شهرزاد
أغرقتني الأحداث الأخيرة من الحرب على غزة، والانحياز الأعمى للغرب لصالح إسرائيل رغم جرائمها في قصف المدنيين، في مرحلة عميقة من إعادة مراجعة المصادر التي كونت بها ثقافتي وشكلت بها ذائقتي الفنية، والنسبة الأكبر منها -بعد الميراث الثقافي- الفضل يرجع فيها إلى الحضارة الغربية بالطبع؛ فكر وفلسفة وآداب وسينما، إنني غاضب من العالم الغربي الغضب كله، غضب يكاد يجعلني أشك في قيم حداثية إنسانية وسامية قد استقيتها بتعمق من نتاجهم الفكري.
لا يمكنني تجاهل قراءة ما حدث ويحدث في غزة على كونه مؤشراً خطيراً على أن الإنسان درجات، وعلى أن الدم ألوان، فيه الغالي وفيه الرخيص، مثل دمي ودمك لأنك الآن تقرأ ذلك باللغة العربية، ومن الواضح أننا نُصنف ضمن أدنى الدرجات في نظر العالم المسمى “الأول”.
أشعر بأنني خُدعت من عالم أول كاذب قادر على أن يشعرني بالعجز وقلة الحيلة بسهولة، قادر على إخراسي حتى عن الكلام أو إدانة الظلم، لأنك وإن فعلت، فستتصيدها الخوارزميات وتبكمك في جزيرة معزولة.
أشعر بأنني خُدعت من عالم أول كاذب قادر على أن يشعرني بالعجز وقلة الحيلة بسهولة، قادر على إخراسي حتى عن الكلام أو إدانة الظلم، لأنك وإن فعلت، فستتصيدها الخوارزميات وتبكمك في جزيرة معزولة. صفعتني الأحداث الأخيرة إحدى صفعات العمر والتي لن تمر بسهولة، وأتساءل: وقفت سنوات طويلة أمام شعرائهم وكتبهم وأفكارهم مبهورا من قيم العدل وحقوق الإنسان، والديموقراطية، وحرية الرأي، وفصل الدين عن السياسة، وأين هي الآن؟
أعلم قدر النفوذ الإسرائيلي في العالم، ولكني أعلم أن السبب الأهم في كل هذا الانحياز اللا إنساني لا يعود للنفوذ وحده، بل هو من استطاع أن يروي الحكاية بشكل أفضل.
إنني غاضب من العالم الغربي الغضب كله، غضب يكاد يجعلني أشك في قيم حداثية إنسانية وسامية قد استقيتها بتعمق من نتاجهم الفكري
أريد أن أروي الآن قصة بدأت أحداثها منذ 150 ألف سنة، قصة أحبها في مجال أنا مولع به وهو ما يسمى بالتاريخ الكبير، أي تاريخ البشرية. أما الحكاية والتي أتمنى من ألا يكون اختصاري وتبسيطي الأدبي لها مخلًا، هي حكاية عن جبروت الحكاية.
بدايات تافهة
على حسب التاريخ الكبير، فإننا نحن أبناء الإنسان العاقل الحديث، لم نكن الوحيدين الذين نمشي بشكل منتصب، ولنا رأس كبيرة قادرة على التفكير، كان لنا أبناء عمومة، أشباه بشر، بعضهم أقوى وأذكى منا ولكنهم لم ينجوا.
انقرض (الإنسان سولو) منذ 50 ألف سنة تقريبا، وفقدنا الإنسان شبيه الأقزام بعد أن اختفى من جزيرة فلورس قبل 12 ألف سنة تقريبا، وهلك آخر (إنسان نياندرتال) قبل 30 ألف – 24 ألف سنة تقريبا، وتركوا جميعهم خلفهم العظام المدفونة، وأدوات حجرية، وقليلا من الجينات في جينومنا دون إجابة قاطعة عن سبب وجودها في أجسامنا (هناك آراء تقول إننا ربما نكون تزاوجنا معهم)، والسؤال لماذا نجونا أنا وأنتم، نحن أبناء الإنسان العاقل، من تلك المفرمة التطورية التي هلكت أبناء عمومتنا؟ ما السر فينا؟ هل نحن من أهلكناهم في حرب تنافسنا على الموارد والهيمنة؟، هل نجونا أو انتصرنا لكوننا الأقوى والأذكى والأكثر مقاومة للبرد؟ لا، إنسان نياندرتال مثلًا كان أفضل منا في ذلك.
أسلافنا في مواجهة إنسان نياندرتال
استوطن أسلافنا العقلاء الغابرون شرق أفريقيا قبل 150 ألف سنة، كانوا يشبهوننا تمامًا في الأجسام وحجم الأدمغة، وعلى الرغم من ذلك لم يكن هناك ما يميزهم عن أبناء عمومتهم؛ كانوا ضعفاء بالمقارنة مع أشباه البشر الآخرين وبالأخص إنسان نياندرتال، ولم يكن -حتى ذلك الوقت- لدى أسلافنا ما يؤهلهم للتفوق؛ لا صفات ولا ذكاء ولم ينتجوا أدوات متطورة ولا أي أعمال متفوقة تذكر.
كانت المواجهة المسجلة الأولى بين العقلاء والنياندرتال قبل 100 ألف سنة حين هاجرت مجموعات العقلاء شمالا إلى شرق البحر المتوسط الذي كان إقليمًا يسكنه النياندرتال، وفشل أسلافنا في مشاركتهم إقليمهم وتأسيس مقر لهم هناك، وصبت المواجهة في صالح النياندرتال، ربما يكون سبب الهزيمة يعود إلى وحشية السكان الأصليين (النياندرتال)، أو لكون مناخ إقليمهم كان مختلفا وعنيفا، أو ربما تكون طفيليات محلية غير مألوفة لهم قد قضت على مسعاهم.
ومهما كان السبب فقد انسحب أسلافنا العقلاء مطأطئي الرؤوس تاركين النياندرتال سادة للشرق الأوسط.
وعلى طريقة أفلام عودة البطل المهزوم، يعود العقلاء مرة ثانية إلى ساحة المعركة، بعد 30 ألف عام تقريبا للمحاولة مرة أخرى (أي قبل حوالي 70 ألف سنة تقريبا من الآن)، حين غادرت مجموعات من العقلاء إفريقيا للمرة الثانية لمواجهة النياندرتال؛ ولكن لا ليهزمونهم هذه المرة فحسب، ولا لإجلائهم من الشرق الأوسط وسكن أراضيهم، بل لمحو إنسان نياندرتال من على وجه الأرض تمامًا!
لم يتوقف الأمر أمام البطل المهزوم قبل 30 ألف عام من مواجهته الأولى مع النياندرتال على إبادة منافسه القديم، بل في غضون فترة قصيرة جدا (بمقياس عمر الكون)، دفعنا الأنواع البشرية الأخرى إلى الانقراض، ووصل العقلاء الذين مسهم سحر ما غامض، إلى أوروبا وشرق آسيا، وانتشروا في القارات كلها.
وقبل 45 ألف سنة عبروا بطريقة أو بأخرى -لا نعرفها على وجه التحديد- عرض البحر واستقروا في أستراليا، التي كانت حتى ذلك الحين قارة لم تطأها قدم بشر قط إطلاقا من قبل. وشهدت الفترة من حوالي 70 ألف سنة خلت إلى حوالي 30 ألف سنة خلت اختراع أسلافنا للقوارب والمشاعل الزيتية والأقواس والسهام وإبر الخياطة وتفصيل الملابس للتدفئة. وتظهر في هذه الحقبة أيضا أول إشارات واضحة عن وجود الدين والتجارة والطبقية الاجتماعية.
ما الذي حدث للإنسان العاقل بين المواجهة الأولى والثانية مع إنسان النياندرتال؟ هل تدرب؟ وتدرب على ماذا؟ وعلى يد من؟ هل تسلح؟ هل مسته يد إله؟
ثورة ذهنية
يخمن العلماء أن البنية الداخلية لأدمغة هؤلاء العقلاء الذين هُزموا في المواجهة الأولى كانت على الأرجح مختلفة عما كانت لدى الذين انتصروا، والتي هي نفسها لدينا الآن، كانوا يشبهوننا لكن قدراتهم الذهنية -التعلم والتذكر والتواصل- كانت محدودة جدا، فتعليم فرد من هؤلاء العقلاء الغابرين المهزومين في المواجهة الأولى، لغتنا أو عقيدتنا، أو نظرياتنا العلمية كانت ستكون مهمة مستحيلة، كما أننا كنا سنجد في المقابل صعوبة شديدة في تعلم لغتهم.
يعتقد معظم الباحثين أن هذه الإنجازات غير المسبوقة كانت نتيجة لثورة في قدرات العقلاء الذهنية، ويتفقون على أنهم صار لديهم ذكاء وإبداع وحساسية تضاهي ما لدينا الآن، ولو كان قدر لنا أن نلتقيهم لاستطعنا تعلم لغتهم واستطاعوا تعلم لغتنا. كنا سنستطيع أن نشرح لهم كل شيء نعرفه، من روايات خالدة، ومعضلات الفيزياء الكمية، ولكان باستطاعتهم بدورهم أن يعلمونا كيف يرون العالم من وجهة نظرهم.
ما الطفرة التي حدثت في تلك الحقبة التي تقع بين مواجهتنا الأولى والثانية مع النياندرتال؟ وجعلتنا أذكى الكائنات على وجه الأرض؟ التي جعلتنا نبيد جنسا أقوى وأذكى منا، أو أكثر السيناريوهات رومانسية وأخلاقية، ما الطفرة التي جعلتنا ننجو نحن وهم لا؟
اللغة مثلا؟ كان لدى أسلافنا لغة وقت هزيمتهم الأولى، وكان للأجناس الأخرى لغة أيضا، فضلا عن أن للحيوانات لغة، والبغبغان يمكنه أن يردد بيت شعر أحفظناه إياه.
تخبرنا النظرية الأشهر والأكثر تقبلا أننا في فترة الاستعداد تلك، حدثت طفرة جينية، بالصدفة -وإلا لماذا أصابتنا الطفرة ولم تصب النياندرتال خصمنا مثلا- وغيرت التشبيك الداخلي لأدمغة العقلاء جعلتنا نفكر بطريقة غير مسبوقة ونستخدم نوعا جديدا من اللغة، نوع مختلف تمام الاختلاف عن لغتنا السابقة، ولغة الأجناس الأخرى.
مكّنت المهارات اللغوية الجديدة التي اكتسبها العقلاء الحديثون قبل حوالي سبعمائة قرن في نهاية المطاف من تبادل النمائم لساعات. وأدت المعلومات الموثوقة حول من يجب أن يؤتمن، ومن لا، إلى إمكانية توسيع المجموعات الصغيرة إلى مجموعات كبيرة، وإلى تطوير أنواع من التعاون أعقد وأمتن.
الحكاية
حدثت طفرة دماغية أدت إلى ظهور ثورة ذهنية وطرق جديدة للتفكير بين 70 ألف سنة و30 ألف سنة خلت، والتي تتمثل في لغتنا الحالية، والتي هي في فعاليتها لغة أسلافنا بعد حدوث طفرة شجرة المعرفة تلك، لغتنا الحالية مطاوعة بشكل مذهل لأننا ابتكرنا عددا محدودا من الأصوات والإشارات لتنتج في نهاية الأمر عدداً غير محدود من الجمل، ولكل جملة معنى مختلف، جعلنا ذلك نخزن، ونتبادل عدداً لا نهائياً تقريبا من المعلومات عن العالم حولنا، بل ونصفه بسهولة ويسر ومرونة، يمكن للقرد عبر أصوات محدودة للغاية أن ينذر جماعته بأن هناك أسد ولكن الإنسان الحديث يستطيع أن يخبر جماعته، أنه في أثناء وجوده بجوار النهر، عند التل العالي، أو المنخفض، رأى أسدا يسير خلف قطيع من ثيران، ويمكنه أن يحدد نوع الثيران، ثيران البيسون مثلا، ويصف حجم الأسد، والطرق التي تؤدي إلى مكان الأسد، ويمكن لعشيرته بهذه المعلومات أن يفكروا معا ويتناقشوا ما إن كان يجب عليهم أن يقتربوا من النهر ويطاردوا الأسد ويصطادوا ثيران البيسون، أم يتجنبوا المواجهة بعد تقدير الموقف. ألم تذكركم تلك الطريقة الوصفية للتواصل بشيء ما؟ نعم إنها الحكاية.
النمائم
أما النظرية الثانية فتقول إن لغتنا المتفردة تطورت كوسيلة لتبادل المعلومات عن العالم، هذا جميل ومهم، ولكن الأهم في اللغة الجديدة أنها جعلت البشر يتبادلون النمائم ويتواصلون مع بعضهم بشكل أفضل، ومع الغرباء بالفاعلية نفسها التي مع العشيرة، وشكل التعاون الاجتماعي مفتاحنا من أجل البقاء والتكاثر ويعرفون من في مجموعتهم يكره من، ومن ينام مع من، ومن هو الصادق، ومن هو المحتال.
مكّنت المهارات اللغوية الجديدة التي اكتسبها العقلاء الحديثون قبل حوالي سبعمائة قرن في نهاية المطاف من تبادل النمائم لساعات. وأدت المعلومات الموثوقة حول من يجب أن يؤتمن، ومن لا، إلى إمكانية توسيع المجموعات الصغيرة إلى مجموعات كبيرة، وإلى تطوير أنواع من التعاون أعقد وأمتن.
هل يمكن تصور مدى تعقيد وتفاهة أسباب سيطرتنا على الكون، (تبادل النمائم) بحيث يبدو كما لو أن لغتنا تطورت من أجل هذا الغرض بالذات!
يبدو أنه لا أحد يعلم جبروت الحكاية التي طورها الإنسان العاقل سوى إنسان نياندرتال -رحمهم الله- وشعب فلسطين ليكن الله في عونهم، كما أرجو من كل قلبي، ألا تأتي بعدنا أجيال لديها نفس عجزنا على سرد الحكاية.
الخيال
رغم ما تبدو عليه نتائج تبادل النمائم من معلومات حول العالم، ومعلومات من خلف ظهور بعضنا، من قوة، إلا أن هذا ليس كل شيء، هناك شيء سحري آخر، وهو ما أحدثته الطفرة لتطوير مقدرتنا على نقل المعلومات عن أشياء ليست موجودة إطلاقا، وهي إمكانية الحديث عن كل أنواع الأشياء التي لم يشاهدوها أو يلمسوها أو يشموها أبدا من قبل، أي القدرة الفريدة على الخيال، تخيل الأشياء التي لا وجود حقيقي لها، والتي أدت إلى ظهور الأساطير والخرافات والآلهة والأديان، والفن لأول مرة مع الثورة الذهنية.
منحت الأساطير الخيالية العقلاء القدرة غير المسبوقة على التعاون بمرونة في أعداد كبيرة، تحت مظلة الإيمان بحكاية موحدة (أسطورة)، والعمل بجسارة وتفان، ربما بوعود بحياة أفضل بعد الموت.
جبروت الحكاية
نحن نتربع الآن على عرش كوكب الأرض، بفضل الحكاية وحدها، أرغب في تبسيط تلك الحقبة من تاريخ البشرية في حكاية قصيرة، وأطمح ألا يكون ذلك التبسيط الحكائي طفوليًا ولو أنني لا أراه عيبًا:
كان هناك شعب انهزم أمام عدو أقوى منه، عاد من المعركة محبطا، يشعر بالعار وتضاؤل الشأن، يفكر الشعب المهزوم في الانتقام، التدريب والتسلح، يقابلهم شيخ حكيم في الغابة، يعلمهم عبر ثلاثمئة قرن النميمة، الحكاية. وبعد أن يجيد الإنسان العاقل سرد الحكاية، يجرب حظه في مواجهة عدوه للمرة الثانية، ربما يستطيع أن يسكن الشرق الأوسط ويحاول أن يتقاسمه مع النياندرتال.
لا تمكنه قوته الجديدة المتمثلة في (قوة الحكاية) من السكنى بجوار الخصم السابق القوي فحسب، بل وإبادته من على وجه الأرض والسيطرة على الكوكب كله، والآن يفكر في أن يسكن كواكب مجاورة.
يبدو أنه لا أحد يعلم جبروت الحكاية التي طورها الإنسان العاقل سوى إنسان نياندرتال -رحمهم الله- وشعب فلسطين ليكن الله في عونهم، كما أرجو من كل قلبي، ألا تأتي بعدنا أجيال لديها نفس عجزنا على سرد الحكاية.
مرجع المعلومات العلمية:
