أحدث الحكايا

د. جيهان زكي تحكي: إيزيس وشهرزاد.. تلتقيان في آخر بلاد المسلمين

مقدمة

تلتقي الحكايات دائما، كما تلتقي الثقافات. وذلك ما يؤكده كتاب “إيزيس وشهرزاد.. تلتقيان في آخر بلاد المسلمين”، للدكتورة جيهان زكي، عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب، وأستاذة الحضارة المصرية بمركز البحوث بجامعة السوربون.

تنشر منصة “شهرزاد” فصول الكتاب على حلقات متتابعة لنعيش معا سحر الحكايات ونكتشف التشابه بين شهرزاد الحكاءة الأعظم في تاريخ الثقافة العربية وإيزيس الربة الأكثر شعبية في حضارة مصر القديمة وما تلاها من حضارات.

 

(1)

المرأة الشرقية بين رؤى الشرق والغرب

اثنتان من أيقونات الأنوثة في العوالم القديمة: إيزيس وشهرزاد وكلتاهما من الشرق، تلتقيان.

الاسم الأول هو “إيزيس”، ربة الحُب والجَمال في مصر القديمة التي كتبت بحروف من نور ملحمة العشق والوفاء الأشهر في تاريخ البشرية.

والاسم الثاني هو ”شهرزاد”، تلك المرأة الجميلة الذكية المُطلعة التي أثبتت من خلال تجربتها مع الملك السعيد ذي الرأي الرشيد أن العاطفة بإمكانها أحياناً التغلب على ما لا يدركه ذكاء العقل لهداية النفس إلى طريق الخير وإجلاء الغشاوة وترميم البصيرة.

ولعل ما شجعني على التطرق لهذه التجربة العلمية التي مدّت الجسور بين التاريخ والأدب العربي هو الرغبة في إعادة إحياء المفهوم “الأنثوي” للمرأة في المجتمعات الشرقية، على إثر كل ما فقده عبر الزمان والمكان.

 

قد تختلف المعايير الثقافية حول مفهوم “الأنوثة” بين حضارة وأخرى أو بين مجموعة من البشر يعيشون في الجنوب ونظرائهم في الشمال، إلا أن الصفة الجامعة عبر التاريخ هي كون “الأنوثة” صفة فطرية

 

إيزيس أم الآلهة ورمز الأنوثة الأول

الأنوثة

وبالرجوع إلى تعريف “الأنوثة” في معجم اللغة العربية المعاصرة، نجد أنها تُعَرَف كمجموعة الصفات التي تُميِّز “الأنثى” وأن “اللاأنوثة” هي فقدان المرأة للصفات التي تُميِّزها كأنثى. 

وقد تختلف المعايير الثقافية حول مفهوم “الأنوثة” بين حضارة وأخرى أو بين مجموعة من البشر يعيشون في الجنوب ونظرائهم في الشمال، إلا أن الصفة الجامعة عبر التاريخ هي كون “الأنوثة” صفة فطرية، مرتبطة بالخليقة وتحمل في ثناياها أسرار الجاذبية الربانية.

بعض المجتمعات سواء كانت الشرقية أو الغربية، تخلط بين الأنوثة وصفة الضعف/الانكسار مما يتسبب في خلل مجتمعي يخلق أحياناً كثيرة أخطاء ومشاكل تتزايد وتؤدي إلى تلاشي الاحترام وتقلص فكرة تقبل الآخر. 

فعندما ننظر حولنا اليوم وخاصة فيما يتعلق بآخر الإحصائيات التحليلية للأمم المتحدة بشأن الجيل الذي جاء للحياة بعد عام 2000، لوجدنا أن “الأنوثة” بمفهومها التاريخي قد فُقِدَت قلبا وقالبا، فنرى مثلاً أن المرجعية في الجمال تتوجه نحو معايير مختلفة تماماً عن ما كانت عليه، فهي تُعلي معيار القوام النحيف والملامح المبالغ في إظهارها اصطناعياً، أما عن أفضل كلمات الإطراء بالنسبة للمرأة فستكون على النقيض، تلك التي تشبهها بـ “الرجل” وأحياناً بـ “مائة راجل” أو بـ “فدان رجالة” كما يقال في صعيد مصر.

وحينما ننظر اليوم -ونحن نعبر الألفية الثالثة- إلى ملبس المرأة ونمطه، وأدائها وإيماءاته، وفكرها وأهوائه، نلمس على الفور فقدان صفة/قيمة “الأنوثة” التي تتمثل في غياب العاطفة وتضاؤل قوة الحضور والجاذبية الروحية، وتصدع لغة الحوار مع الآخر إلى حد حدوث شرخ كبير في منظومة القيم، ولاسيما سلسلة الصفات الربانية، مما يؤكد على توارى “الأنوثة” بمفهومها التاريخي خلف ساتر ضبابي، مُلَطخ بمفاهيم خاطئة وأفكار تُعَكِرها الشوائب المتراكمة.

 

تشكيل الشخصية العربية

“بلغني أيها الملك السعيد .. ذو الرأي الرشيد”

عبارة لها رنين خاص على الأذن العربية، فهي من أشهر عبارات الأدب العربي التي صالت وجالت في الأذهان وذهبت بها بعيداً، فعبرت بحوراً وجسوراً، وتحدت أياماً وسنيناً ولم يقهرها الزمن ويطويها، بَلَ عَظَمَها وأضفى عليها سِحراً وجاذبية حتى سكنت عمق الوجدان العربي.

إحدى اللوحات التي تصور شهرزاد وشهريار

 

ففي رحاب حكايات وقصص ألف ليلة وليلة، قد تشكلت الشخصية العربية ونما الفكر الشرقي وغزل نسيجه حول أحداث جرت في عوالم بلاد الشرق، من نهر السند حتى نهر النيل مروراً ببلاد الفرس ووديان دجلة والفرات وقصور بغداد المفعمة بتجليات الثقافة والفنون في أوج مجد وازدهار مملكة “هارون الرشيد” التي غدت قبلة لطلاب العلم والمعرفة من جميع أنحاء العالم القديم.

 

“شهرزاد”، الفتاة الذكية المثقفة الجميلة الحكيمة المدركة لأبعاد العالم الذي تعيش فيه، فكانت هي أول من ألقت بسحر الشرق في قلوب أهل الغرب

 

آخر بلاد المسلمين

 

غير أنه مع إحدى صيحات “الديك” مبشراً بنهار جديد، نقلتنا شمس هذا الصباح إلى أقصى جنوب الصعيد بتضاريسه الممتدة حول نهر النيل وصحرائه الوعرة. فإذا بشهرزاد تَسوقُنا بتلقائية وعفوية إلى “جزيرة فيلة”، أشهر جزر النيل في منطقة الشلال الأول (أسوان حالياً)، والتي أطلق عليها الرحالة العرب مسمى “حد بلاد الإسلام” أو “آخر بلاد المسلمين”.

معبد فيلة
تصوير: محمد ورداني
(نقلا عن سي إن إن بالعربية)

فمع بداية الليلة التاسعة والتسعين بعد الثلاثمائة، وعلى مدار إحدى عشرة ليلة، طافت شهرزاد بسردها المتميز محلقة في أجواء قصة الحب التي جمعت بين “الورد في الأكمام” بنت الوزير إبراهيم وزير الملك الشامخ، و“أنس الوجود” أحد فرسان القصر والحرس الخاص بملك البلاد.

وفي طيات قصة الحب هذه ومنحنياتها، تظهر ومضات سخية من مفردات أسطورة “إيزيس وأوزيريس”، إحدى أهم أساطير مصر الفرعونية، وأعمقها تأثيراً في تكوين الشخصية المصرية. 

ارتأيت أن أصطحبكم في عالم قديم جدا، ساحر فتان حتى لو غابت عنه الشمس منذ سنوات بعيدة، إلا أن عبقه وجماله لن ينجو إنسان من فتكهما.

في الحلقات التالية، آمل في استدراك الصورة التي رَسَمَت ملامح المرأة الشرقية بجمالها ونضارتها وبما تستحقه من تقدير وإجلال، أبهرت به الغرب قبل الشرق كنموذج يُحتذى به وقدوة ومرجعية لما تعنيه كلمة “الأنوثة”. فمن شخصية “إيزيس” استُلهمت “أتينا” عند الإغريق ثم “فينوس” عند الرومان كأيقونتين للجمال في العوالم الغربية.

أما “شهرزاد”، الفتاة الذكية المثقفة الجميلة الحكيمة المدركة لأبعاد العالم الذي تعيش فيه، فكانت هي أول من ألقت بسحر الشرق في قلوب أهل الغرب على إثر ترجمة قصة “ألف ليلة وليلة” على يد المؤرخ الفرنسي “أنطوان جالان”، فأصبحت شخصيتها -منذ مطلع القرن السابع عشر- بمثابة نقطة تلاقي بين الشرق والغرب، وجسراً صلبا بين الضفتين، ومقصداً لمن أراد من الجانبين الاستمتاع بالثقافة الراقية والانطلاق في ميدان العبقرية الفكرية. 

المجلدات الأصلية لألف ليلة وليلة ترجمة أنطوان جالان

 

المحنطة واللاهية

 

تمثال إيزيس وابنها حورس بالمتحف البريطاني

 

فهيهات لمن يحاول اختزال صورة “إيزيس” في شكل امرأة “محنطة” تنتمي إلى ماض سحيق، لا قيمة لها ولا معنى لها في عوالمنا الحديثة، أو يغاير في شخصية “شهرزاد” من نموذج الفتاة المثقفة الواعية إلى تلك اللاهية الواهية، معدومة القيم والمبادئ.

وأمل أن يكون كتابي بمثابة مصدر إلهام للقارئ، يهبه نُطفة من الشغف والولع لاختراق هذه العوالم الساحرة لهاتين السيدتين “إيزيس” و“شهرزاد” للتعرف عليهما، وليَتَذَوق أصل صورة كلتيهما.

مُهِمَتنا تنويرية وهي مهمة متصلة الحلقات وملازمة لكل مرحلة من مراحل التطور السياسي الدقيقة، لأن الثقافة مثل الحقيقة، فهي لا تُزَيَف بل تتنفس وتُبدِع وتتألق وتجد أصداءها ملء السماء بقدر قوة انبثاقها من الماضي العريق وتجلياته الأصيلة. 

مهمتنا هي إزالة كل غشاوة تكتم حيوية الثقافة وتُفسِد ينابيع إبداعاتها.

عن د. جيهان زكي

عضو مجلس النواب، الرئيسة السابقة للأكاديمية المصرية للفنون بروما، أستاذ علوم المصريات بمركز البحوث العلمية بجامعة السوربون الفرنسية، عملت مستشاراً للشئون الخارجية والمنظمات الدولية فى وزارة الآثار، ثم مستشارًا لمنظمة اليونسكو بمكتبها الإقليمي بالقاهرة. نالت العديد من الجوائز والأوسمة منها وسام فارس من الطبقة الوطنية بفرنسا، كرمتها اليونسكو عام 2015 ضمن 70 امرأة مؤثرة حول العالم، وفي نفس العام حصلت على الوردة البرونزية الإيطالية" التي تعد أرفع وأقدم الأوسمة في مجال التواصل بين الشعوب بإيطاليا، ووسام "شجرة الإنسانية" فى 2017 لدورها فى إعلاء لواء الفكر والفن ومد جسور التواصل الثقافى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *