرة دون نضجها توقظني ضي دائما، لكن هذه المرة استنهضتني بوجه عابس، قلت: خير يا ضي؟ قالت: أحتاج مبلغا يكفي لشراء هدية ثمينة فاليوم عيد ميلاد هدى، ويكفي أيضا لأجر الكوافير. قلت: لكنك تعلمين أنني شبه مفلس حتى موعد الدفعة القادمة، قالت: اتصرف، نهضت عن سريري وفي دقائق كنت انتهيت من ارتداء ملابسي وتوجهت لمنزل حامد عبد العظيم، فقد كنا بصدد وضع الأغاني الخاصة بأحد المسلسلات حيث جرت العادة أن يصرف للملحن دفعة بداية حتى يشرع في وضع الألحان، اقترضت منه مبلغا سيقطتعه من أجري فيما بعد. حين عدت أعطيته كاملا لضي. كانت على أهبة الخروج فانصرفت.

لم أستطع بالطبع أن أعود للنوم فقررت أن آخذ حماما وأخرج. ولما لم أجد مناشف بالحمام رجعت لغرفة النوم فتحت خزانة الملابس وجذبت منشفة، فانزلقت كمية أوراق نقدية من عملات مختلفة كان بينها اليورو الذي أحصل عليه من جمعية المؤلفين والملحنين، هالني ما رأيت واندهشت من ادعاء ضي بنفاد المبالغ التي أعهد لها بوضعها بالبيت. لملمت المبلغ ووضعته مكانه ثم أخذت حمامي وارتديت ملابسي وانصرفت.

ما هي إلا أيام قليلة حتى عاودت ضي طلبها للمال فأخذتها من يدها حتى الخزانة وأشرت لها عن مكان النقود: خذي ما يكفيك منها، ارتبكت وتلعثمت قبل أن تتدارك الموقف: بأمن نفسي أنا وابني فسألتها: وأنا من أكون؟ فأضافت: أمي قالت لي نفضيه أول بأول، أدركت أن بيتي يدار من الإسكندرية، وأنها عادت لأحضان الأهل والتي طالما ادعت قبل زواجنا أنها تأتمنني على حياتها أكثر منهم.

استيقظت ذات صباح على غيابها، فتشت البيت ولم أعثر لها على أثر، هاتفتها غير مرة ولم ترد، لا بأس سوف تظهر علي أي حال. في المساء هاتفتني أمها: ضي غضبانة عندنا في إسكندرية. قلت: ما الذي أغضبها؟ قالت: أنت تعرفها لا تبوح بشيء وأكملت: هاتلها حتة دهب هدية وتعالى صالحها.

حقيقة لا أعرف سببا لغضبها ولن أحضر دون معرفة السبب ومناقشته. مرت أيام وأيام ولم تعد ولم تجب على هاتفها حتى حدثتني ساندي صديقتها وكررت كلام الأم بخصوص الذهب وخلافه من هدايا قلت: هي جانبك لا شك فاعطيها الهاتف، غابت لدقائق ثم تحدثت ضي: من الآخر أنا مش حاسة بأمان، وانت عارف أن كل أموالي أخذها أهلي عقابا لي على زواجي بك دون موافقتهم، وحتى السيارة أخذوها. قلت: نعم وأنا من طلب منك ذلك، ثم ما هي طلباتك حتى تشعرين بالأمان؟ قالت دون تردد: اكتب لي نصف البيت. قلت لها: من عيني إذا كان هذا سيوفر لك الأمان.

قاتلة

في صباح اليوم التالي جاءت بصحبتها أسرتها، استيقظت على نحيبها فربت عل كتفها واحتضنتها: سأكتب لك البيت كاملا. اعتراها الذهول فقبلت يدي وقالت: لم أكن أتخيل حتى أنك ستوافق بنصف البيت أنت حقا إنسان كريم. فتحت حقيبة مستنداتي بحثا عن عقد البيت فلم أجده، قلت لعلني وضعته في مكان آخر، بحثت وبحثت دون جدوى ولم أفطن يومها أنهم سرقوا العقد حتى يتفادوا توصيفه بنقل الملكية.

ذهبت لصاحب البناية في الشقة المجاورة حيث جعل منها مكتبه، وطلبت منه صورة العقد لكنه لم يجدها، سألني لماذا تريدها؟ فأخبرته بنيتي فقال: سامحني لو تدخلت في أمور تخصك وحدك، لكن يا أستاذ رحيم، سيضيع حق ابنك الآخر. فأجبته: أنا أأتمنها عليه، فقد وعدت أنها ستدخل به الجنة. قبل أن يجيبني اقتحموا علينا المكتب وبادره الأب: ما الوضع أستاذ حسام؟ قال الرجل: سنكتب عقدا جديدا ويكون الأستاذ رجب شاهدا عليه. وقد كان.

كتبت لها البيت بأثاثه وأجهزته دون شرط، وظننت أنني بهذا قد ملكت قلبها. غير أن الرياح تأتي بما لا أشتهي. فقد تغيرت ضي تماما، تنمرت واستأسدت، ولم تعد تهتم بأشيائي أو غيابي أو حضوري، وإمعانا في إذلالي حرّضت الخادمة على عصيان أوامري، ثم تعهدت بمشاركة أمها والخادمة بمضايقة ابني عامر، لم يخبرني عامر بأية تفاصيل لكني مع الوقت لاحظت انسحابه وانطفائه. وزادت ضي الطين بلة حين أخبرتني بأنها ليست مضطرة لخدمته أو مراعاته، فما كان مني إلا أن نقلته لبيت أمه، وتكبدت عناء ذهابه وعودته من وإلى المدرسة والبيت. كان عليّ أن أستيقظ في الخامسة لأستقل سيارتي لحي المهندسين حيث تسكن أمه ومن ثم العودة به لمدرسته بالمقطم ثم أعود به من المدرسة للبيت حتى تمكنت من نقله لمدرسة بحي المهندسين.

تمادت ضي في تجاهلي بل وصدي كلما حاولت الاقتراب منها. عاتبتها معترضا على تصرفاتها وهل هذا جزاء ما قدمته من تنازل؟ لكنها أجابتني بيقين: ضي اللي كنت تعرفها ماتت.

لم تكن بحاجة لهذا الاعتراف فقد ماتت تماما، نقلت معيشتي لحجرة الأولاد. مضت الشهور دون أدنى محاولة مني لاستمالتها، فقد كفرت تماما بها حتى حين بادرت وكثيرا ما فعلت لم أكترث. انشغلت عنها بوحدتي وأسئلتي الوجودية. ثم ما لبث أن حدث الحراك السياسي، فغرقت بالهم العام ناسيا كل ما يخصنى.

صورة تعبيرية

 

منحتها كل الأمان الممكن فسلبتني حتى أماني الشخصي، وكنت كلما رجعت إلى البيت أتفقد صلاحية مفتاحي. نعم عشت مهددا أخشى ما أخشاه أن تغير رتاج البيت. بل كنت أخشى أن أمد يدي لوجبة قامت بإعدادها، فقد وصلت من الجحود ما يجعلها تفكر في دس السم في قهوتي أو عشائي. كنت أذهب للبيت فقط من أجل النوم لساعة أو ساعتين على الأكثر وأخرج حين أفيق إلي مقهى قريب أفتح حاسوبي وأكتب فقط، أكتب حتى آخر الليل. صارت الكتابة ملاذي بل وهروبي من وحدة قاتلة.

عن إبراهيم عبد الفتاح

شاعر ومؤلف مسرحي، درس الفلسفة، كتب العديد من كلمات الأغاني لأصوات مصرية وعربية ومقدمات العديد من المسلسلات وأغاني الأفلام والأوبريتات. رئيس تحرير "أصوات أدبية".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *