اسمح لي أن أناديك بهذا الاسم، فهو الأقرب لقلبي. لكني قبل ذلك أود أن أعتذر عن إزعاجك برسالة من قروي مصري لا تعرف عنه شيئا، لا لا .. ليس هذا ما أظنه الآن بعد أن تخطيتُ الخمسين، بل العكس تماما، فأنا أثق أنك تعرف عني وعن أمثالي الكثير ولهذا تجرأت على اقتحام خصوصيتك واقتناص دقائق من وقتك الثمين برسالتي هذه.
اسمح لي كذلك بأن أحكي -ويالها من جرأة شجعني عليها ما يبدو في كتاباتك من بساطة مذهلة تغري الكثيرين بأن يظنوا في أنفسهم القدرة على السرد- قصة مختصرة أظنها تبرر سبب توجهي لك بهذه الرسالة.
في العام ١٩٨٦ كانت زيارتي الأولى لمعرض القاهرة الدولي للكتاب في العاصمة القاهرة، أنا الريفي الآتي من محافظة صغيرة في الجنوب، اعتدت فيها أن أرى الحقول الخضراء تسد الأفق، وأن أمر في طريقي لبعض الأصدقاء الساكنين في قرى خارج المدينة على أطلال لمعابد مصرية قديمة، وواحد من أقدم أهرامات مصر، اسمه هرم مَيدوم لعل روحك تفكر يوما في زيارته. المهم أنني أبدا لم أكن قد اعتدت هذه المشاهد الصادمة الموجعة في العاصمة، حيث الزحام يضغط على شعورنا المراهق بذواتنا آنذاك إلى درجة الانسحاق.
نشوة الزيارة الأولى
وكأي شاب ريفي فقير مثلت زيارة القاهرة ومعرض كتابها أمرا مرهقا لميزانيتي المحدودة. أتذكر بوضوح رفيقيّ اللذين كانا في مثل سني وشكلي، وهو أمر غريب أن أتخيلهما الآن بنفس ملامحي، المهم كنا جميعا في حالة نشوة عارمة لزيارة معرض الكتاب للمرة الأولى، وقد كنا من محبي قراءة الأدب، ولدينا بعض المحاولات النيئة في كتابة الأشعار والقصص. لكن نشوتنا كانت مغلفة بحذر من ضياع محتمل في مجاهل العاصمة إن نحن فقدنا ثروتنا الصغيرة أو لم نحسن التصرف فيها. أذكر جيدا أن ميزانية شراء الكتب، التي كنت أحرص على وضعها في جيب خاص في بنطالي، كانت خمسة جنيهات مصرية. لا أعرف بالتحديد كم يبلغ هذا الرقم بالروبل، لكنه لم يكن شيئا يذكر على أية حال.
لن أزعجك بالحديث عن انبهارات أبناء الريف التي تصحبهم في زياراتهم الأولى لعاصمة كبيرة ومزدحمة، لكن كل شيء مر علينا اقترن، رغم إحساس الضآلة الذي آلمنا، بشعور طازج يصعب وصفه أو تكراره. كان أكثر ما أثار انبهاري وجعل عينيّ تنفتحان لأقصى وسعهما هو ذلك المشهد المهيب لآلاف آلاف الكتب التي يضمها معرض القاهرة. لم أكن أحسب أن الأمر بهذه الصعوبة، إذ كيف يمكنك أن تحصل على شيء يرضي نهمك للقراءة من بين ملايين الكتب وأنت لا تملك سوى خمسة جنيهات كان علينا أن نستخدم بعضها في شراء الطعام.
جاء دخولنا لمعرض الكتاب من بوابة يقع بالقرب منها سراي كبيرة، وكلمة سراي كانت في ذلك الوقت تطلق على مبنى ضخم يضم العشرات من دور النشر، وكان الجناح الروسي يقع في مدخلها، وبذلك أصبح أول مشهد للكتب في معرض القاهرة مرتبطا بهذا الجناح. وقفت قليلا أمام أسماء الكتاب الروس الذين يتصدرون الجناح ونعرف بعضهم، أذكر جيدا أسماء تولستوي، وديستويفسكي، وجوركي، وتشيخوف. هكذا رأيتك على غلاف أخضر يضم أعمالك، مجرد صورة لم تعلق ملامحها في ذهني للوهلة الأولى.
الجناح الروسي وعالم أدبي جديد
لقد أعطانا الجناح الروسي ساعتها فكرة زائفة تماما عن أسعار الكتب يا سيدي؛ إذ اكتشفنا بعد أن قضينا اليوم نتنقل ما بين سرايات المعرض أن الأسعار أضعاف ما رأينا هناك. كنا مجموعة من معدومي الخبرة في التعامل مع تلك التجمعات الضخمة، وقد جعلنا ذلك نكتفي من الدوامة التي سقطنا فيها بالدوار. قضينا الوقت في قراءة عناوين الكتب، وحضور جلسات شعرية، ومشاهدة بعض المطربين الهواة، وعروض المسرح القصيرة في مخيمات صغيرة، لكننا اكتشفنا في نهاية اليوم أننا لم نشتر أي كتاب.
ما حدث ساعتها هو أننا عرجنا في طريق عودتنا على الجناح الروسي مرة أخرى وقد قررنا أن ننفق ثروتنا المتواضعة هناك، بعد أن أنهك أجسادنا المشي، وأشعلت عقولنا المشاهدات الكثيفة للفنون وعناوين الكتب. عدنا نجرجر أرجلنا إلى الجناح الروسي. وقفت حائرا بجنيهاتي الأربعة، في الحقيقة اضطر كل منا لصرف جنيه لشراء بعض ساندويتشات الفول، وهو الطعام الشعبي في مصر، وشرب كوب من الشاي وفنجان من القهوة، لنقاوم يومنا الطويل.
لفتت نظري مجلداتك الأربعة التي فوجئنا بأن سعرها جميعا عشرة جنيهات، أي إن المجلد الواحد منها يبلغ ثمنه جنيهين ونصف فحسب. كانت كتب السادة جوركي وتولستوي وديستويفسكي بجوار كتبك مباشرة، كما أنها متاحة بالثمن نفسه تقريبا. لم يكن لدينا معيار واضح للاختيار، نحن نعرف أسماء تولستوي وديستويفسكي وقرأنا لهما بعض القصص والروايات التي أتاحتها على نحو غير منظم مكتبات قصور الثقافة في محافظاتنا الريفية، لكني كنت أواجه اسمي جوركي وتشيخوف للمرة الأولى.
شيء ما راعني في صورتك التي تتصدر الغلاف جعلني أقرر شراء المجلد الأول الذي يضم قصصك القصيرة. نظرتك في تلك الصورة كانت موجهة بعيدا عن عدسة الكاميرا، لم أستطع لذلك أن أكوّن انطباعا واضحا عن الهموم التي تملأ عينيك وروحك مما تعرفت عليه بعد ذلك في قصصك. شيء غامض في ملامحك الهادئة التي تبدو أقرب للسكون كان يجذبني للتعرف إليك.
في القطار العائد إلى مدينتي في الصعيد لم أستطع مقاومة الفضول الذي استبد بروحي. فتحت المجلد في إضاءة شاحبة تقطعها بانتظام ظلال عواميد النور التي تجري للخلف، وسط ضجيج عجلات القطار ولفح هواء يناير البارد المتسلل من نوافذ القطار المكسورة. الصفحة التالية للغلاف تحتوي صورة أخرى لك، يبدو أنها كانت في سن أصغر، والغريب أنك يا سيدي كنت تنظر بعيدا عن الكاميرا أيضا ولكن في الاتجاه الآخر. دعني أتجرأ على سؤالك: أكنت تقصد ذلك؟ هل تعمدت أن تتجنب النظر في عيني القارئ لتنفي المواجهة، وتستبدل بها دعوة للمشاركة؟ هل كنت تشير إلى مدى مفتوح تريدنا أن ننظر إليه معك، أم تراها مجرد مصادفة أو عادة شخصية لا معنى لها؟
أنطون بافلوفيتش تشيخوف
المقدمة التي كتبها السيد مكسيم جوركي هي أول ما واجهني في كتابك. كان عنوانها ببساطة هو اسمك الثلاثي:
أنطون بافلوفيتش تشيخوف
ساعتها، ولسبب أجهله الآن تماما، كان الأكثر التصاقا في ذهني هو اسم بافلوفيتش، الذي ظل في ذاكرتي علامة عليك حتى الآن. لم أستطع أن أصمد كثيرا في قراءة مقدمة السيد جوركي في هذه الظروف التي جعلت جسدي ينهار بعد يوم طويل مستسلما للنوم.
يمكنك أن تترك لخيالك المبدع العنان يا سيدي في تصور الحد الأقصى من المتعة والشغف الذي قرأت به المجلد. لقد انتهيت منه في يومين لم أذهب إلى الجامعة خلالهما، فقط كنت أدخن وأقرأ وآكل كلما عضني الجوع، محتفظا بكوب الشاي الساخن دوما إلى جواري.
مع تقدمي في قراءة قصص هذا المجلد كنت ياسيد بافلوفيتش تلتقي في عقلي وروحي بكاتبنا المصري الكبير نجيب محفوظ، لقد فاز بجائزة نوبل في الأدب عام 1988 إن كان لهذه المعلومة أية قيمة في توضيح أهميته ككاتب عظيم. كان التقاؤكما في عقلي متمثلا في الإصرار البسيط الصلب على فكرة الصدق في التعبير عن الإنسان: آلامه وطموحاته. كلاكما صادق في انتمائه إلى قيم المساواة والعدالة، وكلاكما صادق أيضا في محاولة دفع من يقرأ أعمالكما إلى التفكير بجدية أكبر في ذاته، ودوافعه، وأهدافه في الحياة بلا ادعاءات زائفة تفرضها سياسات الصواب السياسي في المجتمعات. كلاكما يا سيدي كان فذا في محاولته الكشف عن جوهر الكائن الإنساني النقي البسيط، المتخلص من مساحيق الدفاعات البهلوانية ضد عالم مجرم في قسوته. لقد تعرفت ببساطة مذهلة في قصصك يا سيد بافلوفيتش على المادة الخام للأمل والإحباط والقسوة والاعتداء والتسامح والتلاعب بالقلوب والاغترار بالطبقة أو الثروة وغير ذلك من المشاعر التي كانت تعريتك لها أمرا فاصلا بالنسبة لشاب في الثامنة عشرة من عمره يحاول أن يشق طريقه ككاتب.
في العام التالي، وفي الوقت نفسه من شهر يناير كنت أقف من الصباح الباكر أمام الجناح الروسي في معرض القاهرة للكتاب، وقد أعددت سبعة جنيهات ونصف وضعتها في جيب خاص في بنطالي، وأعرف بالتحديد ما سأفعل بها.
هذه الرسالة يا سيدي يمكن اختصارها في كلمة واحدة هي كل ما أردت أن أقوله لك: شكرا.
رائع جدا
محبتك لتشيكوف تمثلني
صباح المحبة والجمال على أروع أديب صباح الذكريات الجميلة والمسيرة العطرة شكرا أن تعرفنا أكثر وأكثر على النشأة الأولى وأيام الصبا والشباب لينتج هذا العملاق الذي نعتز به