شهرزاد
انقضت الدورة الرابعة والسبعون من مهرجان برلين. دورة أقيمت في ظروف بالغة الحساسية، سواء على المستوى الإداري بكونها الدورة الأخيرة للثنائي الإداري كارلو شاتريان وماريته ريزينبيك، بحضور المديرة الجديدة الأمريكية تريشيا توتل، أو على المستوى السياسي بإقامتها وسط عالم مشتعل، ورأي عام ألماني منقسم حول موقف الدولة من الوضع في الشرق الأوسط. ولعل الأحاديث المتعلق بتغيير إدارة المهرجان وبالسياسة طغت كثيرًا على النقاشات المعتادة حول الأفلام المعروضة.
في برليناله، يشبه النهار بعضه في كل يوم إلى حد كبير، فالكل يصحو مبكرًا إما لمشاهدة الأفلام في العروض الصحفية أو لبدء الاجتماعات التي يتكرر فيها الحديث عادة حسب غرض الشخص من الحضور. أما الأمسيات ففيها تشعر بالاختلاف، وتغدو كل ليلة ذات طابع خاص حسب قرارك بما ستفعله فيها، سواء بحضور فيلم أو حفل أو لقاء ما. وفي برليناله 74 الخاص بي، ستظل ليلتان في الذاكرة، أحاول توثيقهما في هذا المقال، ربما لأستعيدهما في المستقبل، أو للتعبير عن مشاعر خاصة حملتها كل ليلة منهما.
بعض الأشخاص أكبر من الأوصاف، فسواء كنّا منضبطين منحازين للحقائق فوصفناه بأنه المخرج والمؤلف والمنتج والمؤرخ الأمريكي صاحب الأصول الإيطالية، أو ملنا للبلاغة فقلنا إنه أحد أساطير السينما الحيّة، رجل الفن السابع الذي يتنفس أفلامًا، ليس فقط صانعًا لها وإنما عاشق يُبحر في تاريخ السينما فيرمم ويعرض ويشرح ويقدم الروائع بتمكن يفوق أي ناقد.
20 فبراير 2024.. السينما تحتفي برجلها
ربما كان الترقب لهذه الليلة أكبر مما سبق حفل الافتتاح أو الختام، كيف لا وهي الليلة التي يستضيف فيها برليناله ضيفه الأهم هذا العام، بل على الأغلب ضيفه الأهم خلال العقد الحالي بأكمله: مارتن سكورسيزي.
بعض الأشخاص أكبر من الأوصاف، فسواء كنّا منضبطين منحازين للحقائق فوصفناه بأنه المخرج والمؤلف والمنتج والمؤرخ الأمريكي صاحب الأصول الإيطالية، أو ملنا للبلاغة فقلنا إنه أحد أساطير السينما الحيّة، رجل الفن السابع الذي يتنفس أفلامًا، ليس فقط صانعًا لها وإنما عاشق يُبحر في تاريخ السينما فيرمم ويعرض ويشرح ويقدم الروائع بتمكن يفوق أي ناقد. سواء اخترنا هذا المدخل أو ذاك، سيظل ما نقول أقل بكثير من التعبير عن قيمة سكورسيزي، أو مارتي كما يدعوه الجميع.
التذاكر بيعت بالكامل بمجرد إتاحتها للجمهور، بالرغم من أن الفيلم المعروض هو فيلم قديم لسكورسيزي “الراحل The Departed” من إنتاج 2006، لكن الأهم بالتأكيد هو الساعة التي سبقت الفيلم، والتي تسلم خلالها الدب الذهبي التكريمي عن مجمل أعماله. ساعة بدأت بأوركسترا كاملة عزفت موسيقى أحدث أفلامه “قتلة قمر الوردة Killers of the Flower Moon”، ثم كلمة تقديمية من مديريّ المهرجان، قبل أن يصعد للمسرح النجم الثاني لليلة، المخرج الألماني الكبير فيم فيندرز.
قيمة التقديم
فيندرز ليس فقط أحد أهم صناع السينما الأوروبيين خلال العقود الأخيرة، ولا أحد مؤسسي الموجة الألمانية الجديدة، لكنه أيضًا صديق قديم لمارتن سكورسيزي، تمتد صداقتهما لأكثر من نصف قرن، وهو مثله فنان لم يسبقه العصر، ولا يزال في سن الثامنة والسبعين ناشطًا يُنجز أفلامًا رائعة، ويكفي أن كليهما -فيندرز وسكورسيزي- مرشحان قويّان لجوائز الأوسكار التي ستُقام بعد أيام، مارتي عن “قتلة قمر الوردة” وفيم عن الفيلم المدهش الذي صوّره في اليابان “أيام مثالية Perfect Days”.
اختيار فيم فيندرز تحديدًا لإلقاء كلمة التكريم الرسمية وتقديم المُكرم للجمهور منح الليلة قيمةً وأثرًا يصعب ألا تقع في حبه، فالرجلان تجسيد للسينما عندما تصير حياة كاملة، حافلة بالأفلام الرائعة، وبقدرة مذهلة على الاستمرار ومواكبة العصور المتتالية.
بدأ فيندرز كلمته بعرض مجموعة من الصور النادرة، التقطتها بكاميرا فوتوغرافيا شخصية في نهاية سبعينيات القرن الماضي، عندما كان وسكورسيزي مخرجان شابان بدا كلًا منهما في تحقيق نجاح دولي، والتقيا في مهرجان تيلوريد في الولايات المتحدة ليقطعا معًا رحلة طويلة في وادي مونيومينت، ومعهما ممثلة إيطالية شابة تعرف عليها مارتي للتو، اسمها إيزابيلا روسوليني، ستصير لاحقًا زوجته وشريكة حياته.
الرحلة تعطلت بسبب ثقب إطار السيارة، لتكون لحظة تمكن فيها فيندرز من التقاط مجموعة من الصور النادرة التي عرضها لتخلب ألباب الجميع بما تحمله من تلخيص لحياة سينمائية كاملة، بدأت بشباب مغامر يريد تغيير شكل الفن السابع، وتستمر حتى يومنا هذا في صورة عجوزين بقلوب شابة يحملا في جعبتهما عشرات من الأفلام المحفورة في الذاكرة.
قدر المحبة والتقدير الذي يتحدث فيندرز بهما عن صديقه مارتي، ليرد سكورسيزي بقدر مماثل من الامتنان والإعجاب بمسيرة صديقه الألماني، وكعادته بكلمات مندفعة، مرتبة، مليئة بالحكمة وبخفة الظل معًا، وبوعي موسوعي بتاريخ السينما، تكاملت مع فيديو عرضه المهرجان يضم مشاهد من الفيلموغرافيا المُعجزة التي قدمها عبر السنوات، ليمنحنا كل هذا ليلة من العمر كان من حسن الحظ أن تمكنت من حضورها حتى أتباهى بذلك ما بقي من عمري.
23 فبراير 2024.. انتفاضة كويرية
تكريم سكورسيزي كانت ليلة اجتمع عليها الكل، فمن يُمكن أن يعارض، أو حتى لا يستمتع بحضور رجله مثله؟ لكن تناغم الآراء نفسه لم يكن حاضرًا في أغلب ليالي وأنشطة المهرجان الأخرى. تحدثنا في المقال الماضي عن الانقسام حول الوضع في الشرق الأوسط، وكيف تُمثل قضية فلسطين تحديدًا موضوعًا بالغ الحساسية في ألمانيا لأسباب مفهومة للجميع، الأمر الذي جعل النبرة الرسمية للمهرجان تحاول السير على حبل رفيع من التوازن بين كل الأطراف، بصورة يُمكن القول بأنها لم ترض أيًا من الأطراف، وإن تفهموا أسبابها.
أما الأنشطة الموازية التي تقام على هامش المهرجان، فتمتلك قدرًا أكبر من الحرية في إعلان مواقف مغايرة، الأمر الذي كان من حظي أن شاهدته حيًا خلال حفل توزيع جوائز “تيدي Teddy” الثامن والثلاثين. وهي الجوائز المخصصة للأفلام التي تعالج القضايا الكويرية Queer. للتسهيل: الأفلام المتعلقة بالمثلية ومجتمع الميم، وإن كان مفهوم الكويرية أوسع من ذلك، لكن هذا ليس موضوعنا.
الجوائز التي أقيمت لأول مرة بشكل خافت في متجر للكتب في ألمانيا الغربية عام 1987، وبدأت في التوسع حتى صارت تقليدًا عريقًا. صحيح أنها تقام بشكل مستقل تمامًا عن المهرجان، لكنها تُمنح للأفلام المشاركة فيه، وتحظى بحضور يمنحها صفة الرسمية، ويكفي أن الصف الأول في مسرح فولكشبونه Volksbühne (مسرح الشعب) العريق في برلين الشرقية، جلست فيه وزيرة الثقافة الألمانية ومديرة المهرجان الحالية ومديرة المهرجان الجديدة التي ستتولى الإدارة بدءًا من الدورة المقبلة، وأمامهم جميعًا فاجأ أعضاء لجنة التحكيم الجميع ببيان يغرد خارج السرب.
البيان التضامني
كتبت لجنة التحكيم بيانًا جماعيًا، تلاه دييجو أباريتشو، مدير مهرجان “كوير ويف” في قبرص، والذي شاركه لجنة التحكيم أربعة أعضاء آخرين، منهم اثنان من العابرين جنسيًا، صاغوا معًا بيانًا قويّ النبرة لدعم فلسطين وانتقاد موقف المؤسسات الدولية (وعلى رأسها المهرجان) من القضية. بيان اللجنة جاء فيه:
“قبل المداولات النهائية بالأمس بشأن الأفلام التي شاهدناها، أمضينا جزءًا كبيرًا من الوقت في الاعتراف بأن شيئًا ما لم يكن على ما يرام. من الصعب أن نذكّر أنفسنا لماذا يحمل عملنا أو هذا الشكل الفني الذي ندافع عنه أي معنى أو أهمية، عندما لا نتمكن من إيجاد مساحة مشتركة للتنديد بشكل جماعي بالمظالم الجسيمة التي تحدث حاليًا في غزة. إن أي شكل من أشكال التحرر الكويري سيكون دائمًا ضئيلًا جدًا إذا اعتمد على اضطهاد الآخرين وإدامة الهياكل التي تدعم هذا الاضطهاد. لا أحد منا حر، حتى نكون جميعًا أحرارًا.
إن المطالبة بإنهاء الحرب لا ينبغي أن تكون أمرًا معقدًا أو مثيرًا للجدل. قبل أن نقوم بواجبنا هنا كلجنة تحكيم، ندافع عن الأفلام، علينا أولاً وقبل كل شيء واجب كبشر أن نحافظ على نزاهتنا. ومن واجبنا، نظرا لشرف تواجدنا على هذه المنصة، أن نعرب علانية عن تضامننا مع شعب فلسطين؛ وأن ندين بشكل لا لبس فيه الإبادة الجماعية المستمرة، وكل أشكال الحرب والفصل العنصري والاحتلال غير القانوني الذي أدى إلى خسارة العديد من الآلاف من الأرواح البريئة، وتشريد الملايين.
إن افتقار برليناله إلى موقف ملموس كمؤسسة قد ترك عددًا كبيرًا من الحاضرين هذا العام يشعرون بخيبة الأمل، على أقل تقدير. وهذا هو بالضبط سبب أن التصريحات والاحتجاجات والشعور بالتضامن التي جاءت من الناس المجاورين؛ المحيطين؛ أو العاملين داخل هذه المؤسسة بدت أكثر إلحاحًا وأهمية. نحن نعرب عن هذا الاعتراف هنا الليلة، ونستمد الشجاعة من أولئك الذين سبقونا -العاملين في المهرجان، وصانعي الأفلام، والناشطين، والمثليين، من جميع أنحاء العالم- على أمل أن يتم تعزيز هذا الشعور بالانتماء للمجتمع وتضخيم أصواتنا. عندما نقول هذه الكلمات: ارجعوا كل المحتجزين، حرروا فلسطين، واوقفوا إطلاق النار فورًا”.
خلال الحدث لم يمكنني إلا من التفكير في رد فعل المواطن العربي العادي عندما يسمع قصة كهذه، وهل يتعاطف مع إيمان جماعة من المثليين والمهمشين جنسيًا بأن حريتهم لا تكتمل إلا بحصول كل المظلومين على حقوقهم؟ هل سيرفض تضامنهم من بابه أم سيقبله من باب استغلال الفرصة ملقيًا تعليقًا لاذعًا على مصدر التضامن؟ الإجابة متروكة للجميع.
ردود أفعال
بيان لجنة التحكيم أربك الجميع، خاصة مع تصاعد صوت تصفيق الجمهور الداعم للكلمات، مع بضع صيحات معترضة تحاول مقاطعة الكلمة والتشويش على ملقيها، بينما حل الصمت على الوزيرة ومديرة المهرجان، ليقوم مقدم الحفل بارتباك واضح بعد انتهاء الكلمة بالتأكيد على أن اللجنة مارست حريتها في إبداء رأيها، وأن كل من في القاعة من حقه التعبير عن رأي مخالف.
غالبية الحضور كانوا معجبين بالكلمة، لكن المعترضين استمروا في الصيحات الغاضبة، الأمر الذي دفع عضوة لجنة التحكيم الممثلة الدنماركية فيك كارمن سوني أن تسبق تقديمها لجائزة بتوجيه تعليق لاذع للمعترضين قالت فيه: “أعتقد أن من الأدب عندما يتحدث شخص على المسرح ألا تقاطعوه وتخرسوا حتى ينهي كلمته”. ومرة أخرى قوبل تعليقها الساخر بالاحتفاء من النسبة الأكبر بين الحضور.
خلال الحدث لم يمكنني إلا التفكير في رد فعل المواطن العربي العادي عندما يسمع قصة كهذه، وهل يتعاطف مع إيمان جماعة من المثليين والمهمشين جنسيًا بأن حريتهم لا تكتمل إلا بحصول كل المظلومين على حقوقهم؟ هل سيرفض تضامنهم من بابه أم سيقبله من باب استغلال الفرصة ملقيًا تعليقًا لاذعًا على مصدر التضامن؟ الإجابة متروكة للجميع.
ليلة جوائز تيدي لم تكن نهاية الأحداث السياسية المشتعلة في برليناله، بل في الواقع كانت بداية لفصل جديد أكثر سخونة بدأ مع ليلة الختام، سيكون موضوع حكايتنا التالية من حكايات دورة استثنائية من برليناله.
