أحدث الحكايا

منير عتيبة يحكي: يوم تنازلت عن الجائزة (2-2)

في المقال السابق حكى الكاتب منير عتيبة حول جائزة حصل عليها ثم تنازل عنها وأوضح السبب. وفي هذا المقال يستكمل حكايته حول الجائزة الثانية التي تخلى عنها بإرادته!

لقراءة المقال السابق “يوم تنازلت عن الجائزة الأولى” اضغط هنا

حكاية الجائزة الثانية

الجائزة الثانية التي تنازلت عنها كانت في عام 2010، لكن حكايتها تبدأ قبلها بعشرات السنوات، في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي عندما كنت طالبًا في المرحلة الثانوية.

اشتريت من شارع النبي دانيال؛ شارع الكتب المستعملة بالإسكندرية، إحدى روايات الهلال، رواية قصيرة اسمها “الحاج مراد” تأليف ليو تولستوى. أنهيتها في جلسة واحدة، ولم تغادر خيالي حتى الآن، وأعتبرها أجمل ما قرأت للكاتب الروسي العظيم.

رواية الحاج مراد للكاتب الروسي ليو تولستوى

 

ترسم الرواية صورة دقيقة وإنسانية للحاج مراد أحد محاربي داغستان الكبار. كان الحاج مراد شخصية غامضة، يحارب الروس مع المقاومة، ثم يتحالف مع الروس ضد المقاومة، يقع في مواقف قد تكلفه حياته، ويخرج منها بالحيلة والقوة، لا تعرف هل تعجب به أم تكرهه، أم تفكر كم هو إنسان حقيقي بكل تناقضاته الفكرية والحركية. ويأتي تولستوى في الرواية بجملة واحدة عن “شامل”، الذي كان يقود حركة المقاومة ضد الاحتلال الروسي لداغستان، وكان عدوًا لمراد في بعض الأوقات، وحليفًا له في أوقات أخرى، حسب تقلبات مراد. كان شامل عكس مراد، فهو رجل ذو مبادئ لا يغيرها مهما تغيرت طبيعة الظروف معه أو ضده، وهو مستعد لدفع ثمن تمسكه بهذه المبادئ حتى ولو كان الثمن حياة أهله وحياته وحريته، بينما مراد يزن مواقفه وحركته تبعًا لرياح مصلحته حسب لحظته الراهنة. وهما نموذجان كانا وسيظلان موجودين دائمًا.

البطل يطاردني لسنوات!

لا أدري ما الذي جعل شامل يطاردني كل هذه السنوات، يغيب عني شهورًا وأعوامًا، ثم أتذكره لسبب أو لآخر، وأتمنى أن أكتب عنه كتابًا ما، لم أحدد طبيعته، هل هو بحث تاريخي أم عمل روائي.

حتى أعلن موقع إلكتروني سعودي اسمه “الألوكة” في عام 2009 عن مسابقة في الرواية. فقررت أن أشارك برواية لم أكتبها بعد، ولا أعرف فكرتها، لكنها ستكون عن شامل الذي زرعه تولستوى في خيالي ولم يغادره.

بدأت البحث عن شامل في كل المصادر المتاحة أمامي وقتها، على الإنترنت، في الكتب التي تناول شخصيات إسلامية، لكني وجدت نزرًا قليلًا من المعلومات، سألت بعض الأصدقاء المهتمين بالتراث الإسلامي، فلم أجد أحدًا سمع عن شامل أصلًا، قال لي الأديب السكندري رجب سعد السيد: يوسف زيدان صاحبك شغله كله في التراث، أكيد سيدلك. ذهبت إلى د. يوسف زيدان في مكتبة الإسكندرية، سألته عن أية مراجع متاحة تتحدث عن شامل. فأخبرني أن المعلومات كثيرة جدًا عن شامل باساييف، أحد المجاهدين الشيشان ضد الغزو السوفيتي. قلت له: ليس هذا ما أبحث عنه، إنني أبحث عن الإمام شامل بن ذكاو الداغستاني الإمام الثالث للطريقة النقشبندية التي كانت تسمى بالصوفية المجاهدة، الرجل الذي عاش في القرن التاسع عشر، معاصرًا لمحمد علي باشا في مصر، ودان له بالولاء.

لإمام شامل بن ذكاو الداغستاني الإمام الثالث للطريقة النقشبندية

 

خرجت من عند د. يوسف تتردد في ذهني جملة أستاذي الكاتب الإذاعي الكبير محمد بشير صفار: قليل من المعلومات أفضل للعمل الأدبي، حتى تترك لخيالك العمل كيفما يشاء، المهم أن لديك المعلومات الأساسية عن الرجل الذي تريد الكتابة عنه.

قلت لنفسي: إذا لم أكتب رواية جيدة، فسأقدم على الأقل شخصية لم يكتب عنها عمل روائي مصري، وفي مكان وزمان لم تذهب إليهما الرواية المصرية من قبل، في حدود معلوماتي.

أخذت أقرأ وأبحث لمدة ستة أشهر، عن داغستان وتاريخها، وجغرافيتها، وطبيعة أهلها، وعلاقتها بروسيا القيصرية، وبالدولة العثمانية، ومصر إلخ وفي الوقت نفسه أفكر في الشكل الفني الذي أريد أن أكتب به الرواية، وقررت في النهاية أن تكون رواية أصوات، يتحدث فيها كل من عرف شامل؛ أصدقاء وأهل وأعداء، عنه ليرسموا صورته، كلٌ من وجهة نظره، وهو نفسه لا يتحدث. واعتبرتها مغامرة فنية لكتابة رواية تاريخية بهذا الشكل، إضافة إلى مغامرة اختيار الشخصية والزمان والمكان. قلت لنفسي: “يا طابت يا اتنين عور!”.

عادة أكتب القصة في ذهني مرات كثيرة، ثم أضعها على الورق في دفقة واحدة. لكني احتجت إلى استراتيجية أخرى لكي أكتب هذه الرواية، خصوصًا أنها الرواية الثانية، يفصلها عن الرواية الأولى أكثر من عشر سنوات. فاستفدت من تمرسي بالكتابة الإذاعية والسيناريو. ووضعت خطة عامة للرواية، حددت فيها عدد الشخوص التي ستتحدث عن شامل، ووجهة نظر كل شخصية والمعلومات التي ستقدمها. ولم يبق إلا المرحلة الأسهل؛ الكتابة!

كان شهر رمضان الكريم يقترب، فلم أتعجل، أحببت أن أبدأ الرواية مع أول يوم في الشهر المعظم، لأنال بركته. وقررت أن أكتبها كاملة خلال هذا الشهر. حددت لنفسي عدد صفحات لابد من كتابتها كل يوم لمدة ستة أيام في الأسبوع، وأستريح يوم الجمعة الذي تجتمع فيه الأسرة للإفطار مع أمي. وأن أحاسب نفسي كل يوم جمعة، فإذا قصرت في إنجاز المطلوب خلال الأيام السابقة يكون علي أن أعوضها نهار الجمعة قبل الذهاب إلى منزل أمي، وإلا أعاقب نفسي بالإفطار وحدي. والحمد لله لم أعاقب ولا مرة، فقد أنجزت الرواية في سبعة عشرين يومًا، فوضعت آخر كلمة فيها في ليلة القدر. عندما كنت أشعر بالتعب أو الرغبة في الكسل، كنت أستدعي تجربة نجيب محفوظ في تعامله مع الكتابة بجدية وانضباط، فأستعيد السيطرة على نفسي، وأواصل العمل.

راجعت الرواية مرة أو مرتين، أطلقت عليها اسم “الإمام السعيد” لأن اسم شامل يعني السعيد، وأرسلتها لمسابقة الألوكة.

مر شهران تقريبًا ولم تظهر نتيجة المسابقة. اتصل بي أستاذي الكاتب الكبير إبراهيم عبد المجيد وقال لي إن دار نشر لبنانية هي دار الكتاب العربي، طلبت منه ترشيح أعمال روائية لشباب الكتاب المصريين لنشرها، فرشحني أنا ورباب كساب، وسألني: هل لديك رواية، قلت له: نعم، اسمها الإمام السعيد، قال لي: الاسم ليس جاذبًا، اختر اسمًا آخر، قلت: أسد القفقاس. فأعجبه الاسم، وأرسلت له الرواية، التي بعث بها إلى بيروت.

 

قبل إرسال الرواية لأستاذ إبراهيم فكرت كثيرًا، أرسلت إيميلًا إلى الألوكة أسألهم عن المسابقة وما تم فيها، فلم يردوا علي. لم أكن واثقًا من الفوز، ولم أعد أثق بالموقع نفسه، وفكرت بطريقة “عصفور في اليد ولا عشرة على الشجرة”، وأي عصفور! إنه عصفور لبناني. فأرسلت إيميلًا آخر إلى الألوكة أعلن فيه رغبتي في سحب الرواية من المسابقة لأنني أرسلتها إلى دار نشر، ومن شروط المسابقة أن يكون العمل مخطوطًا لم ينشر من قبل.

كانت دار الكتاب العربي ناشرًا محترفًا ومحترمًا، صدق في كل ما وعد به، أرسل العقد في موعده، والدفعة المقدمة، والنسخ حق المؤلف، والمحاسبة السنوية في موعدها. علمت بعد سنوات أن هذه الدار أغلقت أبوابها فحزنت جدًا.

عدت من عملي، وجدت زوجتى غاضبة وحزينة معًا. سألتها عن السبب، أخبرتني أن اتصالًا جاء على تليفون منزلنا من السعودية، وأن الرجل الذي تحدث إليها لهجته مصرية، كان يتحدث بصوتٍ عالٍ وغاضب لأنني انسحبت من المسابقة، وقال: لقد كلفنا الكثير في كل مراحل المسابقة فكيف ينسحب وقد وصل إلى التصفيات النهائية؟ أخبرته زوجتي أنني أردت أن أكون محترمًا معهم ولا أخفي عنهم إخلالي بشروط المسابقة برغم أن اسم الرواية اختلف.

من وقت لآخر تذكرني زوجتي أنني ضيعت ستين ألف ريال أو على الأقل عشرين ألفًا لو حصلت على المركز الثالث، وهي مبالغ كانت تشتري لنا قطعة أرض مائتي مترٍ لنبني فوقها منزلًا جديدًا. لكنني أذكرها أيضًا أنني لم أتخذ القرار بدون مشاورتها، ولا أريد أن أكون كاذبًا وأنا أعرف مخالفتي للشروط. وأحيانًا أسأل نفسي هل كان القرار الذي اتخذته أخلاقيًا خالصًا أم داخله شيء من خوف الإحراج أمام الرأي العام؟ أن تتكرر تجربة جائزة ساقية الصاوي، عن عمدٍ هذه المرة، أو أكون في الموقف الذي كان مثارًا في ذلك الوقت حول جائزة الدولة التشجيعية التي حصل عليها كاتب بعمل سبق له الفوز بجائزة أخرى، فسحبت منه جائزة الدولة بعد حصوله عليها؟ ووجدتني لا أحب أن أكون في هذا الموقف خصوصًا أنني لست بالقوة النفسية لهذا الكاتب الذي كان يرد على منتقديه لمخالفته للشروط بتبريرات يبدو مقتنعًا بها، كنت سأقر بخطئي “قبل أول قلم على الخد!”. وهذا ما يجعلني أفكر كثيرًا في مصادر اتخاذ القرارات المهمة أو حتى الصغيرة في حياتنا، وأجد أن الإنسان أعقد من أن نحيل قراراته إلى سبب واحد أو ظرف وحيد.

عن منير عتيبة

روائي وقاص وكاتب للأطفال والدراما الإذاعية، مؤسس ومدير مختر السرديات بمكتبة الإسكندرية، رئيس تحرير سلسلة كراسات سردية التي يصدرها مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية، مقرر لجنة السرد القصصي والروائي بالمجلس الأعلى للثقافة، عضو لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة (2013 - 2019)، وقد حصل على العديد من الجوائز منها جائزة اتحاد الكتاب.

33 تعليقات

  1. Gihan Eldemerdash د.جيهان الدمرداش

    يكفي أنك تذكر الموقف بعد مرور كل هذه السنوات و تكتب عنه و أنت تشعر بهذا الرضا عن الذات

  2. الكاتبة أمينة الزغبي

    الإنسان لايتجزأ وهذه هي شخصية الأستاذ منير عتيبة الذي يهتم بكسب احترام الجميع أكثر من المال.. دمت مبدعا متألقا خلوقا أستاذ منير عتيبة

  3. الكاتبة أمينة الزغبي

    من أجمل ما كتب أستاذ Monir Otaiba رواية أسد القفقاس. وبالرغم من ندرة المعلومات عن الشخصية الرئيسة شامل بن ذكاو؛ إلا أنه برع في التخييل السردي التاريخي لها، وهذا من أصعب أنواع الكتابة السردية.. كيف لا يفعل؟ فمن سمات المبدع علميا البحث عن الطرق والحلول الصعبة.. لذلك فهو يستحق هذا اللقب عن جدارة

  4. اول مرة اعرف قصة كتابة أسد القفقاس ..احبها بالطبع و لكن يبقي ل موجيتوس ركن خاص في القلب ..

  5. نبيلة المسيري

    مقال شيق عن الجائزة الثانية
    دام التفرد والاختلاف

  6. دمت بإبداع ودام حضورك العطر البهي مبدعنا المتألق أستاذ منير عُتيبة

  7. ثائر العذاري

    مهم ومؤثر
    خسرت المال لكنك ربحت نفسك وربحت الموقف

  8. د.حنان الشرنوبي

    تنازلت عنها ولكن تعلمنا منكم كيفية الالتزام والأمانة ..وكسبنا نحن أسد القفقاز..والحقيقة من خلال دراستي قارنت بينها وبين الحاج مراد دون أن أعلم تأثركم بها والف مبارك المقال .. دمت مبدعا ومعلما كبيرا ..

  9. من الروايات الجميلة لحضرتك واللي أتمنى نناقشها قريبًا.. دمت أمينًا نتعلم على يديه الكثير..

  10. أديبنا الراقي، كل الأسباب_التبريرات_ التي أوردتها هنا عن تلبية طلب الأديب الكبير/ إبراهيم عبد المجيد بإرسال الرواية إلى(العصفور اللبناني)😄، إلا إنه تصرف سريع، ولولا أن شاركت زوجتك في الأمر قبل تنفيذه؛ لندمت بقية عمرك، ولامتك عليه زوجتك، ومن هنا نستنتج أنك رجل تحترم رأي المراة، وخاصة زوجك، وهذا يضيف إلى مميزاتك التي علمناه عنك ميزة جديدة تعرفنا عليها من خلال مقالك هذا.
    قرأت من قبل مقالك السابق الذي امتعني.
    تحياتي.

  11. محمد الحديني

    الإنسان مواقف وهذا موقف مشرف يحسب لك. ومثل هذه الأخلاق القويمة لا تقدر بثمن.
    دمت مبدعا متألقا

  12. عبير حسين سيد

    مقال رائع عن جائزة متنازل عنها لكاتب متمسك بمبادئه أدام الله عليكم الابداع والتميز

  13. مبدع كالعادة أستاذنا سلمت يداك

  14. حسن علي اابطران

    جميل ورائع سرد مثل هذه المواقف ، إنها تمثل جزء من سير ذاتية
    تعطي انطباع ميل عن الشخص نفسه ..
    وفقت يا صديقي ، أتوقع مثل هذه المواقف من سيرتك يجب أن تتكامل لتشمل سيرة ذاتية .

    خالص الموفقية لك

  15. عادل جابر عرفه

    الأخلاق لا تتجزأ، وإحترام الإنسان لذاته فضيلة، والمال هنا يشوبه شبهة الحرام فقد دخله غش للحصول عليه، درس لشباب الكتاب كما تعودنا دائما من المحترم الخلوق صاحب المبادىء الإنسانية والإبداع الأدبي المتنوع، وايضا إنارة درب يوضح كيف تكتب الرواية والبحث والتقصي عن الحقائق والتخيل ومصابيح كثيرة على خطى الكاتب أو من يريد أن يكتب تحياتي لكم استاذنا الكريم منير عتيبة

  16. يتأكد لي كل يوم ان الكاتب مسيرة ومواقف انسانية قبل ان يقيم بكم اصدارته أو القابه ومناصبه والاستاذ منير عتيبة يؤكد لي دائما ذلك
    كمبدع حقيقي بكل مراحل ضعفه وقوته كانسان يتعرض لمواقف وضغوطات وصراعات ما بين احلامه وسبل تحقيقها وصراع مابين قوي الشر والخير.. اختيار امانة الكاتب ورسالته النبيلة وشرف القلم وبين انتهاز الفرص وغض الطرف عن ما هو اخلاقي
    قد تكون خسرت جائزة ولكنك كسبت احترام ذاتك لنفسك استاذ منير عتيبة وكذا ثقه الاخرين وحتي اقرب الناس اليك وهي اعظم من كل الالقاب والجوائز
    دمت راقيا اديبنا المبدع

  17. عُمر سُليمان القَشوطي

    ما شاء الله عليك
    قل مَن يمكنه في ظل الظروف الإقتصادية الحالية والتدهور الإجتماعي أن بثبت على مبدأ أخلاقي، لكن الحمدلله الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة..
    ثمة سبب لدافعك هذا، وهو أهم من كل ما ذكرته، أنك في موضع مسئولية عن هذا الجيل من الكُتاب، أنت قدوة، تكليفًا يجعلك في الصدارة، لا تكريمًا فقط، وإن كان التكريم يأتي في النهاية بعد نجاح رسالتك الأدبية، وسيكون حسب نيتك في الله أو عدمها.
    بارك الله فيك أستاذنا القدوة 🌷🌼

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *