في زيارة متجددة إلى ياسنايا باليانا، ضيعة الكونت ليف تالستوي، ها أنا أمشي يتملكني شعور بأنّ كل جدار، كل مكتب، كل كتاب مهترئ ما زال يتنفس تناقضات صاحبه. لا يهمس البيت بالسكينة، بل يضج بالصراع ــ صراع رجل لم يعرف سلاماً مع رأسه أو هدنة مع روحه.
ليف تالستوي
في مكتبه، حيث وُلدت روايته “الحرب والسلام”، أكاد أسمع صوته وهو يسخر من عمله، بل ويصفه بأنه لا يعدو كونه ثرثرة فارغة مملة لا قيمة لها. يا لهذا التناقض! الكاتب الذي منح العالم روايات خالدة، ها هو يخجل من مجده ويكاد ينزوي هربًا.
غلاف رواية (الحرب والسلام)
أدخل غرفة الطعام فأتذكر كيف كانت زوجته التي كانت في شجار دائم معه تعد له وجبات خاصة ابتكرتها بنفسها، ويحضرني أيضًا شبابه المستهتر المتهور ــ لعب القمار، الإسراف وخسارة الأموال والمغامرات الأخرى. ومع ذلك، في الغرف نفسها، راح لاحقاً يبشر بالزهد والبساطة والعفة. تالستوي الماجن صار تالستوي النبي، وكلاهما عاشا تحت سقف واحد، بل وفي نفس واحدة. الممرات تردد صدى شجاره مع الكنيسة. أرى الصمت الثقيل الذي أعقب رفضه للمعمودية والأسرار وكل ما هو مقدس في الأرثوذوكسية، ونعته إياها بالشعوذة الفارغة. الكنيسة أجابته بغرابة: أعلنت أنه هو من قطع نفسه عنها، لكنها أبقت باب التوبة مفتوحاً. لم يعد بل أوصى ألا يقف كاهن فوق قبره. وفي الغرف التي تخص العائلة ، بدت الجدران كأنها تشكو من الوحدة والعزلة التي ذاقتها من هجر الأحبة والأقارب لها، حيث جفاه تأييد المفربين الذين امتنعوا عن اتباعه في مساره المتطرفـ، أو هكذا رأوه . حتى مريدوه خيّبوا أمله؛ فالمستعمرات الطوباوية والتجارب “التالستويانية” بدت له أقفاصاً أخلاقية لا أكثر.
ليف تالستوي مع زوجته
بعد رحيله، عاد تالستوي إلى أحضان الطبيعة ليدفن في قبر وحيد عند طرف الضيعة، قبر يتيم، مطموس بين الأشجار. ليس مكان دفن فحسب، بل إعلان: هنا يرقد رجل انقطع عن الكنيسة، عن الدولة، عن التقاليد التي وُلد فيها. تغطي الأرض جسداً وتغطي معه تناقضات روح لم تستطع أبداً أن توفّق بين الفن والأخلاق، بين الإيمان والعقل، بين الحياة ومثلها العليا. ومع ذلك، وأنا أغادر البيت، أتذكر ما قاله فاسيلي روزانوف: لقد نما السنديان معوجّاً، لكنه ظل سندياناً عظيماً. من داخل بيت تالستوي، نكاد نستشعر كسورا أنين الكسور التي أصابت نفسه، بل وعظمة حياة ما زالت تتجلى في حياتنا، حياة مهيبة، مقلقة، ولا يمكننا تجاهلها.