أحدث الحكايا
ابتسام عازم وكتابها سفر الاختفاء

إبراهيم فرغلي يحكي: سفر الاختفاء.. حلم العنصرية المقبور!

لو تخيلنا اختفاء الأمريكيين فجأة لسبب ما، وليكن مثلا وصول مجموعات من الكائنات التي تعيش في كواكب أخرى في الفضاء لكوكبنا السعيد، فهل سيعني ذلك، على سبيل الخيال أيضا، أن يعود السكان الأصليون إلى أرضهم المسلوبة؟ وكيف سيتعاملون مع هذه القارة الشاسعة المكدسة بالأبراج الشاهقة والسيارات الفارهة ومركبات الفضاء وكافة تفاصيل الحداثة التي خلقها الأمريكيون على مدى القرن الماضي؟ 

لكن ربما يتبين لنا في حال كهذه أن كل ما تبقى من السكان الأصليين لا يتجاوز 20 أو 30 شخصا، مما يجعل حياتهم في قارة شاسعة كهذه أمرا بالغ الصعوبة، وربما بلا معنى. أو لعلهم سيبحثون عن أماكن جبلية أو صحراوية في ربوع البلاد بحيث يعيدون بناء خيامهم، وإحياء تقاليدهم وتراثهم القديم الذي كاد أن يندثر إن لم يكن قد اندثر فعلا.

اختفاء الشعب الفلسطيني

وعلى مستوى آخر ماذا لو تخيلنا مثلا اختفاء الشعب الفلسطيني فجأة لسبب ما، وليكن لأنهم أصيبوا باليأس، وقرروا الهجرة إلى خارج بلادهم، بسبب التاريخ الطويل من تضامن الغرب كله وبينهم الولايات المتحدة الأمريكية مع الكيان المحتل ضدهم؟ 

بداية سوف نجد أن هذا الفرض متحقق بشكل ما في أغلب الأدب الذي يكتبه الكُتّاب الذين ينتمون للكيان الصهيوني. فوفق ما صرح به الكاتب العراقي علي بدر ذات مرة، أنه لاحظ غياب السكان الأصليين تمامًا في تلك الأعمال الأدبية. واهتمام بدر يأتي في إطار البحث عما كُتب أدبيا عن القدس، عندما عكف على كتابة روايته “مصابيح أورشليم” عن إدوارد سعيد في القدس. 

غلاف رواية “سفر الاختفاء” للكاتبة ابتسام عازم

لكن الحقيقة أن الكاتبة الفلسطينية ابتسام عازم كتبت بالفعل رواية بعنوان “سفر الاختفاء” تتخيل فيه أن يستيقظ الإسرائيليون في أحد الأيام ليكتشفوا اختفاء الشعب الفلسطيني بدون أسباب واضحة. 

 بطبيعة الحال، ما تقترحه الرواية يبدو كأنه تخيل أدبي يفترض تحقيق حلم هذا الكيان المحتل، عبر منهجهم المتواصل ممثلا في اعتقال الشباب، وإبادة السكان قتلا، أو تهجيرهم من المخيّمات أو من مدن كاملة، وطردهم من بيوتهم واحتلالها، أو بالقصف العسكري الممنهج، إلى آخر الوسائل التي عكف عليها الاحتلال الصهيوني لعقود بهدف إبادة الشعب الأصلي لأجل أن تخلو لهم أرض الميعاد المزعومة. 

كابوس الكيان

لكن “سفر الاختفاء” تكشف أن اختفاء السكان الأصليين، أي الفلسطينيين تحول إلى كابوس بالنسبة للكيان المحتل. فالمنطق الذي يولد به أبناء المستعمر المحتل يقوم على أساس تغذية الكراهية التي ينشؤون عليها، وغسل عقولهم بأكاذيب حول أحقيتهم في أرض لا علاقة لهم بها من قريب أو بعيد، وبالتالي تتكون هويتهم على هذه الخصومة، ثم إذا بهم يجدون أنفسهم فجأة يعيشون في وحدة رهيبة، على الرغم من أن حلمهم قد تحقق أخيرا.

 لكن الكاتبة تعدد أسبابا أخرى لمفاجأة الصهاينة، وبينها أن الكثير منهم، على أرض الواقع، يعتمد على أبناء البلاد الأصليين في كافة أعمال الزراعة والبناء والحرف، وغيرها، فمن الذي سيقوم بهذه الأعمال؟ 

وتاليا سيشعر شعب الاحتلال، وقياداته بالأساس، أن ثمة شيئا غامضا وخطيرا يدبر لهم، وهو ما يعكس كيف أن الحقيقة التي تعيش في دواخلهم أنهم يغتصبون أرضا ليست لهم، ويقتلون شعبا أعزل بكل معنى الكلمة باستخدام ترسانة سلاح شديدة التطور. يقتلون شعبا مدنيا أعزل، لا يريد إلا أن يعيش حياة طبيعية في بلاده التي ولد فيها بعد أجداده، بكرامة وسبل رزق توفر له عيشة معقولة. تقترح الرواية إذن أن كل هذه الغطرسة هي مجرد قناع لهشاشة تجعلهم في شك دائم بالرغم من كل ما يمتلكونه من تضامن غربي وتسليح لا مثيل له. 

نفس المصير

لكن المفارقة أن هذا الكيان المحتل نفسه تعرض في مرحلة تاريخية معينة، إلى نفس المصير الذي يعاني منه الفلسطينيون اليوم. فقد وصل إلى حكم ألمانيا رجل طموح مصاب بجنون العظمة، والأهم أنه يعتقد أن الجنس الذي ينتمي إليه، أي الألماني، وأصله هو الآري، هو أرقى الأجناس البشرية. ثم أصابته لوثة أخرى تسببت في إيهامه بأن مصير أي شخص لا ينتمي للجنس الآري، هو الإبادة، وخصوصا اليهود، ولأجل هذا الوهم العنصري التعيس أقام المحارق بالفعل لأي شخص يثبت أنه ينتمي لليهودية. 

“المفارقة أن هذا الكيان المحتل نفسه تعرض في مرحلة تاريخية معينة، إلى نفس المصير الذي يعاني منه الفلسطينيون اليوم. فقد وصل إلى حكم ألمانيا رجل طموح مصاب بجنون العظمة، والأهم أنه يعتقد أن الجنس الذي ينتمي إليه، أي الألماني، وأصله هو الآري، هو أرقى الأجناس البشرية.”

هتلر الضحية

هذا هو هتلر، بطبيعة الحال، أيقونة العنصرية في التاريخ المعاصر. وإذا كان يبدو جلادا لا نظير له في قدرته على القتل، لكنه في الوقت نفسه ضحية الإيمان بأوهام عديدة تبدأ من فكرة النقاء العرقي، أو التميز على أساس العرق، أو كره الأجانب لمجرد أنهم ليسوا من السكان الأصليين، أو توهم التفوق على أساس العنصر أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو العرقي. 

هذا هو الجلاد الذي تحولت ضحيته إلى جلاد متوحش يذهب إلى أرض ليست له ويبدأ في إبادة أهلها تحت شعارات دينية وباستخدام مدونات إسرائيلية.

أوهام الرجل الأبيض

في جنوب إفريقيا لم يتخيل أحد شيئًا، فكل عجائب العقل البشري قد تحققت على الأرض، وبين تلك العجائب أوهام الرجل الأبيض في التفوق الطبيعي على الجنس الإفريقي، ووفقا لهذا الواقع البائس جدا تم تنفيذ إجراءات عجيبة يمكن اختصارها في وصفها وهو “الفصل العنصري”، أو “الأبارتايد”. 

وهذا هو نظام الفصل العنصري الذي حكمت من خلاله الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا من عام 1948 ، واستهدف خلق إطار قانوني يحافظ على الهيمنة الاقتصادية والسياسية للأقلية ذات الأصول الأوروبية، حتى تم إلغاء النظام بين الأعوام 1990 – 1993 وأعقب ذلك انتخابات ديمقراطية عام 1994. 

مقاومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا

 

تحول الواقع بعدها إلى انقلاب الأوضاع فأصبح الأفارقة هم الذين يتمتعون بكافة أشكال التمييز، وهو ما عبر عنه الكاتب الجنوب إفريقي الحاصل على نوبل “جي. إم كويتسي” في عدد من رواياته. 

أما في زمن الفصل العنصري فقد بلغ الأمر حد فصل الخدمات الطبية والتعليمية وغيرها (هل يذكرك الأمر بفلسطين؟). هل تلاحظ أن الفصل العنصري امتد لأدب الصهاينة أيضا؟

قامت قوانين الأبارتايد بتقسيم الأفراد إلى مجموعات عرقية، كانت أهمها السود، البيض، الملونون، والآسيويون (هنود وباكستانيون)، وتم الفصل بينهم. بحسب قوانين الأبارتايد اعتبر أفراد الأغلبية السوداء مواطنو بانتوستانات (أوطان) ذات سيادة اسمية لكنها كانت في الواقع أشبه بمحميات الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأمريكية.

هذا الفصل العنصري في الحقيقة قام على ممارسات الرجل الأبيض الذي استعمر قارة إفريقيا، واستخدم التمييز العنصري مبررا لشراء الأفارقة لكي يقوموا ببناء المجتمعات التي يعيش فيها الرجل الأبيض، خصوصًا في الولايات المتحدة الأمريكية، كما فعلت فرنسا في إفريقيا.

كليوباترا الأفريقية

لذلك فحين نسمع اليوم عن فيلم وثائقي يزعم أن الملكة المصرية البطلمية؛ كليوباترا، من أصل إفريقي كما يزعمون علينا أن نفهم أن هذا الأمر لا يخرج عن سلوكيات المضطهدين الذين يريدون أن يعيدوا إنتاج أساطير ليدونوا بها تاريخا مزعوما، وربما تساعد في إنتاج الفيلم بلد مثل الولايات المتحدة التي لم تنجح في علاج العنصرية والتمييز بعد مرور أكثر من قرنين على تاريخها المخزي في استعباد البشر، فتحاول أن تغسل ضميرها بالترويج لمثل هذه الخرافات التي لا تستند على أي أسس، لأن التاريخ المصري القديم مدون على شواهد حجرية عمرها أكثر من 7000 عام، لا يمكن للروايات الأسطورية أن تكذبه أو تنفيه. 

كليوباترا على طريقة نتفليكس

 

ومع هذا كله فعلينا أن نتعامل مع هذه الأمور بموضوعية، وفهم للتاريخ ولحقيقة تاريخنا. لأننا لم نكن يوما ضحايا، وليست لدينا عقد تاريخية. 

“التاريخ المصري القديم مدون على شواهد حجرية عمرها أكثر من 7000 عام، لا يمكن للروايات الأسطورية أن تكذبه أو تنفيه”

لهذا فعلاجنا لمثل هذه الصبيانية والمراهقة الفكرية الأفرو-أمريكية، لا ينبغي أن يتمثل في  تبني صرعات قومية متطرفة ترفض الأجانب، وتتحول إلى بيئة خصبة للإصابة بكافة أمراض العنصرية المقيتة التي لا تؤدي إلا إلى عكس ما تبتغيه. 

التشبث بجذور الحضارة المصرية القديمة لا يعني أن ننفي عروبتنا، أو أن نتخذ أسماء المصريين القدماء، أو أن نرتدي أزياءهم، ولو أن هذا حقا مشروعا لأي أحد لكنه ليس قرينة على الانتماء لهذه الحضارة العظيمة، بل علينا أن نتمثلهم: بالعلم، والقيم الروحية التي كانت فجر ضمير البشرية، والتنظيم والإتقان واليقين في معجزة النفس البشرية إذا أخلصت وعملت على الأرض كأنها تعيش لسبعة آلاف عام وأكثر. 

 

عن إبراهيم فرغلي

كاتب روائي مصري من مواليد 1967، له عدد من الأعمال الأدبية الروائية إضافة إلى أدب الرحلات والكتابة للناشئة واليافعين. وحصل على عدد من الجوائز الأدبية، من بينها جائزة ساويرس لكبار الكتاب في الرواية، وجائزة نجيب محفوظ، ووصلت بعض أعماله للقوائم الطويلة والقصيرة في عدة جوائز مرموقة. له عدد من الدراسات الأدبية والنقدية المنشورة في أغلب الدوريات الثقافية العربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *