أحدث الحكايا

شريف الشافعي يحكي: إلى شريف رزق.. الشاعر المسافر خلف “مجرة النهايات”

لم يكن موتًا مباغتًا هو، ولا غيابًا خاطفًا، ولذلك لا تكون الكلمات والحكايات المتدفقة في محبة شريف رزق (1965-2017)، الشاعر والناقد الحي، مجرد ظلال وذكريات يستحضرها إحساس بوداع أو اعتقاد بفراق.

الشاعر الراحل شريف رزق

 

هي رحلة من رحلاتك العجائبية يا شريف، بمذاق قصائدك المتوهجة كبروقٍ من وجعٍ واحمرار. دهشة هي من دهشاتك، ستصطحب قراءك ومحبيك إليك، إن عاجلًا أو آجلًا.

هو ائتناس جديد، في مكان ما، لصاحب “عُزلة الأنقاض”، ابن مدينة منوف في دلتا مصر. وسياحة في ملكوت أرحب، وانتصار مؤكد لـ”الجثَّة الأولى” على “حيوات مفقودة”.

هناك، في البعيد، ما يليق بالذات الشاعرة، التي تخلق كونها الخاص، خلف “مجرة النهايات”، وبعد نهاية المجرات: “عَمَّا قليلٍ سيبتدِئُ الفَرَاغُ/ وَينْتَهِي الوقتُ/ ولا أعْنِي بِذلِكَ مَجَازَاتٍ مُحْتَمَلَةً/ أوْ نُبُؤاتٍ مَا/ وَالهَوَاءُ الذي تَعَلَّقَ بِالنَّافِذَةِ -أيضًا- سَيَنْهَارُ/ على المَدِينةِ الَّتي عَبَرَتْ/ سَأَسْكُبُ ُأحْشَائِي على المَشْهَدِ العَاتي/ مَائِلاً/ وَأَسْتَدْرِجُ العَاصِفَاتْ”.

الاشتعال والتجدد

ابق حيًّا حيث أنت يا شريف، تجربتك هي الاشتعال دائمًا، والبناء المتجدد الصامد، وإن لم تكن تحته أرض مهادنة. فقط قد تنطفئ العتمة، فيما تعيد الموجودات ترتيب ذراتها وفق معطيات جديدة.

إن لاح في المشهد خراب فهو مخادع، وإن تمثلت انهيارات فهي ظاهرية، ذاتك المتحمسة هي بداية المواجهة، وتفجراتك خميرة الخلق: “ابدءوا بي/ مِنْ هُنا/ بي/ بانفجاري/ بالانهيارِ الذي يتعثَّرُ في سردِهِ على أنقاضه/ بي/ مِنْ هُنا/ مِنْ جنازةٍ تستندُ على عظامي/ شاردة”.

حتى في “عزلة الأنقاض”، ينازل شريف رزق الفناء، بسيوفه التي يبدّلها واحدًا تلو الآخر، ثم بأعضائه المتناثرة، رافضًا الاستسلام: “لعلَّهَا أعْضَائِي/ هذِهِ الَّتي تَدْفَعُ التَّوَابيْتَ/ في الهَوَاءِ”.

غلاف ديوان عزلة الأنقاض للشاعر شريف رزق

 

ربما تستشعر الذات دمار الأرض، وخواء العالم، ولعنة الوجود، لكنها ترفض العدم كغاية، إذ تتولد دائمًا من الموت طاقات لا تبلى: “هذِهِ السَّحَابَةُ جُثَّتِي/ تتفصَّدُ كَائنَاتٍ وَأنْقاضًا”.

الانهيارات الكبيرة

هذه الثمرات الشعرية الناضجة، دانية القطاف، بتعبير العم خيري شلبي؛ لو تذكر يا شريف: “ذات نَكْهَةٍ رَصِيْنَةٍ أقرْب إلى لَذْعَةِ ثَمَرَةِ الكُولا، أوْ ثَمَرَةِ الكَرْزِ النَّاضِجَةِ، سرْعَانَ مَا تَنْجَابُ لَذْعَتُهَا عَنْ شُعُورٍ بِالانتِعَاشِ”.

ويستكمل خيري شلبي، مكتشف الشعراء: “هي شعرية الانْهيارَاتِ الكبيْرَةِ المُروِّعَةِ؛ حيث انهارت الثَّقافَة السِّياسيَّة، وَتنازَلَ المُجْتمَعُ عنْ أهمِّ قَضَايَاهُ، بلْ وعنْ طُموحَاتِهِ، واخْتَفْتَ القضيَّة الكُبْرَى، فكأنَّ الأرْضَ قد انْسَحَبَتْ”.

الروائي الكبير خيري شلبي

 

هكذا، علمتَ مبكرًا، أيها المسافر كنسمة صيفية، أن عليك أن تخطو دائمًا وحدك، فكل ما هو جماعي محض وهم، في ظل سقوط المقولات الكبرى، وسيادة التفكك والانهيار والتبعثر.

وهكذا أيضًا، وحدك، فوق أرض متشكَّك في وجودها، تعوّد الشاعرُ أن يخرج من دمك، كي “يشْهَدَ الصَّدعَ الأخِيْرَ”، في حين “تَصْهَلُ أعْضَاؤه في الشّتَاتِ”.

إكسير البقاء

وفي “هواء العائلة”، يواصل شريف رزق الاستهزاء بالحرائق، والسخرية من الخرائب، مفسحًا المجال أكثر لطاقته الروحية القادرة على إيقاظ الكائنات والأشياء، وإشعال غيمات عن بُعد، وتفجير أحجار في كل موضع، حتى ولو كانت حصوات في كلْية مريضٍ متألم بائس.

إنها القصيدة الممسوسة بإكسير البقاء، والخلود: “جُثَّتِي تُلوِّحُ في العَرَاءِ/ لِغَيمَةِ لا تَرَاهَا/ ../ ../ الحَرَائقُ تنهشُ جُثَّتي/ وَأنَا أُقهقِهُ في العَرَاءْ/ ../ ../ تَتَفَجَّرُ أحْجَارٌ/ في كلْيتِي”.

حياة لائقة

وفي “حيوات مفقودة”، يخترع شريف رزق جسدًا آخر لذاته، موازيًا لذلك الوجود الثاني، الذي يقيمه عادة من أجل حياة تليق بإنسان.

هذا الجسد، ليس بالضرورة أن يكون من خميرة المستقبل، بل قد يكون من طينة ماضٍ مجيد: “تبَيَّنْتُ مُوميَاءَ لي، في المُتْحَفِ المِصْري القديْمِ، كُنْتُ في العِشْريْنَ مِنْ عُمْرِي، على الأرْجَحِ، وَكَانَ مِنْ المُسْتَحِيْلِ على أحَدٍ، أنْ يتفهَّمَ آلامَ رَجُلٍ يلتقِي مُومْيَاهُ، مُصَادَفةً، وَيَتَأمَّلُ فيْهَا، غَائبًا في صَلاةٍ مَا، وَبصعوبَةٍ يتنقَّلُ، بجَسَدِهِ الجَديْدِ، وَعَيْنَاهُ مُعَلَّقتَانِ ببقايَاه الأولى، غَائبًا عَنْ كُلِّ مَا حَوْلَهُ”.

قصيدة النثر

ابق حيًّا يا شريف، واصل في رحلتك خلف “مجرة النهايات” حكايتك عن “قصيدة النثر”، مناصرًا لها في محنتها، ومواجهتها أعداءها وأدعياءها، غير ملتفت كعهدك إلى ما قد تحدثه كلماتك النارية من إزعاج أو إغضاب لأفراد وكيانات ومؤسسات رسمية أو سلطوية متهالكة، فأنت اخترت رداء العزلة والاستغناء، وطريق الاستقلالية والحرية منذ البدء.

واصل كلماتك، دون مواربة، قد تكون محقًّا فيها، وقد تكون مخطئًا، لكنها معنونة بالنزاهة، ومنسوجة بخيوط الضمير: المشهد الأدبي المصري “بعافية”، والمؤسسة الثقافية الرسمية بقدراتها الطاغية لا تقدم أفضل ما في المشهد، وللمسؤولين عنها دائمًا حسابات وتصفية حسابات، أما نهر الإبداع، فإنه “في تجدد دائم، وهو الشيء الناجز في حياتنا المصرية الراهنة، على الرغم من غياب أسماءٍ كبيرةٍ أو مشاريع أدبيَّة”. والتحدي الذي يواجهه الشعر المصري، والعربي بصفة عامة، هو “كثرة الأدعياء، ودعم المؤسسات الرسمية لهم”.

فضاء الضوء

هذا ميزانك يا شريف، وتلك لمحات من معاركك الجمالية، التي اتسعت أحيانًا خارج دائرة الشعر، لتمس أمورًا ثقافية وفكرية، منها قضية التجديد الديني.

ابق حيًّا يا شريف، كتابك الأخير “شعر النثر العربي في القرن العشرين”، رأى النور بعد مغادرتك، وأنت الذي وقعته لأصدقائك، وقد احتفلتْ به وبكَ كُتبُكَ النقديةُ السابقةُ: “آفاق الشّعرية العربيَّة الجديدة في قصيدَة النَّثر”، “قصيدة النَّثر المصريَّة: شعريَّاتُ المشهدِ الجديد”، “الأشكالُ النَّثرشعريَّة في الأدبِ العربيّ”، “تحوّلات القصيدة العربيَّةِ عَبْر العصور”، وغيرها.

واصلْ حكايتك الأبدية، واصل ارتحالك أيها المبدع خلف “مجرة النهايات”، فهو ولوج في فضاء الضوء الذي لن يتبدد.

عن شريف الشافعي

شاعر وكاتب مصري، من مواليد 1972، صحفي بمؤسسة "الأهرام" المصرية. صدرت له ثمانية دواوين، منها: «الأعمال الكاملة لإنسان آلي»، و«كأنه قمري يحاصرني»، و«هواء جدير بالقراءة». صدر له كتاب «نجيب محفوظ.. المكان الشعبي في رواياته بين الواقع والإبداع». تُرجمت أعماله الشعرية في كتب منفردة وأنثولوجيات إلى لغات عدة، منها الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والصينية. شارك في مهرجانات شعرية دولية في فرنسا والولايات المتحدة والصين والمغرب ولبنان والأردن والسعودية وغيرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *