أحدث الحكايا

إبراهيم عبد الفتاح يحكي: حكاية أيوب المصري.. الولد الذي وُلد صامتا

كل شيء حدث قبل الآن

نحن نعيد سرد الحكاية

حيث يمكننا فقط أن ننظر إليها

كما لو كانت رسالة وصلت بالخطأ

ولا يمكننا استعادتها

نهار عادي، السماء كما هي وما من شيء يدل على شيء طالما لم نطلب إليه ذلك، البرق والرعد والغيوم والرياح والأمطار بريئة من توهماتنا، وعلى كل لم تكن في صبيحة ذلك اليوم أية تفاصيل مميزة أو فارقة في تأثيرها، الطقس واضح إن لم نسيء فهمه، لا شيء في خلفية المشهد يومئ بإشارة ما، وبخاصة تلك الإشارات الملتبسة والتي اعتاد بعض الرواة الزج بها في استعراض مجاني للإيحاء بتواطؤ الطبيعة تبريرا أو تعميقا لحادث عابر، ليس هناك من شيء مميز ،اللهم سرب حمائم  تحوم حول غية أيوب.

 

في ذلك الصباح البعيد خرج الناس من كل صوب كما اعتادوا تماما في مستهل الجمعة الثانية من شهر الرحمة، كلهم طلعوا إلا أيوب، ظل على كُفره بالمناسبة وإيمانه بأن الحي أبقى من الميت، ويقينه بأن الرحمة والنور يمكنهما اختراق الزمن والمسافات.

يصعد سطوح البيت ليشاهد موكب الطالعين ويحرص أن يلتقط الصور الفوتوغرافية من زوايا مختلفة ولا يدهشه ترتيب الألوان فقد اعتاد أن يتقدمها الأسود بين مزاحمة على استحياء للمتحرش الأبيض وسرعان ما تخترقهما بهجة ألوان الصغار التي تحيط بالمشهد من كل جانب فتمنحه روح الحياة، تولد الألوان على رائحة بخور تفوح تنعش الروح فيخف أو يشف الجسد ويحلق سرب حمام وموسيقى وفرح معجونا بالسكر يطعم الأمل للصغار (رحمة ونور) على أرواح من رحلوا.

صورة مصممة بواسطة الذكاء الاصطناعي

 

ثلاثون عاماً ولم يطلع أيوب، يربي الدمع والحنين ويرسم النهارات على جدران الليالي ويتلو ما تيسر من غضبه وأحلامه، وفي العصاري يستند إلى مذياعه صديقه الحميم، نعم انزوى أيوب. لم يبرح بيته لأي سبب كان، الاستثناء الوحيد كان فترة تجنيده الإلزامي لمدة عام بالتمام والكمال وسرعان ما عاد أدراجه، وأوقف خروجه على ما تفرضه دراسته وبعض مناسبات عائلية أو خاصة طفيفة. لم يعد بمقدوره تعاطي الحياة، اكتفى فقط بمباشرة هوايته في تربية الحمام، به وله ومعه صار كل شيء التربية والترقب وحلم الطيران، صار ماهرا في حفظ أنواعه وكان بلمحة عابرة يستطيع تمييزه، العبسي والكراكندي والاسترالي وسواها، يقول:

“الوليف لا يغدر ولا يتخاذل عن مد جناح العون، الوليف يهدل ولا يعض اليد التي تلقمه الحب، الوليف يلبي النداء مهما حلق في سماوات بعيدة، الوليف يمرض في البعد ويموت على غيته، الوليف بهجة التحليق وطمأنينة الإياب، الوليف قوام السرب، له ينتمي وبه يتحد ويعيش، لم أجد بين البشر من يمنحني كل هذا الفرح، فلما لا أمنحه ماتبقى من حياة”.

 

نراه طفلا، يهبط من غيته لمسكن أسرته الذي يتسع بالكاد لسبعة أشخاص، هو الأوسط بين أشقائه، البكرية حنان مخزن أسراره وأمه الثانية، أعقبها في الترتيب مهاب سر شقائه ومنغص أحلامه، المسكين الذي ولد بداء الصرع، جاء بعد ذلك مؤمن النبيل الوديع، ثم آخر العنقود، والذي ولد في أعقاب هزيمة 67 فسماه أبوه نصر، كما جرت العادة في هذه البلاد من تسمية الأشياء بغير أسمائها وربما تيمنا بالنصر.

يهبط كما صعد صامتا، يقبل رأس أبيه وكف أمه ثم ما يلبث أن ينزوي في أي ركن حتى ولو كان أسفل المكتب الكبير الذي يتوسط حجرة المكتبة والذي طالما أوقفه أبوه على بنورته ملقنا إياه خطاب عبد الناصر كما جاء بجريدة الأهرام، يناشده الحماسة بينما يصوب له أخطاء القراءة، هذا المكان الذي تعرف فيه مبكرا إلى الشوقيات والتراجيديات الكلاسيكية ومحمود حسن اسماعيل وهاشم الرفاعي ومحفوظ والعقاد والمازني وطه حسين وغيرهم، يتناول كتابا ويمكث في مكانه دون نوم حتي يستيقظ الوالد مع أذان الفجر.

طه حسين، نجيب محفوظ، توفيق الحكيم

 

“إن لبدنك عليك حق” يقول الأب وكما لو كانت الإجابة جاهزة ومعتادة. يجيب أيوب دون أن يرفع عينيه عن كتابه: “أنت من جاء بي فامنحني النوم”.

لم يكن ميلاد أيوب عاديا، فقد سبق موعده بشهرين كاملين، قطعة عجين حمراء بحجم الكف انزلقت ذات مساء من بين فخذي أمه، ولد دون ملامح تذكر، دونما صوت، في البداية ظنوه ميتا، قلبوه على كل جنب، لكزوه ووخذوه بالإبر ولم يصرخ أو يئن، وطوال سبعة أيام لم يفقدوا حيلة إلا ومارسوها حتى يتبينوا حياته من موته إلى أن تأوه أخيرا فاطمئنوا أنه بخير، صار عليه أن يبرهن على حياته واستجابته وسلامة مشاعره، سيكتب فيما بعد مطمئنا أمه عندما يقع في الحب لأول مرة.

ما لهذا البيت يغرق في الأسى، طفل غير مكتمل سبقه طفل يتملكه الصرع ويحيل حياة البيت جحيما لا يطاق، صار على الأسرة أن تتبادل نوبات مراقبة مهاب حتى لا تباغته الحالة فيقطع لسانه، صار لزاما أن نضع قطعة قماش بين فكيه كلما عاوده الصرع، ضجر البيت عن بكرة أبيه من إجراءات العلاج وما يلزمها من أشعات وتحاليل ورسم للمخ دون فائدة، ذات مساء عادت الأم من زيارة غامضة لإحدى جاراتها ونامت عاقدة العزم على مهمة جديدة.

 

ما هي إلا دقائق حتى لاح بيت الشيخ، لم يكن بيتا عاديا، بدا كما لو كان حيوانا خرافيا، دق مسعود الباب ثلاث دقات، انفتح الباب كاشفا عن صالة انتظار دائرية جدرانها سوداء تزينها بعض مخطوطات من لغة غير مفهومة وصور عدة لكافة أشكال القرابين

 

العهد

الطريق وعرة والليل ثقيل وأمنيات الأم بشفاء مهاب أكبر من أن تحجمها مخاطرة، لما لا وقد اختبرت طرقا عدة بين أطباء وعرافين، فشلت أحجبة الدجالين، استسلمت لنصيحة جارتها أم عمار وصدقت أن ابنها به مس من جن وربما تمكن منه وتلبسه، غافلت الأب وانطلقت بطفليها مهاب وأيوب، راحوا يتبعون مسعود دليلا لبيت الشيخ عامر، مدقات ودروب وسط صحراء قاحلة، صاح مسعود فجأة وهو يشير لهم بالتوقف فقد اعترض طريقهم ثعبان ضخم بدا غير نهائي تحت بقعة نور من قنديل الدليل الذي طمأنهم: لن يؤذ من لم يؤذه، ثم راح يتمتم ببعض كلمات حتى انسحب الثعبان فواصلوا المسير، ما هي إلا دقائق حتى لاح بيت الشيخ، لم يكن بيتا عاديا، بدا كما لو كان حيوانا خرافيا، دق مسعود الباب ثلاث دقات، انفتح الباب كاشفا عن صالة انتظار دائرية جدرانها سوداء تزينها بعض مخطوطات من لغة غير مفهومة وصور عدة لكافة أشكال القرابين، فرعونية كانت أم يهودية أم قبطية وإسلامية، طلب مسعود إليهم أن ينتظروا دقائق حتى يأذن لهم الشيخ، مهاب يتململ إذ يغلبه النوم، أيوب يحاول فك طلاسم اللغة على الجدران والأم تجاهد خوفها من مصير مجهول.

في حضرة الشيخ لا صوت يعلو على صوته، له الأمر والطاعة على الحضور: “مهاب محمود المصري”، نطق الاسم ثلاثيا في إشارة لعلمه ببواطن الأمور وأضاف: “أما أيوب فشأن آخر، يفكر في المغادرة قبل الحضور، لهذا جلس في أقرب ما يكون إلى الباب، إيمانه ضعيف ودربه عسير. ما علينا سيدرك كل شيء في حينه”.

أشار لمهاب أن يقترب، فرك بيديه المستكة والبخور ونفخ في موقد النار الذي أمامه فارتفعت ألسنة اللهب مخلفة دخانا كثيفا وراح بين هنيهة وأخرى يضيف بعض البخور ويطلب لمهاب أن يستنشق الدخان حتى اختنق صوته فسعل طويلا وانهمرت الدموع من عينيه، تغير لون بشرته إلى زرقة داكنة، صفق الشيخ ثلاث مرات فناوله مساعده القزم عصا غليظة قلب بها النار قبل أن يهمي بها علي جسد مهاب بينما الوجوم يكتسي ملامح الجميع.

 

فرك بيديه المستكة والبخور ونفخ في موقد النار الذي أمامه

 

نطق مهاب بغير صوته: اتركني لحالي، فصفعه الشيخ بقوة على وجهه هذه المرة حتى كاد يسقط على الموقد لولا أن جذبه القزم من الخلف وسرعان ما قيد يديه خلف ظهره، انخلع  قلب الأم وهي تكتم صرخة كادت تنفجر وانفتحت عينا أيوب قوسين من دهشة، فربت على رأسه مسعود الذي لم يحرك ساكنا، توالت صفعات الشيخ عل وجه مهاب الذي استغاث: “ارحمني أكاد أموت”.

“لا رحمة قبل أن تغادر جسد المسكين بلا رجعة”. أجاب الشيخ وأكمل: “مالك به؟ جسده نحيل وبه علة اتركه الآن وإلا قتلتك”.

يهذي مهاب متلعثما بعبارات غير مفهومة وربما من أثر شهقاته في محاولة التقاط أنفاسه، أخذ صدره يعلو ويهبط، جف حلقه، أشار لدورق الماء لكن الشيخ عاجله: “لن أرو ظمأك حتى تخرج بسلام”. واصل مهاب بجملة مرتبكة لم يتبينها أحد، سكب الشيخ بعض الماء على موقد النار فهبطت قليلا قبل أن تنطفئ تماما بينما تأكل النار صدر الأم فبادرت: “ماذا يقول؟”.

أجابها الشيخ: “يريد أن يخرج من أنفه”، لطمت خديها فطمأنها الشيخ: “سنتركه لجلسة قادمة”. ثم دون في ورقة صغيرة بعض أشياء، هذه طلباته فلا تأتي دونها، همت وهي تحاول أن تساعد مهاب على النهوض لكن الشيخ أمرها أن تبقى قليلا حتى يقيد ولديها بالعهد، لم تكن تملك رفاهية الرفض فانصاعت، وبعد أن فرغ من تلاوة العهد على مهاب أشار لأيوب أن يقترب لكن الصغير اعترض بحدة تكبر عمره: “أقبل بشرط”، ضحك الشيخ ساخرا: “أمرك يا صغير”، قال أيوب: “أن تلعب معي الحجلة”، أجابه الشيخ: “هذا لعب لا يليق بالكبار”.

“لا يليق بالصغار أيضا تحمل وزر العهد”، أجابه أيوب وهو يطلق ساقيه للريح بينما جرى في أثره القزم الذي عاد غارقا في عرقه دون أن يمسك به. كانت الأم قد حملت مهاب على كتفها وانصرفت حتى عثرت على أيوب الذي كان ينتظرها خلف شجرة تقطع الطريق بين صحراء مصر القديمة وسور مجرى العيون.

 

حتى عندما أحرق دفتر أشعاره الوحيد سكت أيوب واكتفى بنظم قصيدة فصيحة بدد فيها غضبته: احرق لو أردت جميع شعري فأنك لن تستطيع أن تحرق لساني،

 

كيف أنسى أنه استطاع وحده مقاومة وهزيمة خمس أولاد يكبرونه

 

ابن جن

“قال جن قال”، همس أيوب وأضاف: “مهاب نفسه جني ابن جن، كيف أنسى أنه استطاع وحده مقاومة وهزيمة خمس أولاد يكبرونه، حتى أني عندما حاولت مساعدته أصابني أحدهم في رأسي فأقسم مهاب أن يهشم رأسه، لولا أن ظهرت حبيبته سلوى فنهته وهي تخبره أن يرفع يديه عن شقيقها، نهض مهاب تاركا الولد بعد أن اعتذر لها وهم منصرفا بثقة مفرطة فرحت أغطي ظهره خشية أن يهاجمه أحدهم، لكنهم تسمروا في أماكنهم”.

أدرك مهاب أن لديه سلطة يمكنه استثمارها كلما احتاج إليها، فليس على المريض حرج، كانت حالة الصرع هي المنقذ له ولزملاء فصله الدراسي أحيانا، كان يتقنها لدرجة لا تترك لأحد أن يساوره شك في افتعالها، ربما لهذا عزف أيوب عن تعنيفه كلما تعرض للأذى.

أيوب الذي اعتاد أن يخدم نفسه ترفقا بكاهل الأم، فكان يغسل ثيابه بنفسه، وأحيانا تساعده الكبيرة حنان، في كل يوم ينتقي طاقما يغسله وينشره ومن ثم ينام، ينتظره مهاب حتى يجف الغسيل، يلمه ويقوم بكيه ثم ينام به نكاية في شقيقه، حتى عندما أحرق دفتر أشعاره الوحيد سكت أيوب واكتفى بنظم قصيدة فصيحة بدد فيها غضبته: “احرق لو أردت جميع شعري فإنك لن تستطيع أن تحرق لساني”.

نام أيوب تلك الليلة يعتريه الكمد بروح قلقة وبدن يغلي وكمن فقد أبناءه. لم يستطع أن يرتاح على أي جنب لكنه تدرب فيما بعد على حفظ أشعاره دون تدوينها، كان يستطيع حفظ مسرحية كاملة، وراح كلما استبد به وجع الكتابة يترك كل شيء ويمشي حتى ينتهي من كتابتها في باله، كلما مشي عرف وكلما عرف ازداد نهمه وانفتحت شهيته.

فقد أقارب كثيرين كان أولهم عثمان ابن خاله صبيح، والذي خطفه الموت قبيل نجاحه بتفوق بالشهادة الابتدائية، فبدأ عهده بالفقد، فقد أصدقاء وصديقات عديدين بعضهم غيبه السفر إلى بلاد بعيدة والبعض الآخر غيبه الموت المباغت، ربما لهذا انتهج فلسفة خاصة في التعامل مع الموتى فكان لايحضر جنازاتهم ولا يلتزم بواجب العزاء في أحدهم، يقول: سأحتفظ بآخر صورهم الحية، وبقي ينتظرهم قادمين من أي وجهة.

 

استمع هناك لأول مرة للشيخ إمام، وقرأ دواوين أحمد فؤاد نجم وأمل دنقل وتعرف إلى بعض رموز اليسار، قرأ رأس المال وماتيسر من الأدب الروسي، عرف نيرودا ومالارميه وبريخت ونجيب سرور، وتفتح وعيه على الدور الاجتماعي للشعر

 

مجنون

في سبيل الكتابة ضحى بكل شيء، حتى حبيبته عزة صرخ فيها ذات لقاء: “كلام كلام كلام ابقي صامتة”. تركته بعد أن صرخت بدورها: “مجنون”.

صارت الكتابة تأخذه من الأهل والأصدقاء والنوم والطعام، يقول: “لم تعد سوى الكتابة، فعل الخلق وحضور الأشياء محنية على ركبتيها أمامي، مسيجة بسوار الحلم وبالخرز الملون”.

ترك رفقة النواصي ومايشغلهم من تفاهات، تعرف إلى أصدقاء جدد يشاركونه ميوله بينهم رفقي سعد ابن حلاق الحي، والذي يهوى الغناء، ثم صلاح شكري الذي ورث كتابة الزجل عن أبيه، ونزيه عسكر صاحب الصوت العريض والذي يعمل بإحدى شركات البترول، ثم علوي سليمان مدرس التاريخ وصاحب الموهبة النادرة في العزف والتلحين والذي جعل من بيته صومعة يلتقون بها نهاية كل أسبوع. علوى سليمان الذي اضطر للعمل خلف أشهر راقصات شارع الهرم آنذاك بحثا عن مورد إضافي يعينه في تحمل نفقات أسرته.

وفي صومعته، التقى أيوب بيحيى البلك الذي عرفه بدوره إلى آل البلك وبيتهم العامر بالكتب والموسيقى، استمع هناك لأول مرة للشيخ إمام، وقرأ دواوين أحمد فؤاد نجم وأمل دنقل وتعرف إلى بعض رموز اليسار، قرأ رأس المال وماتيسر من الأدب الروسي، عرف نيرودا ومالارميه وبريخت ونجيب سرور، وتفتح وعيه على الدور الاجتماعي للشعر فتغيرت قصيدته من الفصاحة الرصينة إلى العامية الدارجة التي تمشي بين الناس وتحتك بأكتافهم وتشتم عرقهم، هبط من تحليقه بين النجوم إلى الأرض وماعليها.

 

أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام

 

يُتبع..

عن إبراهيم عبد الفتاح

شاعر ومؤلف مسرحي، درس الفلسفة، كتب العديد من كلمات الأغاني لأصوات مصرية وعربية ومقدمات العديد من المسلسلات وأغاني الأفلام والأوبريتات. رئيس تحرير "أصوات أدبية".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *