”أنتَ شَاعِرٌ.. مَرحبًا بكَ في الجَحِيمِ”. هكذا ردَّ عليه أبوه بعد قراءة أول قصيدة كتبها وأرسلها إليه عبر البريد وهو في الرابعة عشرة من عمره.
هل يحدث بأن تلد نفسك مرَّةً أُخرى؟ أن تُنجب طِفلًا يُشبهك تمامًا في كل شيء حتى في الموهبة والموت؟ أن تتشابه الظروف إلى درجة التطابق؟ هذا ما حدث مع الشَّاعر الأمريكي فرانز رايت ابن الشَّاعر الأمريكي الشهير چيمس رايت، فالشَّاعران حازا جائزة البوليتزر عن فئة الشِّعر، وكلاهما مات إثر إصابته بمرض السرطان، حتَّى إدمانهما للكحول تشابها فيه، وكذلك شعورهما بالوحدة والاكتئاب والعُزلة والرَّغبة في الانتحار، ولكن لكلٍّ منهما ظروفه الخاصة التي أدت به إلى ذلك.
شاعر مكسور
عانى فرانز رايت من انفصال أبيه عن أمه وهو طفلٌ في الثَّامنة من عمره، طفل لم يفهم بعد ما البُعد والفراق، فراق أب عن بيته وابنه الذي وُلد والشِّعر في دمه، ذلك الانفصال الذي جعل منه ”شخصًا مكسورًا” كما قال فرانز في أحد لقاءاته مع الصحفيين، ولم تكتفِ الحياة بتلك الصفعة بل وتزوجت أمه بعد انفصالها عن أبيه برجلٍ كان يسيء التعامل معه ومع أخيه مارشال.
كيف ينمو الشِّعر في جو يملؤه الألم والخوف؟ وهل الموهبة تملك القوة الكافية لأن تفرض سيطرتها وسطوتها على كل هذه الظروف؟ هل سينقذُه شعره وموهبته، وهل سينقذُه والده من براثن زوج الأم؟ هل الكتابةُ والشِّعر يشفيان من الألم؟
في كتابي ”ثقب المفتاح لا يرى: عشرون شاعرة أمريكية حائزات على جائزتي نوبل وبوليتزر” عن بيت الحكمة، القاهرة ٢٠٢٤، عرضتُ فيه حياة شاعرات أمريكيات متحققات في مجتمعهن الثقافي الأمريكي مثل سيلفيا بلاث وآن سيكستون وسارة تيسيديل اللاتي نلن أكبر الجوائز الأدبية الأمريكية مثل البوليتزر وغيرها ولكن فشلهن في الحب لا يشفع لهن نجاحهن وتميزهن في الحياة الأدبية، وانتحرن، لذلك كتبت بأن الكتابة في تلك الحالة لم تُشْفِ، لم تشفِ جراحهن وآلامهن من الحب وفشل القلم أمام جراح القلب الذي نزف الكثير أمام أوراقهن وسطورهن الشعرية التي أسرت العالم بشفافيتها وصدقها وحجم آلامها.
هل سيفلت فرانز رايت من حفرة الاكتئاب والانتحار وسيعبر بقلبه المحطَّم إلى بر الأمان والشعر؟ كل تلك الأسئلة سيجيب عنها فرانز رايت بطريقته الخاصة.
على طريقة فرانز رايت
وُلِدَ الشَّاعر فرانز رايت في ڤيينا بالنمسا حيث كان والده يدرس في منحة فولبرايت في عام ١٩٥٣، أما والده فهو الشاعر والأكاديمي الأمريكي الشهير چيمس رايت، والأم أمريكية اسمها ليبرتي كوفاكس ابنة مهاجريْن يونانيين والتي كانت تعمل ممرضة وأصبحت مؤلفة ومُعالجة نفسية بعد ذلك. ولكن زواجهما لم ينجح وأدَّى إلى الانفصال فيما بعد.
عاني الأب من إدمان الكحول والاكتئاب واضطراب ثنائي القطب. تعرَّف فرانز من خلال والده بمشاهير الأدب كالشاعريْن الأمريكيين ثيودور ورثك (١٩٠٨–١٩٦٣) وروبرت بلاي (١٩٢٦–٢٠٢١) والكاتب الأمريكي سول بيلو (١٩١٥–٢٠٠٥).
وبعد إكمال فرانز المرحلة الثانوية في كاليفورنيا، تخرج في كلية أوبرلين بأوهايو عام ١٩٧٧، وسبق التخرج بنشر أول كتابٍ له في الشعر عام ١٩٧٦. عمل مدرسا في كلية أيمرسون ببوسطن من عام ١٩٨٤ إلى عام ١٩٨٩، وفُصل بعد ذلك لسلوكه المضطرب، وحصل على منحٍ دراسيةٍ كثيرة واستمر في الكتابة حتى مع تفاقم مشكلاته النفسية وإدمانه للكحول.
شاعر ومستشار للمدمنين!
درَّس فرانز الشعر في جامعات مختلفة وعمل في عيادات الصحة النفسية، وعمل مستشارا للمدمنين والأطفال المضطربين. وفي مقابلة أجراها مع إذاعة “إن بي آر” عام ٢٠٠٤، قال: ”إنها الطريقة الوحيدة التي استطعت من خلالها الهروب من الإشفاق على نفسي، ومن فكرة أنني أعاني من نوع من دمار خاص”، حتى إنه قال في إحدى المقابلات إنه مر بفترة اضطرابات عقلية واستمر فيها مدة عامين في الأربعينيات من عمره ولم يكن حينها قادرًا على الكتابة، وقال أيضا في حوار أجرته معه نيويورك تايمز عام ٢٠٠٤: ”لم أفكر إلَّا في الانتحار حتَّى في النوم”.
وفي عام ١٩٩٩، تزوج رايت المترجمة الأمريكية التي كانت طالبته السابقة إليزابيث أوهلكرز ودخل في برنامج علاجي وتوقف عن الشرب وتعاطي المخدرات في العام نفسه وحدثت له صحوة دينية بعد ذلك كما قال الساعة الواحدة ظهرًا في اليوم الثالث عشر من سبتمبرعام ١٩٩٩، وتحول بعدها فورًا إلى الكاثوليكية الرومانية. وبدأ بعد ذلك فترة إنتاجية أدبية نشطة.
كما قال فرانز من قبل إنه في بعض الأحيان تظهر له القصائد وهي مكتملة في ذهنه، كل ما عليه هو أن يكتبها. وقالت والدته: إن رايت كان بصدد العمل على كتابٍ آخر من الشعر قبل وفاته بفترةٍ وجيزةٍ.
ومن أهم أعمال فرانز رايت: كتاب ”فندق ويلينج” عام ٢٠٠٩، ”قصائد قديمة” عام ٢٠٠٧، ”صمت الله” عام ٢٠٠٦، السير إلى مارثا فينيارد و”الحياة السَّابقة” و”عالم الليل وكلمة الليل” عام ١٩٩٣، و”مُلحق آخر الليل” عام ١٩٩٠، كما أنه ترجم قصائد للشَّاعر الفرنسي رينيه شار (١٩٠٧–١٩٨٨) والمؤلف السويسري إريكابيدريتي (١٩٣٠–٢٠٢٢) والشَّاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه (١٨٧٥–١٩٢٦).
وقد حاز فرانز العديد من الجوائز والمنح الكبرى في الشعر كمنحة مؤسسة الفنون الوطنية الأمريكية (١٩٨٥–١٩٩٢) ومنحة جوجنهايم (١٩٨٩)، وجائزة وايتيتنج عام ١٩٩١، وجائزة بين/فولكر عام ١٩٩٦، وجائزة البوليتزر عام ٢٠٠٤ عن مجموعته الشعرية ”السير إلى مارثا فينيارد”.
تعكس قصائد فرانز رايت مدى صعوبة الصدمات التي تلقاها منذ طفولته وكيف يتضاعف الألم عندما يأتي من علاقات قريبة كان من المفترض أن تكون مصدر الأمان والحب والرعاية، وأن أثر الوجع النَّاتج عن تلك العلاقات يستمر إلى الأبد ويظهر أثرها في الكتابة والإدمان والاكتئاب والاضطرابات السلوكية، التي منعته من الكتابة تماما مدة عامين كاملين وأجهضت أفكاره حتى محتها من عقله تماما حتى أصبح شاعرا بلا شعر.
أعظم شاعر معاصر
تبدو قصائد فرانز رايت كأنه يتحدث إلى نفسه، يصارع القضايا الكبرى مثل الموت والإيمان والحب، وفي ذلك يشبه سابقيه من الشعراء الأمريكيين مثل رالف والدو إيمرسون (١٨٠٣–١٨٨٢)، ووالاس ستيفينس (١٨٧٩–١٩٥٥)، وكما أشارت مجلة “بوستن ريڤيو “عن شعره: ”يعد شعر فرانز رايت من أكثر الأشياء صدقًا وإنسانيةً ومثيرًة للشفقة التي تُكتَب اليوم”. يمتلىء شعر فرانز رايت بالمعاناة والشك والرغبة ويعبر عن تلك المشاعر بأسلوبٍ مجرد من المبالغة، صارم ومُفعم بالأمل في الوقت نفسه.
والقراءة المتمعنة في شعر فرانز واعترافاته الصريحة الدائمة خصوصا حول الاحتياج والفشل، يضعه في خانة الشعراء الاعترافيين مثل أقرانه وقريناته من الشعراء الأمريكيين والشاعرات الأمريكيات: سارة تيسيديل وآن سيكستون وسيلڤيابلاث وشارون أولدز وچون بيريمان.
وقد كتب فرانز رايت أغلب قصائده في أسطرٍ قصيرةٍ غير منتظمة، وبأسلوبٍ بسيطٍ غير مزخرف، كما كان ينشر قصائده في مجلة ”نيويوركر” و”باريس ريڤيو” و”فرجينيا كوارترلي ريڤيو”.
وقد وصف النَّاقد والشَّاعر الأمريكي أنيس شيفاني (١٩٦٢) فرانز رايت بأنه ”أعظم شاعر مُعاصر” في مقالٍ له نُشرَ عام ٢٠١٣ في مجلة ”هافينجتون بوست”، وكتب أيضا بأنه ساعد في قيادة حركة ”إعادة الشعر إلى فنٍ عامٍ، شعبي وعميق في الوقت نفسه”، كما كان فرانز يقرأ قصائده مصحوبةً بخلفيةٍ موسيقية.
شاعرٌ بلا شعر!
تعكس قصائد فرانز رايت مدى صعوبة الصدمات التي تلقاها منذ طفولته وكيف يتضاعف الألم عندما يأتي من علاقات قريبة كان من المفترض أن تكون مصدر الأمان والحب والرعاية، وأن أثر الوجع النَّاتج عن تلك العلاقات يستمر إلى الأبد ويظهر أثرها في الكتابة والإدمان والاكتئاب والاضطرابات السلوكية، التي منعته من الكتابة تماما مدة عامين كاملين وأجهضت أفكاره حتى محتها من عقله تماما حتى أصبح شاعرا بلا شعر.
وعندما اخترت فرانز رايت لأترجم قصائده وأكتب عنه، كان لعدة أسباب، أولا لأنه ابن الشاعر الشهير چيمس رايت الحائز على جائزة البوليتزر في الشعر، ولأنهما الوحيدان ”كأب وابن” في المجتمع الثقافي الأمريكي يحصدان جائزة البوليتزر عن فئة الشعر، وهي مصادفة جعلتني أتوق إلى ترجمتهما والكتابة عنهما.
تشابهات واختلافات
وعندما ترجمت قصائد فرانز رايت وجدت تشابهات كثيرة بينه وبين أبيه، ليست فقط في الظروف الإنسانية والإدمان والاضطرابات السلوكية بل أيضا في أسلوب الكتابة الشعرية من حيث البساطة والسلاسة واستخدامهما للأسطر القصيرة غير المنتظمة، حتى أفكارهما برغم أنها نابعة من وجع وموت ومعاناة فإنها تنبض بالحب والأمل في أحيان كثيرة. لم أستغرق وقتًا طويلا في ترجمة قصائدهما وهذا ليس بعيبٍ في شعرهما بل بالعكس، فهما حققا أسلوب ”السهل الممتنع” فتشعر لوهلة بأنك بسهولة يمكنك كتابة قصيدة تشبه القصيدة التي تقرأها أو تترجمها لهما ولكن هيهات، قصائد بسيطة غير معقدة، تصل إلى أي متلقٍّ، لا تحتاج إلى تأويلاتٍ كثيرةٍ، وتلك سمة من سمات الشعر الاعترافي، فهو شعر واضح وصريح ومباشر، يعبر بوضوح عن المشكلة وعن الألم من دون خجل أو خوف.
وبرغم أنني أفضِّل القصائد التي تحتمل تأويلات كثيرة ورسائل مختبئة داخل السطور الشعرية فإنني أرفع القبعة دوما إلى الشاعر الاعترافي لأنه شاعر جريء مغامر حر لا يهمه شيء آخر في العالم سوى رفع صوت قلمه وإيصاله إلى الناس كأنه يقول ”ها أنا موجود أتحدث عن ألمي ولا أبالي”.
ربما هذا النوع من الشعر ”الشعر الاعترافي” لا أجده بكثرة في مجتمعاتنا الشرقية، ربما لأننا شعوب تخاف من القيل والقال ولنا من العادات والتقاليد التي تمنع من البوح سواء بوح عن حب أو حتى ألم، ولأن الكثير من الناس ينصِّب نفسه إلهًا يحكم وينزل اللعنة على من اعترف بحبه أو ألمه كأن الحب والألم يولدان من من أجل الدفن لا البوح.
ومن أجمل المصادفات التي قابلتني حتى الآن في الكتابة عن الشعراء الأمريكيين هي كتابتي عن الأب وابنه، وأن أتصفح شعر الأب والابن وأن أترجم لهما وأتعايش مع ظروفهما لبعض الوقت، وأن أجد كل هذه التشابهات التي تجمعهما.
كما لاحظت في أثناء قراءتي عن حياة الشاعرين أنهما لم يخجلا من الإفصاح عن أمراضهما النفسية ولا عن إدمانهما الكحول، على عكس ما يحدث عندنا أيضا، وهذه الجُرأة وهذا الإفصاح ربما هو جزء من تكوينهما النفسي وأيضا المجتمعي، والاعتراف بالخطأ والخطايا جزء أصيل من الإنسانية فهم يؤمنون أن الإنسان خطَّاء وليس ملاكًا لا يخطىء ولا يصح له أن يخطىء.
في المقابل لاحظت اختلافا بين الأب چيمس والابن فرانز في أن فرانز اختار عناوين قصيرة لقصائده تتكون من كلمة أو اثنتين على عكس أبيه الذي كان يختار لقصائده أحيانا عناوين تتكون من جملة طويلة، وربما في ذلك اختلاف في نوع الرسالة التي كان يريد الأب أن يوصلها لمتلقيه عن طريق اختياره عناوين طويلة لقصائده.
في حوارٍ لفرانز رايت مع الشَّاعر الأمريكي الأوكراني إيليا كامينسكي والشاعرة الأمريكية كاثرين تولر في مجلة “إيمدچ“. تحدث فرانز رايت عن بدايات كتابته للشعر وعن دور والده الفعال في الحياة الثقافية الأمريكية وتأثيره عليه. وكان السؤال الأول: ”متى عرفت لأول مرة أنك تريد أن تكتب؟ هل هناك تجربة معينة جذبتك إلى كتابة الشعر؟” قال فرانز رايت: ”عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري، كنت قارئا جيدًا ولكن لم يخطر ببالي أبدًا أن أكتب. كنت مهتمًا بأن أكون موسيقيًّا أو عالمًا، ثم حدث شيء عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري. سألني الناس هذا السؤال من قبل وأقول مثل هذه الأشياء السخيفة، ”ضربتني كالصَّاعقة” ولم يكن هذا صحيحًا.
يضيف فرانز: “كُنَّا أنا ووالدتي وزوج والدتي نذهب إلى بحيرة كلير بكاليفورنيا فوق وادي نابا، في صباح يومٍ ما استيقظت مبكرًا وشعرت بإحساسٍ غريبٍ وخرجت للسير في الفجر في بستان الجوز وجلست. استولت عليَّ تلك النشوة وبدأت في الكتابة . كتبتُ قصيدةً من سبعة أسطر وأرسلتها إلى والدي وبدأنا بالمراسلة بشأنها. اتضح لي حينها بأنني بحاجة إلى الشعور بهذا الإحساس مرَّة أُخرى ولم أشعر بشيءٍ مثل هذا من قبل، وشعرت أن هذا ما كان مفترضًا أن أقوم به، ومن ذلك اليوم لم أتوقف عن الاهتمام بهذا الإحساس بأنني مدعو لفعل هذا”.
“كان هناك شيء روحي بشأنه، كدعوة دينية. كان يجب أن تذهب كل الأشياء الأخرى. شعرت بالرعب وكنت أعتقد أنني يُمكِنُ أن أرى مستقبلي بالكامل وربما سأضطر إلى التخلِّي عن أي فكرةٍ عن الحياة العادية، ربما كانت تحقيق نبوءة لأن السبب في أنني لم أملك حياة بعد ذلك هوأنني كنت سكِّيرًا ومجنونًا ولكنني كصبي قبل مواجهة أي مشكلات مع المخدرات والمرض العقلي، شعرت أن الشعر هو ما كان مفترضًا أن أقوم به، جعلني سعيدًا بطريقة لم أكنها من قبل ولم يكن هناك تجربة أخرى تعادلها في حياتي. لقد عشت دائما من أجل هذا الإحساس، ماشعرت به عندما كتبت تلك القصيدة الأولى”.
كانت غريزتي
سُئِل فرانز رايت أيضًا: ”ما الذي جعلك تعتقد أنك بحاجة إلى التخلِّي عن الحياة العادية من أجل أن تكون شاعرًا؟ أجاب: لا أدري، كانت غريزتي، شعرت أن هناك أشخاصًا قادرين على التفاوض مع العالم بنجاح وفي الوقت نفسه يكونون فنانين، وهناك آخرون واجهوا صعوبة كبيرة في الحياة العادية، وكان هناك الكثير من الناس الذين كنتُ على دراية بشعرهم الذين لم يكونوا قادرين على القيام بأي شيء آخر سوى أن يكونوا فنانين فعاشوا حياة صعبة وحزينة. كنت أخاف أن أكون واحدًا منهم وأصبحت بالفعل، لم يكن هناك خيارٌ وبدا لي كأنه لا مفر منه”.
وفي حوارٍ آخر في مجلة “نيويوركر” لفرانز رايت مع الصحفية الأمريكية أليس كوين، سألته الصحفية ”إن كثيرا من الناس يسعون إلى أن يصبحوا شعراء بسبب تعلقهم العميق المبكر بالشعر، لكن وضعك خاص لأن والدك كان شخصية محورية بين الشعراء”.
قال فرانز رايت: ”لم يكن والدي موجودًا بعد بلوغي الثامنة من عمري. كان والداي منفصلين ووجوده كان بشكل متقطع طوال طفولتي. كان هناك الكثير من الكُتَّاب في المنزل. أساسًا كنت أعتقد أن جميع البالغين مجانين لأن الشعراء المحيطين كانوا چون بيريمان وأبي وريتشارد هوجو وأشخاصا آخرين كانوا في الواقع مدمني خمر بالفعل”.
سألته أليس عن تشابهه بوالده وقالت: ”من المثير للاهتمام أن والدك مثلك. قد كتب قصيدته الأولى عندما كان في الخامسة عشرة من عمره وأُصيب بانهيار عصبي عندما كان في السادسة عشرة”.
قال فرانز رايت: ”نعم، نحن نعرف أن هذه الأمور الوراثية حقيقية وأقول إنني في كثير من النواحي مرآة وراثية مخيفة لوالدي مما يعني أيضا أنني أشعر كأن حكم الموت مُعلق فوقي طوال الوقت. موت أبي من إثر إصابته بسرطان في اللسان في سن صغيرة نسبيًا –خمسة وخمسون عامًا– كان نتيجة تدخينه وشُربه”.
وفي حوارٍ آخر لفرانز رايت مع الصحفية الأمريكية سارة ميسير سألته: ”ما دور الجمال في القصيدة؟”
أجابها فرانز رايت: ”هذه أسئلة عامة، الجمال، ما الجميل؟ كيف تُعرِّفين الجمال؟ أفضل تعريف للجمال كان من الشاعرة الإغريقية سافو: ”يقول بعض الناس إن قطيع الخيول السوداء التي تعبر السهول جميلة، يقول آخرون إن أسطول السفن الحربية التي تُبحر من الميناء جميلة. أنا أقول إن شيئا تحبه فهو جميل”. أي شيء تحبه، هذا هو الجميل. لديك أماكن خاصة بك وأماكن أخرى مثالية، تحملها داخلك، ذكريات لأوقات كنت فيها –بالطريقة التي اعتدت أن تكونها في الطفولة– قد عشت شعورا أنك على وشك أن ترى كيف ينبغي أن تكون الأشياء بالفعل. يصبح واضحًا بعد ذلك إنها ليست كما تصورت. لكنك لا تزال تستطيع رؤية ما يجب أن يكون وما زلت تشعر بأنه من الظلم أنها ليست كذلك.. ربما يكون جزءًا منه. لا أعتقد أنه البلوغ، ذلك الضوء الذي يختفي من وجوه الأطفال عندما يبلغون إحدى عشرة سنة أو ما شابه ذلك.”
سألته سارة عن الترجمة: ”هل يمكنك التحدث عن الترجمة.. كيف تشعر تجاهها؟”
أجاب فرانز رايت: ”السعادة تبدأ بأن تجد طريقة لقراءة قصيدة بلغة أخرى بطريقة أكثر قربًا. وإذا كنت محظوظًا أنك متمكنٌ من اللغة التي كُتبت بها القصيدة، فإنها أقرب ما تكون إلى تفكيك ساعة صغيرة أو محرِّك، أو ما شابه ذلك، ووضعه مرَّةً أخرى معًا لمعرفة كيفية صنعه. لا أستطيع تخيل طريقة أبهى من شخص يجلس وحيدًا في غرفة يحاول فهم ما نتحدث عنه: قصيدة.
إحساس رائع لأنك تعلم أنه سيكون هناك حل في النهاية، عليكِ فقط الوصول إليه. إنها تذكرني بالأشكال الهندسية. إنها جميلة كما فعلت للتو للوصول إلى نقطة معينة (نقطة النهاية). إنها رائعة، طريقة رائعة بأن تطبق ذلك على حبك، لتجربه وتخوض التجربة عن قربٍ. بعد فترة، سيصير لديك دافعًا قويًا لأن تترجمها.
أنا أؤمن بأن هناك قصائد معينة تصلح للترجمة وأخرى من المستحيل ترجمتها. إنه عبث أن تفعل كذلك ولكنني سعيد بأن بعض الناس يفعلونها وغير سعيد تماما بأن هناك بعضا آخر يفعلها. فعلى سبيل المثال، يحزنني تماما أن أجيالا من البشر يعتقدون أن ترجمة ستيفن ميتشل لريلكه هي ما يبدو عليه ريلكه، وهذا يسبب لي ألما جسديا رهيبا .”
خُلقت من أجل البقاء
أتفق تماما مع فرانز في أن هناك بعض القصائد التي خُلقت من أجل البقاء في لغتها الأصلية لأنها لو تُرجمت سيصير هناك تشويه لمعنى وشكل القصيدة وربما يعطي انطباعا سيئا عن الشاعر صاحب القصيدة وأيضا المترجم، فليس هذا من صالح الشَّاعر أو المترجم لأن الضرر حينها سيقع عليهما معًا وأتفق معه في السعادة البالغة في أن تفكك قصيدة وتُقربها أكثر إلى روحك لتفهمها وتتوغل داخلها أكثرمحاولًا فهم ما يقصده الشاعر وإنها لسعادة بالغة عندما تصل إلى مخرج أو تصرُّف في جزء من قصيدة غامضة تتعدد فيها التأويلات . كلما وصفه فرانز رايت أشعر به دوما عندما أترجم فأنا أعي ما يقوله جيدا وشعرت كأن أنا التي تتحدث وليس فرانز الشَّاعر والمترجم الحصيف.
توفى فرانز رايت في عام ٢٠١٥ بمنزله في والت هام ماساشوستس بالولايات المتحدة الأمريكية إثر إصابته بسرطان في الرئة عن عمر يناهز الثاني والستين ولحق بأبيه تاركيْن إرثا شعريا لا يُنسى أرجو أن يُحتفى به ويُدرَّس في الجامعات العربية والمصرية للاستفادة من تجربتين شعريتين مختلفتين شكلًا ومضمونًا عن أقرانهما من الشعراء الأمريكيين.