أحدث الحكايا

أحمد شوقي يحكي: مهرجان كيشلوفسكي.. رحلة في جبال بولندا وتراث السينما

رحلة تتجاوز مدتها ست ساعات، في قطار يقطع الأراضي من شرق البلاد إلى غربها، مُصَمَم على النمط الروسي القديم: كبائن تجمع كل منها ستة أشخاص يجلس كل ثلاثة منهم مقابل الآخرين، لكنه قطار حديث مجهز باتصال للإنترنت ودورات مياه نظيفة، وكأنه في تصميمه وخدماته مزيج بين الماضي والحاضر، بين بواقي المعسكرين الشرقي والغربي، تمامًا مثل بولندا نفسها التي تمنح زائرها باستمرار هذا الشعور الهجين، فهي دولة غربية بروح شرقية، أو العكس.

القطار يصل لأقصى الحدود الجنوبية الغربية مع جمهورية التشيك، لكن فيليب مرافقي المُكلف من أرشيف الفيلم الوطني (FINA) يلفت انتباهي لكون المنازل في المنطقة مصممة على الطراز الألماني؛ فالمنطقة كلها كانت لزمن طويل تابعة للأراضي الألمانية، قبل أن تصبح بولندية كنتيجة للحرب العالمية الثانية. القطار يتوقف في نقطتنا الأخيرة: محطة قطار مدينة فاوبشيغ Wałbrzych، وهي بلدة صغيرة لا تتجاوز مساحتها 84 كيلومترا مربعا، لكن القطار يتوقف في ثلاث محطات داخلها: فاوبشيغ الرئيسية والمركزية والمدينة. الأمر الذي جلب بعض التعليقات الطريفة من زملاء الرحلة البولنديين.

خارج محطة القطار الصغيرة ينتظر الضيوف عددا من سيارات الأجرة التي أرسلها المهرجان، يستقل كل أربعة أشخاص سيارة تسير بهم قرابة العشرين دقيقة في طريق جبلي ضيق، تحيط به المشاهد المذهلة للغابات الخضراء والبيوت الصغيرة المتناثرة، والتي يستمر حضورها خافتًا ثم يتزايد فجأة لنعلم أننا وصلنا مقصدنا: قرية سوكووفسكو Sokołowsko التي ستصير مكان معيشتنا لمدة ثلاثة أيام (رغم أن اسم القرية يتضمن حرف L إلا أنني تعلمت أن الخط المرسوم فوقها يجعلها تنطق بصورة تقارب حرف W).

سوكووفسكو.. قرية وسط الجبال.

 

سوكووفسكو قرية حدودية صغيرة، لا يتجاوز تعداد سكانها 880 نسمة حسب الأرقام الرسمية. فما الذي يجعلها محل اهتمام ضيوف منهم من جاء من مكان بعيد جدًا اسمه مصر؟

ملعب مراهقة فنان عظيم

الإجابة هي كريشتوف كيشلوفسكي، المخرج البولندي الأشهر الذي لا يزال رغم رحيله المبكر عام 1996 وعمره لم يكمل الخامسة والخمسين، واحدًا من أكثر صناع السينما تأثيرًا خلال الربع الأخير من القرن العشرين. والذي قرر سكان قرية سوكووفسو الاحتفاء بأنه عاش يومًا بينهم، أو للدقة عاش بين آبائهم وأجدادهم. فقد عاش كيشلوفسكي في القرية عشر سنوات من طفولته ومراهقته، بين عمر العاشرة والعشرين، وتحديدًا بين عامي 1951 و1960، عندما اضطر والده أن ينتقل للقرية الجبلية المعروفة بهوائها النقي والجاف أملًا في تحسن حالة مرض الربو التي كان يعاني منها.

المخرج البولندي كريستوف كيشلوفسكي

 

المعيشة في قرية بعيدة منعزلة في أوج قوة النظام الشيوعي البولندي كان لها آثار فكرية وفنية واضحة يمكن تلمسها لمن يحلل أعمال المخرج الكبير بدقة، لكن ما يهمنا هنا ليس أثر القرية على كيشلوفسكي، وإنما أثره على القرية، التي عندما تنظر لقدر الهدوء الهائل المسيطر على شوارعها، والبيوت التي تبدو أقرب للخواء منها للسُكنى، وتفهم ممن تحدثهم أن طبيعة الأمور هي أن يترك مواليد سوكووفسكو قريتهم للدراسة أو العمل أو لأي فرصة تتاح لهم للخروج لعالم أرحب من هذه القرية النائية الصامتة، ستُدرك أن السنوات العشر التي عاشها مراهق لا يعلم إلا سيؤول مستقبله، ربما تكون هي السنوات التي بثت بعض الحياة في شرايين البلدة وجعلتها تتحول قبلة يزورها عشرات السينمائيين ولو لثلاثة أيام من كل عام.

مع أرملة كيشلوفسكي وابنته

 

لكن المدهش أن نشاط مؤسسة المهرجان، والذي يحمل اسم “تحية إلى كيشلوفسكي Hommage à Kieślowski” لا يقتصر على أيام المهرجان فحسب، بل يمتد طوال العالم من خلال مبنى المؤسسة الفنية المكون من أربعة طوابق: الطابق الأول مساحة مشتركة تضم مطبخًا وطاولة للطعام وحديقة هادئة للجلوس، الطابق الثاني يضم غرف مجهزة للسكن، وفي الطابق الرابعة ورشة فنية واسعة “أتيليه” مخصصة للرسم والفنون المختلفة. على مدار العام تستضيف المؤسسة فنانين مختلفين، رسامين ونحاتين وشعراء وروائيين، يعيشون في المبني ضمن برامج للإقامة الإبداعية التي تهدف لأن يتفرغوا وينجزوا أعمالهم، التي يُعرض بعضها على الجدران وفي زوايا المكان.

حفل افتتاح المهرجان

أهلًا بكم في الأرشيف

أما الطابق الثالث الذي لم نذكره فهو بيت القصيد، ففيه مكتب مديرة المؤسسة، ومنه تدخل إلى قدس الأقداس، أثمن مقتنيات المؤسسة وربما أثمن ما في القرية كلها: الأرشيف الشخصي لكريستوف كيشلوفسكي.

كل أوراقه مرتبة بعناية في ملفات الأرشيف

 

لم يعش كيشلوفسكي في سكووفسكو بعدما صار مخرجًا معروفًا في بولندا ثم حول العالم، لكن أرملته وابنته وافقتا على التعاون مع المؤسسة ونقل كل أوراقه الخاصة ومقتنياته إلى القرية ليضمها أرشيف خاص، قام أكاديميون بفحصه وتصنيفه وترتيبه بشكل لائق، وسرعان ما بدأ أصدقاء المخرج الراحل وزملاؤه المهنيون بالتبرع للأرشيف بمقتنيات شخصية كانت في حوزتهم ترتبط بكيشلوفسكي وأفلامه. وخلال حفل افتتاح المهرجان الذي أقيمت دورته الثالثة عشر خلال الفترة 25-27 أغسطس، قامت منسقة مناظر فيلمه الشهير “الحياة المزدوجة لفيرونيكا The Double Life of Veronique” بإهداء الأرشيف اللوحة التي كانت فيرونيكا الفرنسية تعلقها في الفيلم على جدار غرفتها، بما يوحي بأن الأرشيف آخذ في التوسع وضم مقتنيات جديدة باستمرار.

إهداء لوحة فيرونيكا إلى الأرشيف

 

لكن المدهش هو قدر الحميمية التي تتعامل بها إدارة الأرشيف مع محتواه، فهم لا يرون أنفسهم يديرون متحفًا توضع الأشياء فيه وراء جدران زجاجية كي تُعرض ولا تُلمس، وإنما الأرشيف غرضه ثقافي بالأساس، يرحب بالفحص والدراسة طالما كانت لأسباب مقنعة، ولأن سبب الرحلة الرئيسي هو أنني أعمل حاليًا على إنجاز كتاب حول عمل كيشلوفسكي الأيقوني “ديكالوج Decalogue”، المسلسل المكون من عشرة أفلام يتناول كل منها واحدة من الوصايا العشر التوراتية، فإن إدارة الأرشيف رأت أن من حقي أن أفحصه كما يحلو لي.

حرفيًا، تُركنا داخل الأرشيف أنا وزميلتي الناقدة البولندية ذات الاسم العربي عُلا سلوى، والتي لعبت دور المترجم لي طوال الرحلة، لنفتح الملفات ونفحص محتوياتها، نلتقط الصور لما نريده من الأوراق والمقتنيات، دون موظف يراقبنا أو شخص يحذرنا من اللمس أو التصوير. باختصار، لو أردنا سرقة بعض الأوراق لما انتبه أحد إلا بعد فترة قد تطول، وهي درجة من الأريحية قد تكون أكثر مما ينبغي لو أردت أن أكون صادقًا، لكنها تعكس الروح الحميمية المسيطرة على السياق كله، على القرية والمهرجان والمؤسسة والأرشيف هؤلاء قوم يقدسون كريستوف كيشلوفسكي ويثقون تلقائيًا في كل من يبدي اهتمامه به واحترامه لتراثه.

مدخل الأرشيف تزينه بوسترات أفلامه

مهرجان لإبقاء التراث

المهرجان نفسه يُدار بالروح ذاتها، فعلى العكس مما قد يتبادر إلى الذهن عندما تسمع مهرجانا يحمل عنوان “تحية إلى كيشلوفسكي” بأن المهرجان يعرض أفلامه بالأساس، فإن المفاجأة هي أن برنامج أيام المهرجان الثلاثة لا يتضمن سوى فيلمين من إخراجه: فيلم تسجيلي قصير من أعماله الأولى تم عرضه في الافتتاح مع تعليق نقدي ومناقشة مع اثنين من الفريق الذي شارك في صناعته، وآخر طويل عُرض في اليوم الثاني بعد ندوة شارك فيها مجموعة من العاملين فيه. أما باقي البرنامج فيتضمن أفلام مختلفة، طويلة وقصيرة، ونقاشات تتعلق بقضايا سينمائية وسياسية.

وجه كيشلوفسكي ونظارته الشهيرة على بوستر المهرجان

 

الغرض كما تقول المديرة الفنية للمهرجان ديانا دابروفسكا هو إبقاء تراث كيشلوفسكي حيًا، ورصد الأثر الذي تركه في صناع السينما في بولندا وفي العالم، وبالتالي فالمهرجان يعرض الأفلام التي تأثر صناعها بكيشلوفسكي، وتلك التي يرى فريق المهرجان أنها تتناول موضوعات أو أفكار كان قد يهتم بها لو أمهله القدر وعاش إلى يومنا هذا. اختيار أراه عبقريًا لسببين: الأول لأنه لو اعتمد على أفلام الرجل فقط فسرعان ما سيصير حدثًا مكررًا يصعب أن يستمر طيلة هذه السنوات، والثاني أن عرض الأفلام المعاصرة يعني أن يحضر المهرجان كل عام فنانون جدد، يأتون بأفكار طازجة وطريقة مغايرة لفهم تراث المخرج الكبير ومناقشته، بما يحقق هدف إبقاء التراث حيًا، لا يقتصر على العروض الاستعادية وأحاديث الذكريات.

عروض المهرجان في شوارع سوكووفسكو

تحية لصلاح أبو سيف.. مثلًا

لم أتمكن وسط كل هذا من الشعور ببعض الغيرة، وكثير من السخط على الطريقة المختلفة كليًا التي نتعامل بها مع ميراث مخرجينا العظماء، والتي تبددت مقتنيات بعضهم وبيعت في الأسواق، أو ظلت حبيسة أدراج الأبناء والأحفاد تُترك لتتحلل مع الزمن دون أن يستفيد منها الباحثون، ناهيك عن القائمة الكبيرة من الفنانين الكبار الذين قدموا ما يجعلهم يستحقون احتفاءً كهذا.

صلاح أبو سيف

 

فكرت في السنوات التي قضاها شاب محب للفنون اسمه صلاح أبو سيف يعمل في شركة الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، والتي تعرف خلالها على مخرج يدعى نيازي مصطفى جاء لتصوير فيلم تسجيلي عن المصانع فأعجب بثقافة الشاب وعرض عليه الانضمام للعمل في ستوديو مصر، ليصير لدينا مونتير موهوب تحول واحدًا من أهم المخرجين في تاريخ السينما العربية وأكثرهم غزارة في الإنتاج وقدرة على صنع أفلام صارت من الكلاسيكيات.

كم نسبة أهالي المحلة الكبرى الذين يعرفون أن صلاح أبو سيف عاش في مدينتهم واكتشف السينما فيها؟ أليست حكايته أمتع من حكاية الطفل الذي ذهب إلى قرية مع والده المريض ثم تركها ليدرس ويبدأ حياته المهنية بعيدًا عنها؟ أليست مدينة مليونية كالمحلة أجدر باستضافة مهرجان صغير يتعرف فيه الشباب على ماضي مدينتهم ويرتبطون فيه بالفن السابع من قرية لا يصل تعداد سكانها حتى لألف نسمة؟ لكن المنطق – للأسف – ليس من المداخل المطروقة في علاقة وطننا بتراثه السينمائي العريق.

خلال رحلة العودة إلى العاصمة وارسو بنفس الطريقة (سيارة الأجرة ثم القطار)، والتي بدت أطول وأكثر إرهاقًا وهو الفارق المعتاد بين الحماس لزيارة مكان جديد وثقل ساعات العودة، أخذت أتذكر اللحظات الممتعة التي سأحملها معي من زيارة تلك القرية البعيدة، وأتصفح صور الوثائق التي سأضمها لمحتوى الكتاب، وأفكر في عشر اقتراحات ممكنة لمهرجانات مماثلة يمكن تنظيمها لتكريم مخرجين في أماكن مختلفة في مصر.

وضعت كذلك رؤوس أقلام للمحاضرة التي ألقيتها في اليوم التالي عن تاريخ السينما المصرية في مقر أرشيف الفيلم الوطني البولندي قبل عرض فيلم “ريش” لعمر الزهيري. لأجد المفارقة جلية أمامي، تتبدى في أنني اخترت هذا الفيلم للعرض باعتباره نموذجًا للسينما المصرية المعاصرة في صورتها المتقدمة المواكبة للعصر، بينما نسيت – أو تناسيت – أن الفيلم لم يُعرض في الصالات المصرية من الأساس رغم نجاحه الدولي، بسبب تعليقات موتورة أدلى بها ممثلون لم يحمّلوا أنفسهم عناء استكمال مشاهدة الفيلم لنهايته، فوجدت التعليقات بيئة حاضنة تحولها موجة ضخمة تسببت في أن يُحرم فيلم كهذا من حقه في العرض لجمهور بلده.

عمر الزهيري وبوستر فيلم ريش

 

عندها أدركت لماذا تُنظم قرية بولندية مهرجانًا سنويًا للاحتفاء بفنان عُرف عنه منذ شبابه حس التمرد على النظم الراسخة وفساد المؤسسات، بينما يصعب أن نحلم بحدث مماثل رغم امتلاكنا كل أسباب تنظيمه.

عن أحمد شوقي

ناقد سينمائي مصري ومبرمج ومشرف سيناريو. حاليًا هو رئيس الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسى)، ورئيس جمعية نقاد السينما المصريين. ينشر مقالات أسبوعية عن السينما وصناعة الترفيه. كما أصدر ثمانية كتب متخصصة حول السينما المصرية. شوقي يشغل منصب مدير منطلق الجونة، برنامج تطوير المشروعات والإنتاج المشترك الخاص بمهرجان الجونة السينمائي. كما إنه مدير التطوير لمنطقة الشرق الأوسط بمنصة "فيو" الإلكترونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *