شاعرٌ استطاع أن يُحول منصبه كشاعر الولايات المتحدة الأمريكية الوطني إلى منبر، قد تشعر بالعجب من جملة كهذه ويتبادر في ذهنك سؤالٌ كيف فعل ذلك؟ كيف كرَّس جهوده لنقل ما يريد أن يوصله إلى البشر من الورقة إلى قاعات الاجتماعات والفصول الدراسية؟ وما هدفه من ذلك؟
كيف رأى هذا الشَّاعر أن دوره لا يقتصر فقط على كتابة الشعر وإلقائه على مسامع البشر بل إن دور الشَّاعر يمكنه أن يتعدَّى حدود الشعر ويذهب إلى مناطق أخرى بعيدة وغير متوقعة؟ وماذا فعل ليُحبِّبْ الأطفال في الطبيعة ويحثهم على الاهتمام بها وربطهم ببيئتهم؟
استطاع ذلك الشَّاعر أن يُقنع محبي الشعر أن الشاعر في مكانته يستطيع أن يتجاوز خطوطه الشعرية وإيقاعاته وقوافيه ويتحول إلى مصدر إنساني يساعد على زيادة وعي الشعوب بأهمية البيئة والطبيعة وكيفية الحفاظ عليها ويربط كل ذلك بالشِّعر. كل تلك الأشياء فعلها الشَّاعر الأمريكي روبرت هاس.
نهر الكلمات
أسَّس الشَّاعر الأمريكي روبرت هاس منظمة باسم ”نهر الكلمات”، وهي منظمة غير ربحية تهدف إلى ربط الأطفال ببيئتهم، وأنشأ مؤتمرات ”الأحواض (المساحات) المائية”، التي تستكشف العلاقة بين الكتابة والطبيعة، كما قدم في عام ٢٠٠٥ رؤيته الأدبية في مجلس إدارة ”شبكة الأنهار الدولية” وفي السنة نفسها بدأ فصلًا دراسيًّا مبتكرًا بين الأقسام في جامعة كاليفورنيا بيركلي، حيث يعمل أستاذًا للإنجليزية يستكشف التداخلات بين الشعر والعلوم. كما أن روبرت هاس على قناعة تامة بأن الشعر رغم أن جمهوره قليل فإنه يمكنه أن يكون أداة ذات قيمة للنشطاء البيئيين، على الصعيدين السياسي والشخصي.
وُلِدَ الشَّاعر الأمريكي روبرت هاس في منطقة شمال خليج سان رافيل بمدينة سان فرانسيسكو في عام ١٩٤١، وكانت والدته تعاني من الإدمان، وكتب هاس عن حالها في مجموعته الشعرية ”شمسٌ تحت الخشب” التي نُشرت في عام ١٩٩٦، وكان شقيقه الأكبر يشجعه دائما على الكتابة منذ طفولته، وكانت الخمسينيات فترة مُتوهجة بالنسبة للشعراء الشباب في منطقة الخليج وبخاصة مع جيل ”البيت” الذي قاده شعراء أمريكيون مثل آلن جينسبرج (١٩٢٦-١٩٩٧) وجاريسنايدر (١٩٣٠).
شاعر وطني للولايات المتحدة الأمريكية
التحق هاس بمدرسة ماين وتخرج في عام ١٩٥٨، وبعد ذلك التحق بكلية سانت ماري ثم انتقل إلى جامعة ستانفورد حيث حصل على درجة الماچستير في عام ١٩٦٥، ثم درجة الدكتوراه في عام ١٩٧١، وكان للشَّاعر والنَّاقد الأمريكي يڤور وينترز (١٩٠٠-١٩٦٨) تأثير كبير عليه.
وكان لدي هاس رغبة قوية وطموح أقوى في أخذ الشعر إلى أماكن لا يذهب إليها الشعراء عادة، فعلى سبيل المثال نجده قد سافر أثناء عمله بوصفه شاعرًا وطنيًّا للولايات المتحدة الأمريكية إلى جميع أنحاء البلاد ليحاضر أمام مجموعات صغيرة في قاعات أو مجموعات من التنفيذيين في غرف الاجتماعات ولسنواتٍ طويلةٍ، كتب هاس عن موضوعات أدبية عديدة في عمودٍ له في صحيفة واشنطن بوست.
حصل روبرت هاس على العديد من الجوائز منها جائزة سلسلة ييل الشعراء الشباب عن كتابه ”دليل الحقل” عام١٩٧٢، وجائزة ويليام كارلوس ويليامز عن كتابه ”مديحٌ” عام ١٩٧٩، وجائزة دائرة نُقَّاد الكتب الوطنية في النقد عن كتابه ”ملذات القرن العشرين”عام ١٩٨٤، وجائزة دائرة نُقَّاد الكتب الوطنية في الشعر عن كتابه ”شمسٌ تحت الخشبِ” عام ١٩٩٦، وجائزة الكتاب الوطنية عن كتابه ”الوقت والمواد” عام ٢٠٠٧، وجائزة بوليتزر عن الكتاب نفسه في عام ٢٠٠٨ وغيرها من الجوائز الأدبية الكبرى.
يحول وصفات الطهي إلى شعر!
وتعكس الكثير من كتابات هاس أصوله من ولاية كاليفورنيا وقد وصفه البعض بأنه ”فنَّان وموهوب، غنائي قادر على تحويل وصفات الطهي إلى شعر”، ولقد تأثر كثيرا بالتقنيات الشرقية الآسيوية، وشغل هاس مناصب تدريسية في عدد من المؤسسات التعليمية بما في ذلك جامعة بافالو وجامعة بيركلي في كاليفورنيا.
روبرت هاس هو أحد الشعراء الذين لا يترددون في التعبير عن أنفسهم بطريقة حُرَّة وغير منظمة حتى إنه يصف الأنشطة الحياتية العادية في قصائده بطريقة تجعل القارىء يعتقد أنه لا يقرأ قصيدة على الإطلاق، ووصف ذلك الأمر الشاعر الأمريكي ستانلي كونيتز قائلا: ”قراءة قصيدة لروبرت هاس تشبه الدخول إلى المحيط عندما تكون درجة حرارة الماء لا تختلف كثيرًا عن درجة حرارة الهواء فتكاد تعرف حتى تشعر بسحب المد وأنك دخلت إلى عُنصرٍ آخر”.
بالإضافة إلى أن هاس واحد من أكثر الشعراء الأمريكيين المعاصرين احتفاءً وقراءة إلَّا أنه نجح أيضا كناقدٍ ومترجمٍ بارزٍ وبخاصة للشاعر البولندي الحائز على جائزة نوبل تشيسلاف ميلوش (١٩١١-٢٠٠٤)، فقد ترجم هاس له أكثر من سبع مجموعات شعرية، وأعلن هاس من قبل أن ميلوش أثر على تفكيره حول الشعر والسياسة تأثيرا كبيرا وقال ”يمكنك السعي نحو الكمال، لكن إذا كنت ستقوم بما يفعله ميلوش، لا يمكنك حينها السعي نحو الكمال، ستصبح أعمالك فوضوية ومليئة بالآراء”. وقد ترجم أيضا لمُعلمي الهايكو اليابانيين باشو (١٦٤٤-١٦٩٤) وبوسون (١٧١٦-١٧٨٤) وعيسى (١٧٦٣-١٨٢٨).
ويحظى شعر هاس باحتفاء كبير من قِبَل الكثير من النقاد بسبب وضوح تعبيره واقتصاده في الكلمات وصوره التي تُستمد غالبًا من الحياة اليومية، كما أن الشاعر والمترجم الأمريكي فورست جاندر (١٩٥٦) قال: ”قد لاحظ هاس ميله إلى الهايكو الياباني”. وقال أيضا إن أعمال هاس تُظهر اهتمامه بتفاصيل الحياة بشكل ملحوظ”. كما وصف جاندر موهبة هاس بأنها: ”موسيقية ووصفية وتأملية” حتى أنَّ الشاعرة الأمريكية كارولين كايزر (١٩٢٥-٢٠١٤) قالت في نيويورك تايمز ريفيو: ”هاس ذكي لدرجة أن قراءة شعره أو نثره أو الاستماع إليه يمنح المرء شعورًا بالمتعة الجسدية”، وقال هاس في حديثه مع المُحاور ديفيد رمنيك في مجلة شيكاغو ريفيو: ”الشعر هو طريقة للعيش، نشاط إنساني مثل خبز الخبز أو لعب كرة السلة”.
في مجموعة هاس الشعرية الأولى ”دليل الحقل” في عام ١٩٧٣، استلهم قصائده من ريف كاليفورنيا وخلفيته في الدراسات السلافية. والسلاف هم مجموعة إثنية لغوية هندوأوروبية، يتحدثون اللغات السلافَّية المتنوعة للمجموعة اللغوية البلطيقية السلافية الأكبر. وهم مواطنون في أوراسيا ويمتد انتشارهم في أنحاء مختلفة من أوروبا وآسيا وأمريكا لاحقا، كما يوجد اليوم عدد من الجالية السلافية في جميع أنحاء أمريكا الشمالية ولا سيما في الولايات المتحدة وكندا نتيجة للهجرة.
قال الشاعر الأمريكي جاندر عن ذلك: ”القصائد في ”دليل الحقل” غنية باللهجات الروسية ورائحة الينسون السرخسي والنبيذ المكشوف، وإشارات إلى الحياة النباتية والحيوانية والحلزونات الخضراء وسرطان البحر الصخري وطيور التانجر ودانتيل الملكة آن ورذاذ البحر وأشجار الفلفل في منطقة الخليج”.
ومن ناحية أخرى، أشار الشاعر الأمريكي مايكل ووترز (١٩٤٩) إلى أن: ”دليل الحقل هو وسيلة لتسمية الأشياء ولإنشاء هوية من خلال ما يحيط المرء وترجمة العالم الطبيعي إلى تاريخٍ خاصٍ”.
أما عن مجموعة هاس الثانية ”مديحٌ” فأوضح جاندر ”إنها عالجت في كثير من النواحي المشكلات الضمنية في الكتاب الأول: هل فعل تسمية العالم يفصلنا عن العالم؟ كيف يمكن تحمل الحزن، وقبول الموت، وكيف يمكن للروح أن تتحمل؟”.
كتب الشاعر الأمريكي إيرا سادوف (١٩٤٥) في مجلة شيكاغو أن: ”(مديحٌ) قد تكون أقوى مجموعة من القصائد التي صدرت في السبعينيات المتأخرة، وتشير إلى وصول هاس بوصفه شاعرا مهما، بل محوري”.
أما في عام ١٩٨٤، نشر هاس كتابا باسم ”ملذات القرن العشرين: نثر عن الشعر”، وهو مجموعة من المقالات والمراجعات التي نشرت من قبل، وفي هذا الكتاب يستعرض هاس مجموعة من الشعراء الأمريكيين مثل روبرت لويل وچيمس رايت بالإضافة إلى الشعراء الأوروبيين واليابانيين.
وقد نال هذا الكتاب احتفاءً من قِبَل النقاد كما حاز العديد من الجوائز مثل جائزة دائرة نُقَّاد الكتب الوطنية. وواصل هاس كتاباته الشعرية والنثرية حتى أصدر مجموعته الشعرية الثالثة ”الأماني البشرية” في عام ١٩٨٩، حيث استخدم فيها أسطرا أطول وفقرات نثرية كما فضَّل استخدام تأملاته في الصور التي كانت تملأ أعماله السابقة.
كتب في ذلك الشاعر الأمريكي ديفيد باربر (١٩٦٠) في مجلة بوسطن ريفيو وقال إن هاس: ”زرع شعرًا أكثر انفتاحًا، يمتاز بطابع رسائلي حميم، يتيح المجال لكل شيء بدءًا من الميتافيزيقا المجهدة، والسرد الجذاب وذكريات تميل إلى لقطات تشبه الهايكو الياباني وعبارات قاسية وشعرية مثيرة للقلق”. ومن هذه النقطة أوضح الناقد دون بوجن (١٩٤٩) أن كتاب ”الأماني البشرية” يوضح اهتمامات هاس الأساسية: “فهو طالبٌ للرغبة ولما نريده ومدى احتمال حصولنا عليه”.
وفي كتابه الثالث ”الأماني البشرية” كان هاس أكثر صراحة في التحدث عن حياته الشخصية فتضمنت قصائده طفولته ووالدته مدمنةالكحول فتحدث الشَّاعر الأمريكي ديفيد بيكر David Baker (١٩٥٤) عن الكتاب قائلًا:”كتاب هاس الشعري الجديد يحتوي أهم أعماله فقدرة هاس من خلال كتابه ”شمسٌ تحت الخشب”، في تحويل الكوميدي إلى السامي والقصصي إلى الميتافيزيقي والأخلاقي والشخصي إلى الاجتماعي ،رائعة” .
التجربة والمخاطرة
روبرت هاس شاعرٌ مختلف ومتجدد حتى إنه مبدعٌ في اختلافه. تأثره بالثقافة اليابانية والشعراء اليابانيين ظهر مليا ليس فقط في ترجماته التي تحدثتُ عنها من قبل، ولكن أيضا في قصائده حتى إنه تحدث عن البرقوق الياباني في قصيدة ”مقياس” التي ترجمتها، وقدم الهايكو الياباني على الطريقة الأمريكية بصورة مدهشة.
هو شاعرٌ موهوبٌ قادر على كتابة قصائده في سطور قصيرة وأخرى طويلة، يستطيع أن يعبر عن أي شيء يجول في خاطره بشكل لافت وأعتقد أن منصبه كشاعر وطني للولايات المتحدة الأمريكية واستغلاله هذا المنصب كمنبر يحث فيه البشر على الحفاظ على الطبيعة والبيئة وربط ذلك كله بالشعر، قد ساعده في ذلك وأيضا في تجربته الشعرية المتفردة فجاء شعره مزيجا من الطبيعة والذات.
كما أن تعاملاته المختلفة مع الأطفال والكبار في خِضم تلك المحاضرات والمناقشات قد أصقلت أيضا كتاباته الشعرية وفجرت داخله الرغبة الدائمة في الكتابة، لأن التجارب الحياتية اليومية ما هي إلا كتابة مؤجلة، حتى أن الشاعر المصري أحمد الشهاوي دائما ما يقول ذلك في كل لقاءاته: ”القراءة الدائمة كتابة مؤجلة”، وفي ذلك أرى أن القراءة تشبه التجارب الحياتية اليومية في التأثير على الكتابة وتعتبر محفزا قويا لها ولعل الدرس المستفاد من هاس هو استغلال المنصب في أشياء عديدة مختلفة أشمل وأعم وأفيد للبشرية من الجلوس على الكرسي وممارسة المهام المطلوبة فقط. كما أن التجديد والجرأة في ممارسته شيء يؤدي إلى التفرُد والامتياز والنجاح وقد نجح في ذلك هاس نجاحًا كبيرا في تجربته الشعرية (تقديم الهايكو على الطريقة اليابانية) حتى إنني شعرت بأن هاس خلق شكلًا شعريا مختلفا برغم أنه هايكو ولكن تقديمه له بشكل أمريكي مختلف جعلني أشعر بأنه لون جديد لم يسبقه أحدٌ فيه.
التجربة والمخاطرة شقان مهمان في الحياة، فلا نجاح من دون مخاطرة وتجربة، قد تخاطر مرة وتخطئ وقد تجرب مرة وتخطئ، ولكن تأكد أن الخطأ يعقبه محاولات ناجحة كثيرة قد تكون سببا في تغير حياتك تماما.
سألته فيوريكا باتيا في حوار معه، تحدث فيه روبرت هاس عن نفسه وشعره حيث بدأت قائلةً: ”متى كتبت القصائد لأول مرة؟ كيف قررت أن تصبح شاعرًا؟ كيف عرفت أنك ستصبح شاعرًا؟”
أجابها هاس: ”أعتقد أنني كتبت القصائد بمجرد أن سمعت الشعر، لا أتذكر بالظبط متى، لكنني أعتقد أنه في الصف الثالث أو الرابع كنت أكتب أشياء موزونة عن زملائي في الصف. كان والدايَ يشتركان في العديد من المجلات تأتي عبر البريد وكانت تحتوي على صفحة من النكات والشعر الخفيف، وكان أخي وأنا دائما نكتب ونحاول كتابة قصائد مضحكة ونرسلها إلى هذه المجلات لنشرها وكنت حينها في العاشرة إلى الثانية عشرة من عمري وكنا نقدم قصائدنا الصغيرة بقلم رصاص، ولكننا لم نسمع أبدًا من المجلات. لم يكن أي من والديَّ يقرأ الشعر. كانت جدتي، والدة أمي وهي أيرلندية، تحفظ الكثير عن الشعر عن ظهر قلب، وكانت تستطيع إلقاءه. لذا، كان الشعر دائما موجودًا. وفي المدرسة الثانوية بدأت أسمع عن ”البيتس” الذين جعلوا الشعر يبدو مثيرًا جدًّا.
وأضاف: “في الكلية حاولت كتابة مقالات ووقعت في حب مقالات چيمس بالدوين، الكاتب الأمريكي الأفريقي من عصر حقوق المدنية. أتذكر أنني قرأت مقالته عن ألبرت كامو بحماسة كبيرة، كما أصبحت مهتمًا بنورمان ميلر، الذي كان يكتب مقالات مثيرة للاهتمام أيضا. في الكلية كنت أرغب في أن أكون كاتبًا وحاولت عدة أنواع أدبية. بدا لي أنه يمكنني أن أكون كاتب مسرحيات أو أكتب للأفلام، أو شاعرًا أو كاتب خيال، أو كاتب مقالات. كان لدي اثنان أو ثلاثة أصدقاء قالوا إنهم شعراء ويعتزمون أن يكونوا شعراء، لكنني لم أفعل. في الواقع عندما كنت أقدم قصائدي إلى المجلات الشعرية في كليتي، سانتماري، كان المحرر دائما يقول لي أن ألتزم بالخيال، ولم أكتشف نفسي شاعرًا إلا عندما كنت في منتصف العشرينيات من عمري، حينما وجدت نفسي أقرأ الشعر المعاصر بحماسة كبيرة وحاولت كتابته. لم أقل لنفسي أبدًا ”سأكون شاعرًا”. كنت أقرأ الشعر ثم أجد الأشياء تحدث في ذهني، ثم أعود إلى المنزل وأكتبها”.
القدرة على قول شيء بطريقة صادقة
سألته باتيا سؤالا آخر عن إعادة كتابة قصائده: ”هل تعيد كتابة قصائدك كثيرًا؟”
أجابها هاس: ”أخبرني شخص ما أن روبرت دانكن ألقى محاضرة في الليلة الماضية وقال إنه لم يُعدل أي قصيدة. لديه قصيدة عظيمة ومعقدة جدا باسم ”أمي ستكون صائدة صقور”، وهي قصيدة أسطورية يتخيل نفسه كصقر أطلقته والدته للصيد، ليذوق الدم، ولكنه يجب أن يعود إليها دائما. القصيدة مكتوبة بأسلوبٍ غنيٍ ومعقدٍ، بينما كان يتحدث بحماسةٍ عن مدى سوء فكرة التعديل، سألته إذا كان قد عدَّل ”أمي ستكون صائدة صقور”. أنكر ذلك، وعندما سألته كم استغرق من الوقت في كتابتها، أجاب”حوالي ثمانية عشر شهرًا”.
أما عن رأي هاس في الشعر حين سألته باتيا: ”دعني أسألك أحد هذه الأسئلة الكبيرة: ماذا يعني لك الشعر؟” أجابها هاس قائلا: ”لا أدري إذا كان بإمكاني الإجابة عن ذلك، لكن يمكنني الإجابة تاريخيًّا، يتعلق الأمر بقصيدة وولاس ستيفنس التي لم أكن أعرف أنها له والتي باسم ”هيمنة الأسود”.
كتبت مقالًا عن تلك القصيدة. نشأت في عائلة تعاني من مشكلات كبيرة مع الكحول والإدمان. في عائلتي الصغيرة، كانت والدتي تعاني من مشكلة شديدة مع الشرب ،فأنا كنت في عائلة يوجد فيها الكثير من الإدمان والإنكار، مبدؤها العام عدم قول الحقيقة في أي شيء، لا تريد أبدا أن تحاصر بفكرة أنه يوم الأربعاء، أو أن الشمس مشرقة. لذا، عندما قرأت الشعر لأول مرة لم يؤثر فيَّ بسبب ذكائه المبهج أو لعبه الماكر، بل لأنه بدا لي صادقًا. شعرت كأنني أسمع شخصًا يروي الحقيقة للمرة الأولى ولم يكن ذلك عن أي شىء، ”كانت صرخة الطاووس”، بل كان شعورًا بالدهشة والقلق. أعتقد أن هذا كان الشعور الأصلي تجاه الشعر بالنسبة لي، تلك القوة في القدرة على قول شيء بطريقة صادقة.”
أما عن سؤال باتيا: ”ما ستكون رسالتك إلى شاعرٍ شابٍ؟”
أجابها هاس: ”أعتقد أن ما أقوله عادة للشعراء الشباب هو أنه يجب عليك القراءة، فهذا هو السبيل الوحيد الذي تجد به طريقك إلى فنك،وإذا قرأت بشغف، سيقودك ذلك من شاعر إلى آخر”.
وقال هاس أيضا:” الشىء الآخر هو أن تجربتي تقول إن الأشخاص الذين يصلحون شعراء، سواء أصبحوا شعراء جيدين جدا أم لا، يفعلون ذلك لأنهم يواصلون المحاولة، لأنهم يستطيعون تحمل مدى سوء كتابتهم، يمكنهم التغلب على كراهية الذات والاستمرار .”
واستكمل هاس حديثه عن كره الذات قائلا :” كنت أقرأ مؤخرا مقالا في ”نيويوركر” بقلم ديفيد رمنيك عن بروس سبرينجستين، وكان يقول إنه يعتقد أن الطاقة الأساسية لجميع الفنانين هي الهروب من كراهية الذات. أنا بالتأكيد مليء بما يكفي من عدم الراحة الذاتية التي أتعرف إليها فيجب أن يكون لديك القدرة على تحمُّل ذلك من أجل الوصول إلى ما هو صحيح بالنسبة لك. ربما يكون أحد أقوى الفروقبين الحداثة المتأخرة وما بعد الحداثة؛ بين فكرة أنك تحاول صنع أو إيجاد شيء صادق بالنسبة لك، وفكرة أنه لا يوجد شيء محدد صادق بالنسبة لك، هناك فقط اختراعات وعليك أن تصنع اختراعاتك لتكتشف ما هو مثير للاهتمام بالنسبة لك. قال ستيفينس وولاس:”ما يحدث أنتعجب به هو أحد الطرق التي تحدث بها الأشياء ” وأعتقد أن تلك الفكرة عن الشعر كاختراع بحت تأتي من ذلك.”
المحاولة والمخاطرة فكرتان أصيلتان في تكوين روبرت هاس الفكري والثقافي وهما سببان من ضمن أسباب عديدة لنجاحه كشاعر ومترجم أيضا ففكرة ترجمته لسبعة أعمال شعرية لشاعر بولندي، فكرة غير تقليدية وغير عادية وفيها نوع كبير من المجازفة وأيضا ترجمته لشعراء من اليابان فكرة ”خارج الصندوق” كما يطلق عليها علماء التنمية البشرية، ونجاحه فيهما بوصفه مترجما يدل على أن المحاولات والمجازفة والمخاطرة مفاتيح نجاح أي مبدع، أو شاعر، فكلما بعدت عن ” العادية” أو ” التقليدية” أصبحت حرا وتجيء إليك الفرص على طبقٍ من ذهب، فالخروج من الزنزانة قد يكلفك أمانك الذي اعتدته ولكن سيكلفك حياة كاملة لم تعشها بعد.