عشنا زمنًا إذا فاتتك فيه حلقة المسلسل العربي فلن تستطيع أن تراها مرة أخرى، وكان هذا يسبب لنا أزمة مع الأعمال التي نحبها، خصوصًا في الحلقة الأخيرة من العمل.
أذكر أننا كنا نتحلق حول شاشة التليفزيون في البيوت، النوادي، المقاهي، لنتابع حلقات مسلسل “ذئاب الجبل”، وإذا لم تخني ذاكرتي فقد أذاع التليفزيون المصري الحلقة الأخيرة وقتها مرتين في يومين متتاليين بناء على طلب المشاهدين الذين ارتبطوا ببدري بدار (أحمد عبد العزيز) ورحلته للعثور على أخته وردة (سماح أنور) ليقتلها انتقامًا لشرفه لأنها تزوجت من تحبه وسافرت معه إلى خارج مصر، برغم أن والدها كان موافقًا على الزواج لكن روح القبيلة والتمسك بعصبية التقاليد الراسخة هي التي كانت توجه بدري، وكلنا نضع أيدينا على قلوبنا انتظارًا لمشهد لقاء بدري ووردة، نتخيل ما الذي سيقوله كل منهما، وهل سيقتل بدري أخته، داعين المولى عز وجل أن لا يقتلها. واستجاب الله لدعاء الملايين، ونجت وردة من القتل، لأن محمد صفاء عامر مؤلف المسلسل أنفق بذكاء مساحات كثيرة لتتبع التغيير الذي حدث في عقلية بدري وطريقة تفكيره، خصوصًا عندما ينتقل إلى بيئة مغايرة هي الإسكندرية، ويدق قلبه حبًا لإحدى بناتها الجميلات.
هذا المسلسل هو الذي رسخ نجومية أحمد عبد العزيز في التليفزيون، التي حصل عليها تدريجيًا عبر أعمال كثيرة سابقة نال بعضها مثل ما حظي به “ذئاب الجبل” أو أقل قليلًا مثل مسلسلات: المال والبنون، الوسية، مملوك في الحارة. وزاد حضور أحمد عبد العزيز بعد ذلك بأعمال كثيرة لعل أشهرها: الفرسان، من الذي لا يحب فاطمة، ملاعيب شيحة، سوق العصر، البحار مندي. وغيرها الكثير.
عبر الأعمال التي قدمها أحمد عبد العزيز تشكلت صورته لدى المشاهد، الشاب “الجدع”، الجريء، حر الرأي، المجتهد من أجل مستوى أرقى من العلم والمعرفة، المناضل، المحب لخدمة الآخرين، الوطني، الغيور على المبادئ.
كممثل؛ هل حبسه المخرجون في هذا الدور وتغاضوا عن مساحات أخرى في موهبته اكتفاء بنجاحه الساحق في تقديم هذه الشخصية؟ أثق في ذلك. وهو على أي حال ليس أول من يحدث له ذلك، كثيرون في السينما والتليفزيون نمط المخرجون والمنتجون موهبتهم فأصبحوا أصحاب الدور الواحد وإن تنوعت القصص. هل هذه الشخصية هي التي جعلت أداء أحمد عبد العزيز رجوليًا بطولي النبرات وحركة الجسد، فيثير إعجاب الكثيرين، ويضايق كثيرين حتى ليطلق عليه البعض “ملك الأفورة”، ربما لحقد جيل كامل عليه بسبب المشهد الذي يقف فيه أمام جيهان نصر وشيرين سيف النصر في مسلسل من الذي لا يحب فاطمة، وهما تنظران إليه بعشق حقيقي، كل منهما تريده لنفسها، لا يوجد شاب وقتها لم يقل له “يا ابن المحظوظة!”.
هنا لا أتحدث عن الأستاذ أحمد عبد العزيز الممثل الذي قدم عشرات المسلسلات والسهرات التلفزيونية والأفلام السينمائية والأعمال المسرحية، إنما أتحدث عن الدور الذي مثله أحمد عبد العزيز وأصبح أيقونة تشير إليه بجدارة.
ربما يجادل البعض عندما يرون المسلسلات التي تعرض في السنوات الأخيرة وهي مليئة بتجار المخدرات، والخيانات الزوجية، والبلطجية، و”التطجين” في الحديث إلخ، بأن هذا زمن الانحدار، ونمصمص الشفاه حزنًا على زمن الفن الجميل، والمسلسلات التي لم تكن فيها مثل هذه الظواهر. لكن من يعود إلى أرشيف التليفزيون، أو حتى إلى ذاكرة ما شاهده من أعمال سيكتشف أن هذه المقولة غير صحيحة.
مبدئيًا؛ لن تُصنع دراما بدون صراع، ولن يوجد صراع بدون الشرير، والشرير يملأ كل الأعمال الدرامية، يحقق انتصارات طوال الوقت، وربما يُهزم فقط في المشاهد الأخيرة. لكن الفارق الحقيقي يكمن في نقطة أخرى ربما يوضحها لنا نموذج الأستاذ أحمد عبد العزيز إذا استعدناه كصورة ذهنية لدى المشاهد تكونت من عشرات الأدوار التي أداها.
في ذئاب الجبل؛ الشرير لم يكن شخصًا بقدر ما كان الأفكار والتقاليد السيئة التي تسيطر على عقل البطل، فكان عليه القيام برحلة يرى خلالها بيئات أخرى، ويتعامل مع تقاليد مغايرة، وأفكار مختلفة، ليعيد مساءلة ما لديه من أفكار، ويتحرر من التقاليد التي عفا عليها الزمن.
في المال والبنون نجد الشر في معظم الأبطال، وكلٌ منهم يبرر لنفسه ما يمارسه من شر.
في ملاعيب شيحة نرى الشر في السلطة الغاشمة التي تهتم بمصلحتها فقط على حساب الناس العاديين.
في سوق العصر نشاهد الشر في صاحب السلطة عندما يسخّر القانون لمصلحته الشخصية، بالالتفاف حوله وظلم الآخرين.
فما الذي تغير في شر المسلسلات القديمة، وشر مسلسلات الوقت الحاضر؟
جوهريًا لم يتغير الشر، ما تغير هو الخير، وما تغير هو طريقة تقديم الشر.
كان الشر ينتصر، يحصل على السلطة والنفوذ والثروة، لكنه يُقدم كاعوجاج، استغلال لظروف سيئة يمر بها المجتمع، وتوضع تبريراته في إطار يجعلها مرفوضة لدى المشاهد، أما الخير فكان يقدم كنقيض، صاحب حق أصيل يكفله له الدين والقانون والمجتمع السليم، وبرغم أنه ينهزم في معظم الجولات بسبب سوء الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلا أنه يترسخ في ذهن المشاهد بهالة من الاحترام والعطف والرغبة في أن يكون المشاهد بجانبه، يساعده ليسترد مكانته وحقوقه، لأنه يمثل طموحات وأماني المشاهد. الحوار الراقي ذو الكلمات المنتقاة بعناية يهزم “تطجين” أشرار المسلسل على مستوى لا وعي المشاهد الذي يريد أن يتحدث أولاده مثل هؤلاء الطيبين وليس مثل هؤلاء الذين اغتنوا وتسلطوا في غفلة من الزمن.
والآن الشر ينتصر، لكنه يقدم كنموذج ربما وحيد على الجميع أن يتبعه، ولا يقدم النقيض، أو البديل المتكئ على المبادئ الثابتة التي لا تتغير. وإن قُدم البديل؛ فهو ضعيف وباهت وغير جدير بالاحترام، وربما لا ينال حتى التعاطف. الحوار المتسفل على ألسنة الأبطال/النموذج الجديد لا يقابله حوار مضاد، فيثبت في ذهن المشاهد أن هذا فقط هو المتاح، إما أن تكون معه أو لا تكون على الإطلاق.
بصرف النظر عن رأيي الثابت الذي لا أغيره أن الماضي ليس هو الزمن الجميل، لكنه الحاضر والمستقبل إن أردنا وحققنا هذه الإرداة بأفعالنا. وبصرف النظر عن موافقتي على جنوح أداء الأستاذ أحمد عبد العزيز “للأفورة” أحيانًا نظرًا لطبيعة الدور وليس لنقص في موهبته (ربما يكون أحد الأسباب هو الصورة الذهنية التي ترسم لنا المناضل عادة جهوري الصوت، حاد الطباع، مقطب الجبين، غاضب الملامح، مستعد للعراك طوال الوقت، وليس إنسانًا عاديًا يغضب ويهدأ ويتردد ويضحك ويلقي بالنكات، فتسببت هذه الصورة ليس فقط في الأداء المبالغ فيه لمعظم من يؤدون الشخصية، بل الأسوأ؛ أنها جعلت شخصية المناضل ليست “قدوة” نظن أننا قادرون على التمثل بها، بل “فرجة” لأنه يستحيل أن نكون مثلها بما إنها مفارقة وفوق إنسانية)
أعلن؛ بكامل قواي التليفزيونية كمشاهد عتيد منذ الطفولة حتى الآن، أنني أحب الأستاذ أحمد عبد العزيز كفكرة جديرة بالاحترام قدمها عشرات المؤلفين والمخرجين عبر عشرات الأعمال الجديرة بالمشاهدة.
مسلسل “ذئاب الجبل” قدم صورة صادقة لمجتمعنا فى الصعيد حتى اللهجة صحيحة والجميع هنا بعد المسلسل أطلق اسم البدرى على اولاده
وحزنا جدا على موت ياسين وكنا نريد أن نرى انتقام البدرى من علوان ولكن كان للقدر كلمته
شكرا لك على هذا المقالة الممتع
شكرا جزيلا
جميل، أحمد عبد العزيز رمز للقيمة للثبات على المبدأ مهما كانت الإغراءات، رمز للقوة والصلابة والعزة والرجولة، لذلك أحببناه ربما لقوته أو لشعورنا نحن بالضعف
حفظك الله
رائحة الحنين وذكريات الماضي تنبع من المقال والصور …سلمت يداك أستاذنا الكبير 🌿
شكرا جزيلا
بوركت أستاذ منير. الفكرة التي تطرحها في المقال عن تناول مفهوم الخير والشر والبطل التراجيدي والملحمي عبر الزمن، فكرة رائعة وجديرة بالاحترام. واتفق معكم في أن الزمن الجميل لا يتعلق بالماضي ولا بحقبة معينة بل نحن من نصنع الجمال ونحن من نسميه جميلا وإن لم يكن كذلك.
أما الاستاذ الرائع أحمد عبد العزيز فلي تعليق من عدة نقاط. فرغم انحصاره في دور البطل الشهم الا انه لم يخذلنا يوما في براعة الأداء المتلون الذي لم يصبنا بالملل بل ننتظره كمتنفس لنا في كل نرة. كذلك فكرة “الأفورة” لم تكن كذلك في وقتها، وقت ان كان الزعيم لابد ان يكون جهوريا حتى خطيب المسجد. فهي طريقة من الأداء بنت فترتها وكانت منطقية وقتها. وبالنسبه لدور الشر في ذئاب الجبل، فكان لعبد الله غيث أما بدري فكان رمز للتشدد والانغلاق وليس الشر.
كل التحية لما تقدمه حضرتك من موضوعات تحرك الماء الراكد وتجعلنا نعمل العقل باستمرار. كل التحية والتقدير والاحترام لحضرتك
ألف شكر
ونحن أيضا نحب الفنان أحمد عبد العزيز.. فارس أحلام بنات جيلي .. مقال ممتاز كالعادة كاتبنا الكبير.
شكرا جزيلا
مقال ماتع ومهم ولكن دعنى اختلف معك في نقطتين جوهريتين ان هناك عوامل كثيرة جدا جعلت الماضى اكثر سحرا وجمالا وخيالا ، وهو ان في الماضى كانت المشاعر البكر تسير في طرق اكثر براءة لتنقلها الى مستقرها الاخر عند المشاهد ، كانت احلام الناس بسيطة وامانيهم ابسط ولم تطغ المادية بكل اسلحتها بل كان تاثيرها محدود جدا فكانت الحياة افضل بكثير بدون ذلك التأثيير المقيت للعولمة وادواتها والحداثة بفجاجتها والمنفعية باثارها المدمرة ، الامر الثاني هو رايك في افورة احمد عبد العزيز هذا الممثل الفارس الذي قدمه يوسف شاهين لاول مرة في دور حماسي في فيلم وداعا بونابرت قادما من المسرح ودراسته والتي اعطت الزخم والقدرات الطاغية للعظماء الفن في مصر وهي مدرسة تختلف كل الاختلاف عن مدارس السينما والتلفزيون ، وذلك الخلط بين ممثل مسرحي تلقى دروسا في الالقاء والتاثير الصوتي واتقان فن المونولوج يختلف تماما عن تكنيك السينما والفيديو ، لذلك لست معك ان في اداء الفنان احمد عبد العزيز افورة اذا ما قورنت باداء عبد الله غيث وحمدي غيث ويوسف وهبي ، الرجل في عصرهم كان رجلا مهابا بصوته وكاريزمته المتباينة والمتناغمة ، ولو كان احمد عبد العزيز يمثل من فوقية بشيء من الطغيان الزائد ما نجح في الوصول الي قلوب الناس ، واذكرك بمشهد النهاية في مسلسل الفرسان وهو مشهد قدير بامتياز ابدع فيه احمد عبد العزيز مع جمال عبد الناصر ابداعا فائقا ..ولكن وللاسف هذا العصر بمعطياته ليس عصر الفرسان واحمد عبد العزيز وعبد الله غيث وغيرهم كانوا فرسانا في المسرح والسينما والتلفزيون ..وشكرا لكم على مقالكم الجميل رغم اختلافي معه ..
بوركت يا دكتور
مقال هام جميل، خاصة وأنه يذكرنا بأعمال درامية حفرت تاريخها في الدراما المصرية، كما في ذاكرة المصريين وقلوبهم. ورأيي أن حالة الأفورة في التعبير التي وصفها الأستاذ منير في تمثيل الفنان أحمد، إنما ترجع إلى تأثره بعالم المسرح، حيث أنه وحسب علمي فإن الفنان أستاذ أيضا في الفنون المسرحية، وهو مخرج له أعماله الجديدة والقيمة فيه. كل الشكر للكاتب المبدع منير عتيبة على هذه اللمحات الذكية عبر مقاله المهم.
ألف شكر
الحقيقة مقال متميز رجعتنا الى ايام زمان الجميلة كانت المسلسلات المصرية ونجومها وتقديمهم المتميز يغري المتلقي وفعلا الافكار تختلف من زمان الى وقتنا الحاضر .ويبقى الفن له دور حقيقي في اعادة قراءة الزمن وافعال الشخصيات من خلال مانعيشه ،اي يعطينا دفعة قوية الى اعادة قراءة واقعنا فااشر لن يتغير لكنه لن يطول..ولازلنا الى الان نرجع ونتابع لأحمد العزيز مسلسلاته وحتى للفنانين الاخرين امثال محمود عبد العزيز وغير هم شكرا لك استاذ منير .
ألف شكر
مقال فوق الرائع واختيار موفق لفنان مبدع واعمال لا نستطيع نسيانها
موفق دائما يا أستاذنا
شكرا جزيلا
ذكريات لا ننساها مع نجوم تفاعلنا معهم في مسلسل الساعة ٧
ومنها ما تعلمنا منه التاريخ والسيرة
شكرا جزيلا صديقي المبدع المتألق أستاذ منير عُتيبة
تمتعنا بمقالاتك الثرية
تسلم يا رب
دام نبض القلم المتجدد المبدع
ربنا يحفظك
تسلمي يا رب
عرض نقدي پانورامي ممتاز لأبرز المحطات في مسيرة ممثل قدير. شكرا جزيلا يا صديقي
تسلم يا صديقي
أحمد عبدالعزيز يمثل فى ذاكرتى الزمن الجميل_ رغم انك لاتحبذ هذا التعبير- يمثل جيلا كاملا بمعتقداته وافكاره والدراما الخاصة به ..مجرد رؤية لقطة من هذه المسلسلات يجعلنى انتقل بالزمن لأيام كانت طيبة وبسيطة والدنيا كانت اكثر تسامحا ..ربما لا اتحمس كثيرا لموهبة احمد عبدالعزيز لكن شكرا لك على هذه الرحلة التى اعادت لنا هذه الاجواء التى نحمل لها ذكريات شبابنا واهلنا الذين رحلوا وماضينا وتاريخنا
حفظك الله
شكرا شكرا