أحدث الحكايا

د. هيثم الحاج علي يحكي عن المصرية فيرينا: قديسة “الفلّاية”.. علمت بنات أوروبا النظافة

في لقاء ليوسف شاهين مع مذيع أجنبي، سأله المذيع كيف تتواءم مع فكرة أنك من أبناء العالم الثالث؟ فأجاب شاهين باستهجان: نحن العالم الثالث؟! لا بل أنتم العالم الثالث ونحن العالم الأول، لقد كنا هنا منذ سبعة آلاف عام، وقد صنعنا الحضارة في الوقت الذي كانت فيه أوروبا مجرد قبائل مرتحلة متناحرة، فأنا إذن العالم الأول الذي أتى بعده باقي العوالم.. أنت العالم الثالث”. وتابع “الحضارة ليست في المباني والآلات، الحضارة الحقيقية هي أن تتعلم كيفية التواصل مع الآخرين، الحضارة هي أن تتعلم كيف تحب وكيف تهتم”.

المخرج يوسف شاهين

 

حضرني ذلك الرد عندما تذكرت أن منتصف شهر سبتمبر هو عيد القديسة فيرينا، وهو العيد الذي تحتفل به بعض بلدان أوربا كل عام.

القديسة فيرينا المصرية

أيقونة للقديسة فيرنا

 

في عام 280 ميلادية ولدت فيرينا المصرية ونشأت في قوص بالقرب من مدينة طيبة، حيث نشأت في ظل الكنيسة ووهبت نفسها للخدمة الطبية حيث تعلمت التمريض، وحين صارت ممرضة ثارت إحدى بلاد الغال جنوب شرقي فرنسا، فأمر الإمبراطور دقلديانوس جيوشه أن تجرد حملة لإخماد هذه الثورة، وكانت الجيوش تصطحب معها ما يشبه الكتيبة الطبية، التي تتكون من بعض العذارى من القبطيات اللاتي كن يعددن الطعام ويقمن برعاية الجرحى وغير ذلك من الأعمال، وكانت من بين هؤلاء الممرضة الشابة فيرينا، ويعتقد الكثيرون أن القديسة فيرينا هي ابنه عم القديس موريس قائد الكتيبة الطيبية.

وبعد أن تم النصر لهم أمر دقلديانوس جنوده المسيحيين المصريين بعد النصر بشكر الآلهة الوثنية، وعندما رفضوا ما يخالف عقيدتهم المسيحية أمر بقتلهم جميعا.

لكن فيرينا هربت واستطاعت الاختباء لبعض الوقت في كهوف سويسرا، وحين اكتشفها أهالي المنطقة تعايشت معهم وقبلوها، حيث بدأت في تمريض الأهالي الذين أحبوها لعطفها، فمكثت في مكانها، وقدمت نموذجا طيبا للمحبة والسلام، حيث بدأت في تعليم الشعب الوثني المسيحية، وكما بدأت في تقديم الخدمة الطبية للمرضى منهم فقد قامت بتعليمهم أسس العلاج من الأمراض باستعمال بعض الأعشاب الطبية.

أيقونة للقديسة فيرينا

فلاية ومياه

لكن الأثر الأكبر الذي تركته حين لاحظت أن أسباب كثير من الأمراض التي تعاني منها نساء هذه البلاد أنهن لا يغتسلن إلا نادرا وذلك لأنهن لا يقمن بذلك إلا في الأنهار وهي باردة معظم الوقت، كما أنهن ينتظرن الظلام كي يستطعن الاستحمام في النهر، وأنهن مشعثات، شعرهن غير مصفف، فبدأت المصرية في تعليم بنات أوروبا حمل الماء في الجرار إلى المنازل للاستحمام بها وقتما يشاءون، ثم عرفتهن على الاختراع المصري (الفلاية الخشبية) فبدأن في تصفيف شعرهن.

وحدث أن اكتشف أحد الحكام الرومان أمرها فأمر بسجنها، ولكنها بعد مدة خرجت من السجن وعادت لما كانت تفعله قبل سجنها مع زميلاتها العذارى وكانت تسكن معهن أحد كهوف الجبال التي تنتشر في سويسرا.

تمثال للقديسة فيرينا

فيرينا التي علمتهم النظافة

وقد تُوفيت القديسة فيرينا في 14 سبتمبر سنة 344 م، وبنيت فوق جسدها كنيسة في مدينة تمبورتاخ بسويسرا، وعند منتصف الجسر المقام على نهر الراين بين سويسرا وألمانيا يوجد لها تمثال وهي تحمل جرة بها ماء، ويبلغ عدد الكنائس التي تحمل اسمها في سويسرا وحدها 70 كنيسة، وفي ألمانيا 30 كنيسة، ونحتت لها التماثيل التي تخلد حملها للفلاية المصرية، وقد اعتبرها كثير من المؤرخين أم الراهبات في أوروبا.

وقد لا يعرف كثير من المصريين أن مصرية قبطية عاشت في وسط أوروبا، وجسدها مدفون في إحدى كنائسها -يرسمون صورتها وفي يدها أبريق ماء وفي الأخرى ”المشط“ الذي تستخدمه المصريات منذ العصر الفرعوني، يرسمونها على هذا النحو تخليدا للدور الذي قامت به هذه المصرية في العناية بالمرضى في هذه المناطق- وفي تعليم أهلها النظافة، منذ أكثر من خمسة عشر قرنا.

وقد أحضر وفد سويسري إلى مصر عام 1986 جزءا من رفات القديس موريس والقديسة فيرينا وتم وضعه في كنيسm سميت باسمها في أسقفية الخدمات بالقاهرة حيث قام البابا شنودة الثالث بتدشينها في 22 فبراير عام 1994. ويتم الاحتفال بهذه الذكرى من كل عام.

أثر باق إلى الآن

لقد كنا هنا قبل أن يتعلموا، بل لقد علمناهم كيف يكون الإنسان جميلا ومحبا ومتفانيا، وليس من شك في أن الأثر الذي تركته قيمنا على العالم هو أثر جوهري وباق إلى الآن، غير أن هناك من يحاول إقناعنا ربما لظرف راهن وطارئ بعكس ذلك، لكن القيمة التي يمكن أن نراها أصيلة في تركيبنا التاريخي هي تلك القيمة التي قامت عليها الدولة المصرية منذ نشأتها، من محبة السلام ونشره، وهي القيمة الحاكمة في التاريخ المصري عبر عشرات القرون التي بقيت فيها مصر مصدر الإشعاع للعالم كله على مر التاريخ.

إنها ليست مجرد كلمات ولا تعصب للوطن، فمصر لم تعرف تلك النعرة أبدا، لكنه التاريخ المصري، الذي مجد العلم المفيد، والذي جعل من قيمة المحبة شكلا حقيقيا من أشكال الحياة، وهي ما يجب التركيز عليه الآن في ظل هذا العالم المفتوح، وذلك التاريخ الذي يحاول كتابته من ظن أن امتلاكه للحظة الحاضر مكنه من امتلاك التاريخ.

فعلموا أولادكم أننا نحن من صنع الحضارة، وامتلك بها تاريخا ليس مجرد حكايات، لكنه الجذر والأساس الذي يتحرك الواقع عليه، والذي نبني المستقبل مستندا إليه. نحن العالم الأول.

عن د. هيثم الحاج علي

شاعر وناقد، أستاذ مساعد الأدب العربي الحديث والنقد بكلية الآداب جامعة حلوان. شغل سابقا العديد من المناصب في وزارة الثقافة المصرية مثل: رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرة الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية، له العديد من الكتب النقدية والإبداعية.

4 تعليقات

  1. مقال شيق وقصة القديسة فيرينا حلوة قوي

  2. أشكرك أ ريهام
    ربما تكون هذه فرصة للدعوة إلى كتابتها روائيا أو في شكل السيناريو

  3. جميل جدا

  4. د.حنان الشرنوبي

    مقال مفيد..ونفخر أننا من العالم الاول ..نفع الله بكم معالي الأستاذ الدكتور .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *