تفصلني أيام عن ميلادي “الثاني والخمسين”، وأجدني متورطًا في مشاعر متناقضة. أسترجع حروبي وهزائمي وكوابيسي وأغلاطي وذنوبي وفُشولي، وهروبي وغروري.
مضى قطار العمر تاركًا وراء ظهري حملًا ثقيلًا وكبائر أخجل من ذكرها. وما يتبقى سوى أقل القليل.
أيام ويخبرني الجرس أن العمر ولى وراح، ولم يعد ثمة متسع لأحلام كثيرة ولا طموحات كبيرة. أتطلع في مرآتي إلى مشيب الرأس وتغضن الجلد وضعف البصر وانحناء الظهر.. فأدرك معنى: يا إنسان أنت في هدد نفسك منذ ولدت. لم يعد ثمة ما يستحق التكالب عليه ولا الطمع فيه ولا الجري وراءه.
مناجاة
الحمد لله الذي سترني حين فضحني الناس، وواساني لما ظلمني الناس، وأعزني بعدما أذلني الناس، وفرّج كربي لحظة أن يئست مما في أيدي الناس، وأظلني بلطفه وفضله وواسع رحمته وعظيم كرمه.
الحمدلله الذي اختبرني في السراء والضراء، والشدة والثراء، والعزلة والأضواء، والداء والدواء.. ثم مدّ لي حبلًا من رَوحه، لأوقن أنني نفحة من رُوحه.
فيا شريف يا ابن صالح لا تيأس من روح الله، وتلمس طريقك بالحب فيه والأمل به عز وجل.
اثنتان وخمسون سنة مرت بي على قلبك، ومررتُ بها برجلك، كأنها حلم مستظل بشجرة.. شربت كل كؤوس النبيذ وأحببت كل النساء وطمعت في كل مال.. مالك وما ليس لك.. فنقصتَ من حيث جمعتَ.. وضعفت بقوتك.. وأعجزك من ظننته نُصرتك.
تعلم يا الله أنني ليس في جعبتي عبادة مثل الأمل فيك والرجاء بك والتوكل عليك والسعي إليك.
زادي قليل، وحملي ثقيل، وغدر بي كثير، وأجلي قريب، ومشواري طويل، فأنا منك وبك وإليك.. منك المأوى وبك العزوة وإليك المصير.
هل من درس أقوله لكم؟
لا أظنني بلغتُ حكمة إعطاء دروس لأحد. لا إنجازات أفخر بها، وليس في جعبتي سوى أوهام. لا حكمة مضمونة تفتح لي ولكم الأبواب. فالحكم الكثيرة كالمفاتيح الكثيرة كيف تعرف أيها مناسب لبابك الذي به وقفت، والطريق الذي اخترت؟!
فأي دروس وعبر، والناس لا تتعظ من ميت ولا بميت.. ولا يفقهون أنهم موتى في جنازات موتى؟!
ربما.. ربما.. كان درسي الوحيد أنني مهما كان الوحل الذي فيه غصت.. ومهما كانت الذنوب التي ارتكبت.. ومهما كان الغضب.. وحس الانتقام.. مهما كان جوعي وفقري وضعفي، فإنني لا أيأس من رَوح الله أبدًا.
أومن أنه الحب، وبه الحب، ومنه الحب.
لا أفهم من يُصلون له ولا يَصلون.. من يطيلون لحاهم ويقصرون نفوسهم، من يلهجون بالدعاء إليه، وليس في قلبهم ذرة حب له.
كيف ما زالوا يجرون في الدنيا طمعًا وكذبًا وغضبًا وانتقامًا وغلًا؟ كيف تسجد له برأسك (وهو أعز وأنبل ما تملك) ثم لا تسلمه إليه.. بل تملؤه بالأوهام والهواجس والمخاوف.. تملؤه بالخوف أن تخسر مالك.. وتخسر شبابك.. وتخسر أولادك. تملؤه بالخوف أن ينتصر عليك عدوك. وأن يعز من خانك؟
كيف تتوكل عليه “حسبي الله ونعم الوكيل” ثم تترك قلبك مملؤًا بالحقد والكراهية على عباده ممن تتصورهم أعداءك ومستحقي غضبك وانتقامك.. لو توكلت عليه لتخليت عن حروبك الصغيرة البلهاء، واكتفيت بالأنس به. من قال لك إن تلك الحرب حربك؟ وربما ما سُلب لك، لم يكن سوى الحبل الخفي كي ترفع بصرك إلى النور.. فوسط كل محنة منحة.. ومن “السموم الناقعات دواء” كما قال شوقي رحمات الله عليه.
نحن لا نتفكر ولا نتدبر القرآن، تلهج به الألسن فلا تعي معناه.. تنحني الأجساد في صلاة لكنها مازالت خارج المعية.
عندما كنتُ أحس الظلم في طفولتي، والعجز، والهوان على الناس، والضعف، كنت أردد سورة “الضحى”. أحب ذلك الخطاب بالكاف كأنه إليّ.. وأحيانًا أردد سورة “الأعلى”. أربط نفسي بعلو الأعلى.. المحيط بي.. اسأله اللطف فيما أقول وأفعل.. اللطف فيما قُدر لي.. اللطف في ابتلائه وعطائه.. فهو اللطيف الخبير. الذي يعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسه.
الدرس الذي قد أقوله لنفسي.. ولكم.. أنني قد لا أُرى في العابدين.. بعيدًا بعد الهدهد عن سليمان.. لكنني دائمًا على باب الآملين.. أقاوم ضعفي وكسلي.. أسقط في الطين وأنهض.. أكون أفضل من نسختي التي كانت بالأمس وولت.. فشريف صالح الأمس ليس هو اليوم، ولا غدًا. هي رحلة لا يتبقى منها شيء.. يُسلب منك ما أخذت، وتخسر فيها ما كسبت. إلا الأمل لأنه الطريق. والحب لأنه الغاية.
رَوح الله.. رُوح الله
ثمة فائدة لغوية حين نتدبر تلك الكلمتين القرآنيتين.. فلو فتحنا الراء تعني الرحمة، المغفرة، الحبل، النور، الطريق، الوسيلة، الأداة، الفرج، المخرج، رقصة الوردة، الصبر الجميل.
حين تؤمن بحنان الله ولطفه، ستفعل كما فعل يعقوب وتقول كما قال “فصبر جميل”. فمهما بغى الباغي وظلم الظالم وكذب الكاذبون ونافق المنافوق وسرق السارقون.. ليس عليك سوى أنت تؤمن أن الله يخبئ لك المفتاح الذي ستهرب به، سيريك الباب الذي ستعبر منه، سيمد إليك حبل الصعود إليه، وطوق النجاة. ولديه من الرسل والأسباب ما لا يعد ولا يُحصى.
لو يأست من رَوح الله.. فأنت قبضت والله باسط.. خفت وأنت مع القوي.. صغرت نفسك في حضرة الجليل.. شككت أمام صاحب اليقين.. تواكلت وما توكلت.. صليت وما آمنت.. دعوت وما صدقت إجابة.
في التأويل المباشر أن عيني يعقوب ابيضتا من الحزن على ابنه الغالي. كان العمى أسى وحسرة على ما فقد.
وفي تأويلي الخاص كان العمى إغلاقًا لباب الأوهام والتعلقات وأسباب البشر، واكتفاء برب الأسباب.. كان ذهابًا جوانيًا وعرفانيًا إلى الله، وخروجًا من الدنيا وكل متاعها وتعلقاتها. لم يكن العمى يأسًا بل انشغالًا ب “رَوح الله”.
ويالها من مفارقة أن يفسر المفسرون الرَوح بأنها “الريح” ويهتف يعقوب الكفيف “إني لأجد ريح يوسف”. هي الريح الطيبة، النسمة، حاملة البذور، وبشرى المطر. ضد القيظ والجفاف والكفر.. هي لمسة الرحمة الحانية. يقال إن الريح استأذنت ربها أن تبشر يعقوب بعودة ابنه الحبيب، قبل أن يصل إليه قميصه. فهي الوعد العابر للزمن, اللطف الخفي.
أما رُوح الله فهي نفحته ونفخته فينا.. سره الأسمى الفاصل بين حياة وموت.. فلو أيقنا أننا من رُوح الله، لعشنا كرماء القلوب أعزاء النفوس.. لشمرنا وكافحنا ليل نهار، حتى يعزنا العزيز.. كما أعز يوسف من قاع البئر إلى تاج العرش. فالكنز في الداخل قبل أن يكون في الرحلة.. فأغمض عينيك كما أغمضهما يعقوب.
أو كما غنت الست أم كلثوم “ثم أغمض عينيك.. حتى تراني”. أو “فأنت تراني”.
تبقت خطوتان أو تفاحتان
مررتُ بسنوات صعبة إلى حد ما، واجهتها بابتسامة.. تلمست لطف الله فيما قدر لي.. وقدر الله كله خير..
وفي كشاف حسابي وأنا اقترب من فصلي الأخير.. تأملتُ خططي فيما تبقى، كما يتأمل الجندي مخزونه من الزاد في خندقه. قلتُ لنفسي لم يتبق لي من الحياة أكثر من حلمين.. أو فترتين.. أو حبين..أو خطوتين.. أبدأ أولاهما الآن.. قبل أن ألج عزلتي وأنتظر ساعتي أو قيامتي، كما ولج يعقوب عماه بحثًا عن روح الله.
كم ستعيش يا شريف؟ ستصمد إلى الستين؟ ستتجاوزها بقليل؟ كم ستجني من المال؟ مليونًا! ستعثر على امرأة أخيرة بكل النساء؟ ستنال أجمل قبلة في الوجود؟ أم ستخسر كل شيء وتسعى حافيًا مجذوبًا في شوارع لا تبالي بك؟
قلتُ: تبقت لك يا نفس خطوتان.. تفاحتان.. كأسان.. أملان.. جبلان.. تقودني خلالهما رَوح الله.. إلى رُوح الله.. الجمال إلى الكمال.. الطريق إلى الغاية.. وأنا غايتي الحب.. أغني كما غنى محمد الطوخي رحمات الله عليه “ماشي في نور الله”. ماشي برَوح الله إلى رُوح الله.. فآن للنفحة أن تعود.. وللقطرة أن تذهب إلى بحرها.
إنها عتبة انتظار قصيرة، ما قبل أخيرة، حتى يُلقى عليّ قميص يوسف، أو رداء زليخة، فأرتد بصيرًا وأرى الحب.