“الأفلام يمكن أن تموت، بل إن جزءًا ضخمًا من تراث السينما قد مات بالفعل. لا أعني الأفلام المفقودة والتي تحللت نسخها فلم تعد صالحة للاستخدام، ولكن الأفلام المحفوظة جيدًا على خام السليولويد، والتي لا يمكن عمليًا لأحد أن يشاهدها، ما عدا حفنة معدودة ممن يمتلكون المعدات والأماكن القديمة التي تسمح لهم بذلك. لو لم يتم ترميم الفيلم وتحويله إلى نسخة رقمية متاحة للجميع، فهو عمليًا في عداد الأموات”.
بهذه العبارات الصريحة والصادمة افتتح المخرج الألماني فيم فيندرز كلمته خلال تلقيه تكريمًا خاصًا من الاتحاد الدولي للأرشيفات السينمائية (FIAF)، ضمن أنشطة الدورة السابعة من ماراثون بودابست للأفلام الكلاسيكية، المهرجان المخصص لتراث السينما والذي استضافته العاصمة المجرية في الفترة بين 17 و22 سبتمبر 2024، والذي أقيمت على هامشه اجتماعات الجمعية العمومية السنوية للاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسي) فكانت سببًا لحضوره للمرة الأولى.
فيم فيندرز واحد من الأسماء اللامعة في السينما الأوروبية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وكان من بين جيل أُطلق عليه “السينما الألمانية الجديدة”، بدأ مع راينر فيرنر فاسبندر واستمر مع فيندرز وفيرنر هيرتزوج وفولكر شلوندورف ومارجريتا فون تروتا، وغيرهم من الأسماء التي يستمر أغلبهم في العمل حتى يومنا هذا، مستفيدين ربما من متوسط الأعمار الطويل في ألمانيا. أغلب أبناء هذا الجيل فقدوا ألقهم بظهور أجيال أحدث وأكثر معاصرة، وصار حضور أفلامهم في المهرجانات مرتبطًا بالأساس بتراثهم الذي حققوه قديمًا.
غير أن فيندرز هو الاستثناء بين أبناء جيله، باستمرار في تقديم إسهامات مهمة، سواء في الأفلام الوثائقية التي اعتاد تقديمها خلال العقدين الأخيرين، أو بعودته المفاجئة بفيلم روائي رائع صوّره في اليابان هو “أيام مثالية Perfect Days” الذي عُرض في مهرجان كان العام الماضي وصار فورًا من أهم أفلام العام، أو بجهود مؤسسته السينمائية “فيم فيندرز شتيفتونج” المعنية بالتراث السينمائي وترميم الأفلام واكتساب حقوقها، والجهود الأخيرة هي تحديدًا ما جعلت اتحاد الأرشيفات الدولي يقرر منحه جائزته السنوية.
عن تراثهم وتراثنا
“أنصح صناع الأفلام الشباب بعدم التخلي عن حقوق أفلامهم بالكامل، احتفظ بقدر ولو بسيط لنفسك من حقوق الفيلم. لولا قيامي بذلك لضاعت بعض أفلامي للأبد. الشركات تُغلق والحدود تتبدل والمؤسسات الضخمة تنهار، ما لم تسعى للحفاظ على أعمالك بنفسك ستكون في كل لحظة عرضة لأن تسعى لإيجاد نسخة من فيلم صنعته بنفسك فلا تستطيع”.
تُثير كلمات فيم فيندرز الشجون، لاسيما لشخص مثلي آت من بلاد تجمع بين نقيضين: فلديها تراث سينمائي عريق، منحها خصوصية فنية وانتشارًا ثقافيًا في محيطها الجغرافي، وتعاني في الوقت ذاته من إهمال مفزع لهذا التراث. كل من سعى للعثور على نسخة لائقة من فيلم قديم فلم يجد سوى نسخة مسجلة من قناة تلفزيونية أعملت فيها مقص رقابتها الخاص، وكل من حاول بلوغ ثبتٍ موثقٍ بالأفلام المنتجة في عام ما وتاريخ عرضها، وكل من تواصل مع المركز القومي للسينما، الذي يعتبر رسميًا النقطة المرجعية التي يتم فيها تخزين “نسخ الإيداع” التي يمنحها منتجو الأفلام لصالح الأرشيف السينمائي، كلهم سيفهمون جيدًا ما أعنيه عندما أقول إن تراثنا السينمائي في كارثة مستمرة تتعمق كل يوم.
لن نطيل كثيرًا في الحديث عن وضع أرشيفنا السينمائي المتناثر بين الجهات، والذي عاش ومات الناقد الكبير سمير فريد وهو ينادي بحتمية إنشاء سينماتيك مصر، مكتبة سينمائية وأرشيف وطني ككل البلاد التي تحترم تراثها السينمائي الذي لا يبلغ في بعض الحالات ولو ربع التراث المصري. لكننا سنركز على الحدث نفسه: ماراثون الأفلام الكلاسيكية، الحدث الذي تتحول فيه العاصمة المجرية لستة أيام عاصمةً للسينما الكلاسيكية، ويتنقل الجمهور فيها بين عدة قاعات تعرض لها برنامجًا حافلًا من الأفلام القديمة، منها الشهير الذي يُعرض بنسخة مرممة، ومنها المغمور الذي يعيد المهرجان اكتشافه، ومنها الصامت الذي يُعرض مصاحبًا بأداء موسيقي على الطريقة القديمة، ليعيش الحضور تجربة كانت قديمًا هي السينما فصارت اليوم نادرة الوجود.
تجارب مشاهدة فريدة
بعد تكريم فيم فيندرز قام المهرجان بعرض نسخة مرممة من فيلم خاص جدًا عنوانه “خدعة ضوئية A Trick of Light”، صنعه فيندرز عام 1995 ليقدم للعالم حكاية غير معروفة عن الأخوة سكالدانوفسكي، فنانو المسرح الألمان الذين طوروا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر جهازًا لعرض الصور المتحركة اسمه البيوسكوب bioskop، يكاد يكون إرهاصة أولى لسينماتوغراف الأخوين لوميير، ولكن شهرة وثراء الفرنسيين، مع تفوق جهازهما التقني الذي يشهد به أحد الأخوة سكالدانوفسكي في الفيلم، جعل حكايتهم تختفي في طيات الكتب بينما دخل الأخوان لوميير التاريخ من أوسع أبوابه.
في “خدعة ضوئية” يظهر فيندرز بشخصيته الحقيقية، صانعًا فيلمًا وثائقيًا يتحدث فيه من عجوز تسعينية هي آخر المتبقين على قيد الحياة ممن عاصروا اختراع البيوسكوب، مازجًا إياه بالحكاية المصورة بطريقة السينما الصامتة. الفيلم عُرض في مسرح أورانيا الوطني Uránia، الذي استضاف أول عرض لفيلم من إنتاج محلي مجري عام 1901. عرض “خدعة ضوئية” صاحبه أداء موسيقي حي مدهش من الموسيقار الفرنسي لوران بيتيجاند، مؤلف موسيقى الفيلم الذي رافق فيم فيندرز في العديد من أفلامه.
يمكن لأي شخص شراء النسخة المرممة من الفيلم، أو حتى تحميلها مقرصنة من على الإنترنت، لكن تجربة مشاهدتها في قاعة عمرها يقارب 130 سنة مصاحبة بعزف موسيقي حي، وبحضور صانع الفيلم وسط مسرح ممتلئ بجمهور من بلاد أوروبية عديدة، هو أمر مختلف تمامًا. تجربة آتية من عالم آخر لا تعد السينما فيه فنًا آنيًا يُصنع للاستهلاك الوقتي ثُم يسلم للفضائيات ومنصات العرض تصنع فيه ما تشاء. عالم يُمثل الفيلم فيه مركز كل شيء، يجتمع الجميع حوله، لعرضه ومناقشته وترميمه والاحتفاء به والتأكيد على ضرورة حمايته من تقلبات الزمن والسياسة والاقتصاد.
تاريخ السينما للجمع
الشعور نفسه –وربما أكثر– يمكن أن تلمسه إذا ما غادرت مسرح أورانيا التاريخي واتجهت إلى ساحة سان ستيفان أمام كنيسة البازيليك في قلب العاصمة، حيث نُصبت شاشة ضخمة ووضعت مئات المقاعد التي تعرض في كل ليلة الأفلام مجانًا لمن يرغب من المواطنين. المدهش هو امتلاء المقاعد بالكامل في جميع الليالي بلا استثناء، فالجمهور في كل مكان متعطش للسينما الجميلة إذا ما قُدمت له في ظروف ملائمة تحترم آدميته.
وفي حوار سريع تبادله أعضاء الاتحاد الدولي للنقاد مع المخرج الفرنسي الكبير كوستا جافراس، والذي كان ضيف شرف حفل افتتاح المهرجان، أبدى إعجابًا خاصًا بهذه العروض المقامة في الهواء الطلق والتي تربط السينما بالمدينة.
الجميل في ماراثون الأفلام الكلاسيكية هو تخلصه من العناصر التي تجعل حياة منظمي المهرجانات العالمية الكبرى أصعب، فلا أفلام جديدة تحاول الشركات الكبرى ووكالات العلاقات العامة ترويجها بأي ثمن، ولا نجوم مشاهير يسيرون على السجادة الحمراء فيخطفون الأضواء من المحتوى، ويكفي أن فيم فيندرز وكوستا جافراس هما أشهر اسمين في حضور هذا العام، ولا سبب عمومًا يدفع أي هاوي شهرة أو مؤثر تواصل اجتماعي للحضور، فقط محبة الأفلام والرغبة في إعادة اكتشافها، والتي تؤكد التجربة أنها كافية لإنجاح حدث دولي كبير يستمر ستة أيام كاملة.
مهرجان للكلاسيكيات
وإذا كان طموح إنشاء سينماتيك مصري يبدو بعيدًا، في ظل فشل مساعي الأساتذة الراحلين في أزمان كان فيها للسينما أثر ثقافي واجتماعي أكبر من يومنا الحالي، وكان للدولة فيها اهتمام بتلك الصناعة الرائدة لا نلمسه اليوم، وكانت الظروف الاقتصادية تسمح للسينمائيين أن يحلموا بمشروع كهذا، فإن إقامة مهرجان للكلاسيكيات لا يبدو طموحًا خياليًا لهذه الدرجة. فإذا كانت المجر التي تملك سينما عريقة لكنها لا تحمل الأثر الإقليمي الذي حققته السينما المصرية في محيطها الجغرافي، والتي لا يمكن اعتبارها من الدول الثرية على المستوى الاقتصادي، إن كانت قد تمكنت من صناعة حدث كبير ومهم وممتع كهذا، فلماذا لا يسعى السينمائيون المصريون لإطلاق مهرجان للكلاسيكيات تستضيفه القاهرة التي كانت –ونأمل أن تظل– عاصمة السينما في الشرق الأوسط؟