أحدث الحكايا

د. هيثم الحاج علي يحكي: سيزا نبراوي المناضلة الأولى ورفيقة هدى شعراوي

المشهد نهاري في ميناء الإسكندرية حيث ترسو سفينة قادمة من روما في أحد أيام شهر مايو من العام 1923، ويبدأ ركاب السفينة في إعداد الحقائب والاستعداد للنزول إلى أرض الميناء، وفي وسط هذا الحشد من الرجال والنساء تبدو فتاتان من ضمن الركاب تتساندان، وكأن كلا منهما تشجع زميلتها، كما تظهر شفاههما تتمتمان بصوت خافت غير واضح.

كانت الفتاتان هدى شعراوي وسيزا نبراوي العائدتان من مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي قد قررتا أن تتخذا الخطوة التي طالما تأجلت سنوات، فقرأتا الفاتحة سرا -حسب رواية سيزا- ونزلتا من على ظهر السفينة دون ارتداء (البرقع) للمرة الأولى في تاريخ مصر الحديث.

سيزا نبراوي وهدى شعراوي

 

تتعدد الروايات حول هذه الواقعة الأولى فمن يذكرها على هذه الصورة، ومن يذكر أنهما نزعتا هذا الغطاء قبل النزول من قطار القاهرة، ومن يذكر أن أول واقعة كانت في المظاهرة النسائية التي استقبلت سعد زغلول عند عودته من المنفى، وهو ما نقله الدكتور رفعت السعيد في مؤلفه “مصر والمرأة في مواجهة التأسلم” عن «سيزا» قولها، إن: «أذكر يوم عودة «سعد» وفي المظاهرة الهائلة التي استقبلته، بدأت «هدى هانم» بما اتفقنا عليه، فهتفت يسقط الحجاب، وخلعته، وألقت به أرضًا، وفعلت مثلها، وكذلك عدد محدود من النساء، وقد أحدث ذلك ضجيجًا واسعًا، ورفضًا حتى من بعض الوفديين المحافظين». ورغم صدمة الجموع الحاشدة من فعلتهما، فإن خطوتهما قد أثرت في النساء المصريات في غضون سنوات قليلة، حيث أعربن عن رفضهن لطمس هويتهن، وانتهاك حقوقهن.

سيزا نبراوي وهدى شعراوي بعد خلعهن البرقع

 

لكن المؤكد أن الحادثة قد وقعت، وأنه قد اشترك فيها كل من هدى شعراوي وسيزا نبراوي، وأن الرغبة في حدوثها قد سبقت ذلك بعدة سنوات، عندما عادت سيزا من فرنسا في سن الثامنة عشر وقد رفضت شكل الحجاب المصري وأرادت أن ترتدي بدلا منه القبعة، لكن هدى شعراوي هي التي أثنتها عن ذلك حين أقنعتها بالتدرج في اكتساب الحقوق.

تقول سيزا في مذكراتها: عندما عدت من الخارج حيث عشت حتى بلغت الثامنة عشرة من عمري كنت متحررة متحمسة ولهذا رفضت لبس البرقع وأصررت على لبس القبعة وبحكم الصداقة التي كانت بين والدتي وبين هدى شعراوي أخذت تهدئ من ثورتي وتقنعني بأن الظروف غير مواتية للحصول على حقوق المرأة مرة واحدة، وأن المطالبة بها في هدوء يجنبنا ثورة الرجال الذين كانوا كل شيء في ذلك الوقت.

سيزا نبراوي تشير إلى صورة معلمتها هدى شعراوي

 

كانت سيزا -واسمها الأصلي زينب محمد مراد- قد ولدت في الرابع والعشرين من مايو من عام 1897 في قرية القرشية بمركز السنطة بمحافظة الغربية، لوالدين انفصلا بعد ولادتها بشهور قليلة، فكفلتها إحدى قريباتها وهي عديلة هانم النبرواي، التي منحتها لقب العائلة بعد أن أسمتها سيزا، واهتمت بتعليمها في مدرسة فرنسية في الإسكندرية، قبل أن تسافر بهذه الصغيرة، ذات الثماني سنوات، إلى «باريس» عام 1905.

ومع ذلك، لم تكن حياتها مع أسرتها الجديدة في الخارج وردية، بل دخل الخلل حياتها عندما بلغت السادسة عشرة، وانفصلت والدتها البديلة عن زوجها، ثم سرعان ما اكتشفت أن «عديلة هانم» ليست أمها الحقيقية، مما ترك أثرا صعبا على نفسيتها، وهذا ما أكدته «هدى شعراوي» في مذكراتها، إذ قالت: «كم كانت الصدمة شديدة على «سيزا» المسكينة التي كانت تجهل حتى ذلك الوقت أن لها أما غيرها، وكانت «سيزا» في ذلك الوقت في السادسة عشرة من عمرها.

سيزا نبراوي

 

كان شعور (الفقد) أكثر ما شعرت به «سيزا». ومع ذلك، كان هذه الأحداث المريرة التي عايشتها، مجرد وقود حرك نداءها بالحرية عند عودتها لمصر لتعيش مع أقاربها، وفوجئت -حينها- بفرض قيود عليها في الحركة، والملبس، وهو ما رفضت الإذعان إليه، ثم أعلنت صراحة عن كرهها لما سمى بـ(البرقع)، الذي فُرض عليها في صغرها، وكان لباسا شائعا بين النساء المصريات حينها، ورفضت ارتداءه مرة أخرى.

ارتبطت سيزا بصديقتها هدى شعراوي، التي كانت في الأصل صديقة لأمها البديلة، أكثر فأكثر، حيث أخرجتها من العزلة، ونصحتها بالاتجاه إلى العمل الأهلي، وشاركت الصديقتان في 14 مؤتمرا نسائيا دوليا، وأسستا العديد من الجمعيات النسائية في مصر.

هدى شعراوي تتوسط سيدات مصريات

 

ولكن ثورة 1919 كانت هي نقطة التحول الفعلية في علاقة «سيزا» بالمجال العام، حيث رأت في الاحتجاجات ساحة للتعبير عن غضبها وثورتها على كل الأوضاع التي تنتهك الحقوق وتهمش دور المرأة، فشاركت بحماس في المظاهرات المناهضة للاحتلال البريطاني، واشتركت في تنظيم المظاهرة النسائية الكبرى التي خرجت في 20 مارس، متوجهة إلى بيت الأمة (بيت سعد زغلول)، وحاصرتها قوات الاحتلال، لتثبت أن للمرأة صوتا وحقا مساويا للرجل، للتعبير عن شعور الانتماء للوطن، ونبذ الاحتلال، والنداء بالحرية بكل أشكالها، وهي المظاهرة التي قررت هدى شعراوي بعدها تأسيس «الاتحاد النسائي المصري»، ليكون مظلة للحركة النسائية في «مصر». وهو الاتحاد الذي تأسس في 16 مارس عام 1923، وقد أسهمت «سيزا» في تأسيسه، وترأسته «هدى شعراوي»، فيما اختيرت «سيزا نبراوي» لمنصب السكرتيرة العامة للاتحاد، ليصير هذا الاتحاد هو أول جمعية ذات توجهات نسوية واضحة في مصر. وكان بين مطالبه الرئيسة: استحداث تشريع السن الأدنى لزواج الفتاة هو عمر السادسة عشرة، والمناداة بمنع تعدد الزوجات، بالإضافة إلى اتخاذ الحكومة إجراءات من شأنها تحقيق المساواة بين الذكور والإناث في جميع مراحل التعليم.

هدى شعراوى وسيزا نبراوي مع عضوات الاتحاد النسائى المصرى في زيارة لاسطنبول للمشاركة فى أحد الأنشطة

 

ومن هنا، وجدت «سيزا» نفسها، وأثبتت بجدارة قدراتها، وتفوقها، وتميزها داخل الاتحاد النسائي، رغم صغر سنها بالنظر إلى بقية العضوات، إذ شهد العام نفسه أيضًا، مشاركة «سيزا» في مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي، الذي انعقد في «روما» في شهر مايو، إلى جانب كل من: «هدى شعراوي، ونبوية موسى»، لتصبح «سيزا» من أوائل النساء اللائي مثلن «مصر» في الخارج.

وعند عودتهما من المؤتمر، اشتركت «سيزا وهدى» في الخطوة الأجرأ التي قامت بها رائدات الحركة النسوية، وهي خلع النقاب، أو (البرقع) أمام الناس، رافضات أن تطمس هويتهن في المجتمع، حسب تعبيرهن.

وقد عهد إلى «سيزا» برئاسة تحرير الجريدة التي أنشأها هذا الاتحاد بالفرنسية، وهي جريدة (المصرية LÉgyptienne) لتكون لسان حاله في خطوة تدل على ثقة العضوات الكبيرة في سيزا، وهي الجريدة التي استمرت في الصدور حتى بداية الحرب العالمية الثانية عام 1940.

جريدة (المصرية LÉgyptienne)

 

وبعد وفاة «هدى شعراوي» في عام 1947 تولت «سيزا» رئاسة «الاتحاد النسائي المصري»، وكان من أبرز خطواتها بعد توليها هذا المنصب، تأسيس (لجنة الشابات) بالاتحاد، كما برز دورها الوطني مرة أخرى في عام 1951، بعد أن ألغى رئيس الوزراء -حينها- مصطفى النحاس باشا معاهدة 1936، فتحولت سيزا إلى العمل السياسي المباشر عن طريق الدعوة إلى الكفاح المسلح في منطقة القناة، واشتركت على رأس مظاهرة طالبت بمصادرة أموال الإنجليز، كما كانت أول من شكلت لجنة دعت إلى مقاطعة المنتجات الأجنبية، وهي اللجنة التي أحيت نشاطها بعد ذلك بسنوات عندما اندلعت حرب العدوان الثلاثي عام 1956.

لعبت سيزا نبراوي ذكلك دورًا محوريًا في تأسيس الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي الذي أنشئ في ديسمبر عام 1945، أي بعد شهور قليلة من إعلان وقف الحرب العالمية الثانية، بهدف حشد المنظمات النسوية حول العالم، من أجل إنهاء الحروب، ونشر السلام، وقد انطلق الاتحاد من مدينة «باريس» الفرنسية، قبل أن ينتقل إلى مدينة «برلين» الألمانية، بمشاركة 41 دولة حول العالم، وقد تم اختيار «سيزا» لتصبح وكيلة للاتحاد، لكنها استقالت من منصبها في وقت لاحق، احتجاجا على موقف الاتحاد غير الداعم للقضية الفلسطينية.

 

في يناير من عام 1956 صدر الدستور المصري، وقد أقر للمرة الأولى بحقوق المرأة السياسية، فيما يعد نجاحا لنضال سيزا وقريناتها، وبعد الحصول أخيرًا على هذا الحق، أقدمت ثماني سيدات على الترشح في الانتخابات التي أجريت في العام 1957، وفازت منهن سيدتان هما راوية عطية وأمينة شكري.

وقد ترشحت سيزا نبراوي نفسها عن دائرة مصر القديمة في محافظة القاهرة في مواجهة الإذاعي أحمد سعيد، وقد تحدثت عن قصة ترشحها إلى الدكتور رفعت السعيد، الذي نقلها لاحقًا في كتابه «مصر والمرأة في مواجهة التأسلم»، وقالت «اتصل بي عدد من اليساريين وطلبوا مني أن اترشح في دائرة مصر القديمة وكان لي نشاط اجتماعي واسع في هذه المنطقة، وكانت الانتخابات مهزلة، أولًا الاتحاد الاشتراكي امتلك الحق في الاعتراض علي أي مرشح، واتصلوا بي وقالوا لا يجوز أن تترشحي ضد إرادة عبد الناصر، وأجبت إجابة طائشة وقلت ولماذا يقف عبد الناصر ضد إرادتي في الترشح؟ أنا امرأة وأريد أن أثير قضايا المرأة وأن أثبت حقها في مجرد الترشح. لم يعترضوا على ترشحي ولكن حاولوا تلقيني درسًا قاسيًا، فقد حاربوني حربًا قاسية».

من ناحية أخرى طبقت سيزا على نفسها مبادئها، فبعد أن عزفت عن الزواج لفترة طويلة قبلت في النهاية بالزواج من الفنان التشكيلي مصطفى نجيب عام 1937، حين كان عمرها قد بلغ الأربعين، في الوقت الذي لم يبلغ هو فيه الرابعة والعشرين، فيما يعد تحديا أول للأعراف الاجتماعية، كما أنها أوردت ربما للمرة الأولى في التاريخ المصري حقها في تطليق نفسها، فيما سمي بحق العصمة.

استمرت سيزا في نضالها من أجل حقوق المرأة المصرية، ولم يتوقف نشاطها حتى وفاتها في 24 من فبراير في العام 1985، تاركة من خلفها قوانين تم تعديلها وحقوق تم اكتسابها، وأخرى لم تزل بعد.

عن د. هيثم الحاج علي

شاعر وناقد، أستاذ مساعد الأدب العربي الحديث والنقد بكلية الآداب جامعة حلوان. شغل سابقا العديد من المناصب في وزارة الثقافة المصرية مثل: رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرة الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية، له العديد من الكتب النقدية والإبداعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *