عندما رحلت أمى إلى مكانها الجديد، نحو الجنة، قضيت أسابيع غير قادر على مشاهدة التليفزيون أو الجلوس بالمقهى أو القراءة، تلك النشاطات اليومية فى حياتى، كان أول ما امتدت إليه يدى فى المكتبة كتاب “الشقاء العادى” للروائى النمساوى بيتر هاندكه، كنت قد قرأته قبل أقل من عام عند فوز هاندكه بجائزة نوبل للآداب فى 2019.
ورغم أن الكاتب يوضح لنا منذ الأسطر الأولى أنه سيروى سيرة أمه التى انتحرت بشكل مفاجئ قبل سبعة أسابيع، وهو ما يهيئنا لقراءة كتاب مذكرات، إلا أنك ما تلبث أن تكتشف أنك أمام رواية قصيرة أو نوفيلا محكمة البناء، حتى وإن كانت دون تخييل، حتى وإن كانت معتمدة بشكل كامل على حياة واقعية وأحداث حقيقية، حتى وإن خرج الكاتب عن الخط الروائى ليشرح لنا كيف فكر فى هذه الكتابة وكيف اختار الأحداث وانتقاها، يفعل هاندكه كل ذلك وهو ممسك بخيطه الروائى مشدودا، لا يفلته ولا يرتخى بين يديه.
قبيل العاصفة التى هبت على حياتى، أقصد رحيل أمى، كنت أقرأ كتابين بالتوازى، رواية “الطاعون” لألبير كامو، وكانت قراءتى الثانية لها، وكتاب “انتصار الحياة” لصلاح حافظ، تبدو الأسماء والاختيارات دالة وكأنها توحى لى بما أنا مقبل عليه، وقبلهما قرأت “الإحساس بالنهاية” للإنجليزى جوليان بارنز. ياالله! كل شىء كان يشير إلى ما سيحدث دون إدراك منى، تخلصت من كتاب “انتصار الحياة” بعد أسابيع، أبعدته عنى، لم أحتمل رؤية غلافه على مكتبى مرة ثانية، كما أن عنوانه بدا وكأنه يسخر منى.
ورغم هذا الابتعاد بين سيرة أم الكاتب وذاكرتى الشخصية إلا أننى شعرت بتدفق ذكرياته المغمورة بمشاعر من الاشتياق والحنين والحب، أشعر بهذا رغم أن الكتاب ليس مرثية عاطفية، بل رواية عن حياة امرأة.
الأديب ونيسًا
بعد العاصفة عُدت إلى “الشقاء العادي” وحكايات هاندكه عن أمه، بحثت عن رجل أستئنس بمشاعره المفعمة بالألم والإحساس بالفقد، كنت أود أن أشعر أننى لست وحدى، أن هناك من يشاركنى فى مشاعرى وحزنى، يواسينى، ثمة رجل آخر حزين يجلس فى حجرة مجاورة، رجل غير أبى الذى يزيد حزننا بعضه بعضًا، روائى يكتب عن أمه وينتحب، فنتشاطر المشاعر والأفكار، ربما حدث هذا له منذ نصف قرن، أعرف ذلك ولكن الكتابة تتخطى حواجز الزمان والمكان، كل ما كتبه هاندكه انتقل إلى هنا والآن، ربما هذا سبب من أسباب اندفاعنا للكتابة والقراءة، أن نتشارك فى التفتيش فى أغوار أنفسنا والكشف عن أعماقها، نفعل ذلك سويًا، فنشعر بشىء من الونس قد ينقذنا من الإحساس بالفقد أو الحزن أو الوحدة.
يحكى هاندكه فى الكتاب عن شباب والدته الذى صادف صعود نجم هتلر ثم الحرب العالمية الثانية، ارتبطت أمه أولا بوالده، موظف فى الحزب، ثم تزوجت من ضابط صف، وتحولت حياتها إلى هذا الشقاء العادى، تلك الحياة المليئة بالحركة والتى انتهت فجأة.
فجأة! لا تتماس هذه القصة مع أمى بأى شكل من الأشكال، فحياة أمى لم تكن بهذا البؤس ولا بذلك الصخب، غير أنها لاقت مثل أغلبنا نصيبها من الشقاء العادى.
ورغم هذا الابتعاد بين سيرة أم الكاتب وذاكرتى الشخصية إلا أننى شعرت بتدفق ذكرياته المغمورة بمشاعر من الاشتياق والحنين والحب، أشعر بهذا رغم أن الكتاب ليس مرثية عاطفية، بل رواية عن حياة امرأة. ربما لشعرية أسلوب الكاتب -والتى نقلها أو أضاف إليها مترجمها بسام حجار- أثر فى بث تلك الدفقة من الأحاسيس إلىّ.
حكاية «شقاء عادي»
بدأ هاندكه فى كتابة روايته تلك متصورًا أن الكتابة ستساعده على كسر حالة الحزن والجمود التى خيمت على حياته عقب تلقيه خبر انتحار والدته، معتقدًا أن سرد هذه المواقف والحكايات ستجعله على مسافة منها، ستدفعه أن ينظر إليها كذكريات لمراحل سابقة من الحياة، كما أن عملية الكتابة نفسها تتطلب قدرًا من التركيز للتذكر والانتقاء والصياغة وهو ما توقع أن يحيد مشاعره ولو قليلًا، ولكنه يكتشف بالقرب من نهاية الكتاب أنه كان مخطئًا:
“ليس صحيحًا أن الكتابة كانت عونًا لى، فطوال الأسابيع التى انهمكت خلالها فى تدوين هذه القصة، كانت القصة، هى أيضا، لا تكف عن مضاعفة انهماكى. لم تكن الكتابة، كما ظننت فى البداية، مجرد تذكار لحقبة منصرمة من حياتى، إذ لم أفعل سوى تضمين العبارات مثل هذا الموقف فتغترّنى المسافة التى أضعها بين العبارة وبينى فلا تكون إلا اعتباطًا. ومازلت حتى اليوم أستيقظ مذعورًا فى الليل أحيانًا كما لو أننى منبوذ من النوم باندفاعة باطنية خفيفة، فأحبس أنفاسى إذ يتملكنى الإحساس بأن الذعر يستحجرنى وئيدًا. ولفرط ما يكون الهواء راكدًا فى الظلال الغاشية تبدو الأشياء جميعها فى حالة فقدان توازن ومقتلعة من ركن قوامها. وقد تهوّم قليلًا دون جلبة، فاقدة مركز الثقل، ثم لا تلبث أن تتساقط علىّ من كل صوب وحدب وتقبض على أنفاسى.”
نُشرت تلك الرواية فى عام 1972 وترجمت إلى العربية بعد ما يقارب العشرين عامًا، صدرت عن دار الفارابى بغلاف رقيق وبسيط للفنانة نجاح طاهر، يمثل رجلًا بقامة منحنية ينظر إلى برواز كبير فيه صورة امرأة، أمه بالطبع، هل هاندكه هو هذا الرجل الذى أحناه الحزن أم أنا؟ كلانا ينظر إلى البرواز متطلعًا حالمًا مشتاقًا، دون القدرة على لمسه أو القفز داخله.
صور أخرى للشقاء
بعد سنوات عديدة ستصدر ترجمات أخرى، مثل ترجمة د. هبة شريف المعنونة “حزن غير محتمل”، للوهلة الأولى ظننت أن عنوانى الترجمتين متناقضان، فهنا “عادي” وهناك “غير محتمل”، ولم أعرف أيهما أدق، ولكن بإعادة النظر أدركت أنه لا تعارض بين العنوانين، فالحزن غير محتمل والشقاء كان عاديًا، بات المعنى أكثر اكتمالًا فى ذهنى بضم العنوانين معًا، ورغم أن الشقاء الذى قصده هاندكه أو بسام حجار هو شقاء الأم، إلا أننى أرى أن ثمة شقاء يعانيه الابن أيضًا، شقاء عادى.
عندما فاز هاندكه بنوبل لم أكن قد قرأت أيًا من رواياته بعد، فاندفعت حينها لقراءة ثلاث روايات له، لم أحب الاثنتين الأخريين، سيقول لى أحد الأصدقاء أن ربما العيب فى الترجمة، فكُتب هاندكه الروائية لا تخلو من شاعرية نثرية، ربما يصعب على بعض المترجمين نقل روحها بشكل مناسب، فأقول ربما، فهو كما وصلنا مفتون باللغة وألاعيبها، ربما، ولكنى لم أحب مواقفه السياسية أيضًا، تحديدًا رؤيته للحرب فى البوسنة وتعاطفه مع ميلوسوفيتش. كرهت موقفه وقلت لو أننى ضمن لجنة جائزة ما لما أعطيتها إليه حتى وإن كان صاحب إنجاز أدبى لافت. لكننى ظللت أقدّر له أنه آنسنى فى أيام صعبة، وكأننا جلسنا بالمقهى وتبادلنا الحديث عن مشاعرنا وأحزاننا، كأنه حل محل الأصدقاء الذين أبعدهم السفر أو فرقتنا أجواء الوباء.
أجنحة الرغبة
نعم لم أقرأ لهاندكه قبل أن يصبح نوبليًا، ولكنى شاهدت قبل هذا الزمن فيلمًا شارك فى كتابته مع مخرجه الألمانى الشهير فيم فيندرز، والذى قد نلقبه بصديق الأدباء، فهو صديق للأمريكى بول أوستر أيضا، الفيلم هو “أجنحة الرغبة” والذى ستقتنصه هوليوود وتصنع نسختها منه بعنوان “مدينة الملائكة”. أحببت النسخة الأولى جدا، تبدو كقصيدة مرئية، مزج متقن وغير مفتعل بين الشعر والسينما، عن الملاك الذى يهجر عالم الملائكة إلى أرض البشر، يبدأ الفيلم بيد تكتب على ورقة وصوت يردد ما تكتبه ومنها هذا المجتزأ الذى أردده مع هاندكه وفيندرز وآخرين:
“حينما كان الطفل طفلًا، لم يكن يعلم أنه طفل، بالنسبة له كل شىء مفعم بالحياة والروح، وكل الأرواح واحدة.
حينما كان الطفل طفلًا، كان زمن تلك الأسئلة، لماذا أنا أنا ولست أنت؟ لماذا أنا هنا ولست هناك.. متى بدأ الزمن، وأين ينتهى الفضاء؟ هل الحياة تحت الشمس مجرد حلم؟ هل ما أراه، أسمعه وأشمه مجرد انعكاس لعالم قبل العالم؟ هل هناك حقًا ما يطلق عليه الشر، وهل هناك حقًا أشرار؟
كيف أنا، الذى هو أنا، لم أكن موجودًا قبل مولدى؟ وكيف فى يوم ما سأصبح أنا، الذى هو أنا، غير موجود من جديد؟
حينما كان الطفل طفلًا كان يرى صورة واضحة للفردوس، والآن على الأكثر يستطيع أن يخمن، كان لا يستطيع تصور العدم، واليوم يرتجف من الفكرة.”
من الفيلم الألماني «أجنحة الرغبة»