أحدث الحكايا

أحمد شوقي يحكي: من ذكريات الرقابة.. حكايات عن زمن يعيد نفسه

في كتابه الممتع “شيء من الحرب”، يروي الكاتب الصحفي والمؤرخ محمد توفيق من ذكريات الرقابة واقعة طريفة ودالة، وقعت عام 1968، عندما قام جهاز الرقابة على المصنفات طوال العام بمنع عدة مسرحيات منها “المزاد” لميخائيل رومان، “كان ياما كان” لمصطفى بهجت بدوي، “الخفافيش” لمحمد يسري محمود، “الطوفان” لمحمد عبد عزّام، و”مطلوب ليمونة” لأحمد سعيد، ناهيك عن إبداء ملاحظات على مشاهد من أعمال أخرى، وحذف أجزاء من أغلب المسرحيات السياسية التي صرحت بعرضها. الأمر الذي استدعى رد فعل غير متوقع على الإطلاق.

حين شكا صناع المسرح من تعنت الرقباء، وأرسلوا شكواهم إلى لجنة المسرح بالاتحاد الاشتراكي، أعلنت اللجنة تضامنها معهم ضد جهاز الرقابة، وأرسلت شكوى إلى عبد المنعم الصاوي وكيل أول وزارة الثقافة، تتهم فيه الرقابة بأنها “اتخذت مواقف من المسرح السياسي أضرت بالفن، وعرّضت النشاط المسرحي للانكماش، وهددته بالتجميد”.

الأخذ بالأحوط!

وأشارت اللجنة إلى لُب مشكلة تفويض جهة إدارية بالرقابة على المسرح، وهي ترسيخ مبدأ “الخطأ في الإباحة يُعرّض الموظف للمسؤولية بينما الخطأ في الحظر لا يُسأل عنه الموظف”. متهمة الرقابة بأنها تحولت إلى سلطة بوليسية، تميل إلى الحظر، وأن الرقيب صار حاكمًا بأمره على الأعمال الفنية، وقد جعل من تصوراته قرارات تسببت في تعطيل الحركة المسرحية، وفق قاعدة “الأخذ بالأحوط وإيثار السلامة” التي اعتمدتها الرقابة في الحكم على الأعمال الفنية.

الطريف أن شكوى لجنة المسرح بالاتحاد الاشتراكي رأت في النهاية أن الاتحاد نفسه يجب أن يصير المرجع في الرقابة على المصنفات الفنية “بوصفه الجهاز السياسي الذي يشرع للفكر ويوجه للإيديولوجية في البلاد، وهو الحامي لحرية الفكر الفني والأمين عليها”!

غلاف كتاب شيء من الحرب

موّال الفن والرقابة

الكتاب الصادر عن دار ريشة، والذي يعود من خلاله محمد توفيق إلى أرشيف الصحافة والمحاضر الرسمية، يحاول توثيق الحراك الفني والثقافي الذي شهدته مصر خلال فترة ما بين الحربين (1967-1973)، بكل من فيها من حساسية وحيرة يتأرجح فيها المجتمع بين معركة قائمة “لا صوت يعلو فوق صوتها”، وبين رغبة في تفريغ شحنة الغضب بدفع هامش الحريات والسماح للفنانين والمثقفين بالتعبير عن شعورهم تجاه المرحلة السابقة للنكسة والتي أدت إليها.

وبخلاف قيمته التوثيقية العالية، والتي يؤكدها ما أثبتته أعمال المؤلف السابقة من إخلاص ورغبة في التعامل مع الأرشيف بجدية وحياد، وتفادي ما تغري به بعض المداخل من إثارة وشعبوية، فإن “شيء من الحرب” يمتلئ بتلك المواقف الصغيرة الدالة، التي قد تكون مرتبطة بزمن أو حدث بعينه، لكنها صالحة لإعادة النظر بمعايير اليوم، عبر مد الخطوط على استقامتها ومحاولة فهم ديناميات العلاقة المركبة بين الفنان والسلطة، سواء كانت سلطة سياسية تدير البلاد، أم سلطة إدارية مفوّضة بتوزيع صكوك المنع والإتاحة للأعمال الفنية.

فمبدأ “مسؤولية الموظف إن أخطأ بالإباحة وعدم مساءلته إن أخطأ بالمنع” صار اليوم وحشًا كاسرًا تصعب مواجهته، فكل موظف في الرقابة يفترض سيناريوهات خيالية يُفسر فيها المشهد بطريقة ما، فيترتب عليه جدل ما، يثير غضب جهة ما، فيقرر المنع خوفًا من التعرض للمساءلة، ويدفع المبدعون ثمن إيثار السلامة، دون أن يكون من حقهم التعويض إذا ما كان تقدير الرقيب خاطئًا.

وفي المقابل تتبرع التنظيمات السياسية بالهجوم على الرقابة وتناصر حرية الفن والتعبير، لكنها تعود وتُنصب نفسها رقيبًا أعلى، لا يقتصر دوره على تطبيق القانون، وإنما يمتد إلى “نشر الفكر وتوجيه الأيديولوجيا”. هل نتحدث هنا عن زمن مضى عليه أكثر من نصف قرن؟ ربما.

معارضة مستقلة ولكن

يواصل الكتاب رصد المواقف الدالة، ففي اجتماع مع مجلس الوزراء طرح الرئيس عبد الناصر رؤية جديدة بضرورة وجود معارضة حقيقية للنظام، تضع رؤية مختلفة وتساعد الحكومة في النهوض بالبلد، ليقترح بعض الوزراء أن يقوم النظام نفسه بخلق المعارضة، فيرد الرئيس وفقًا لمحضر الجلسة: “في تصوري المعارضة مش ممكن تتخلق وإلا تبقى معارضة تمثيلية، ما تبقاش معارضة تبقى عملية ممسوخة وتضحك الناس علينا، إذا كنا عايزين معارضة لازم تبقى معارضة حقيقية”.

 

ثروت عكاشة قال لتوفيق صالح – والعهدة على الكتاب: “كل الناس عارفه إن اللي أنت مطلعه في الفيلم ده عبد الناصر، لكن عشان أحميك لازم تحميني”.

 

كلام رائع بلا شك، لكن الطريف أن موقف الرئيس دفع رئيس مؤسسة السينما سعد الدين وهبة أن يطلب من المخرج توفيق صالح اختيار نص أدبي ويقدم له معالجة سينمائية، ليتحرك صالح سريعًا ويختار “المتمردون” لصلاح حافظ، الفيلم الذي ما إن أنهاه إلا ورفضت الرقابة عرضه، واجتمع به وزير الثقافة ثروت عكاشة ليناقشه في شخصية البطل الطبيب الذي يقوم بثورة داخل مصحة للأمراض الصدرية مقسمة لفئتين للفقراء والأغنياء، والذي يتمرد على النظام الإداري ويقرر أن يحكم المصحة منفردًا مع أتباعه، ولكن لأن النوايا الطيبة لا تكفي، وبسبب انعدام خبرتهم في الإدارة تفشل حركتهم ويخيب أملهم.

ثروت عكاشة قال لتوفيق صالح – والعهدة على الكتاب: “كل الناس عارفه إن اللي أنت مطلعه في الفيلم ده عبد الناصر، لكن عشان أحميك لازم تحميني”.

لقطة من فيلم “المتمردون”

ورغم محاولات صالح للنفي لم يقتنع الوزير، وطلب منه تغيير نهاية الفيلم دون منحه توجيهًا مباشرًا بما يجب حذفه أو تعديله، ليقرر صالح أن تكون النهاية متفائلة: العسكري يزرع الحديقة، والصحفي يعلم الفلاح القراءة والكتابة، وعندما يكتب الفلاح كلمة “ثروة”، يشطبها الصحفي ويكتب كلمة “ثورة”، ويرسل الطبيب رسالة إلى حبيبته مبشرًا إيها بأن مصير كل مصحة في البلد سيكون في يدها.

باختصار، صارت النهاية تحمل معنى كامل الاختلاف عن الأصل، أي بات الفيلم فيلمًا آخر على المستوى الفكري.

التاريخ يعيد نفسه اليوم مجددًا. العامان الأخيران وحدهما شهدا ثلاث حالات على الأقل لأفلام تم تعديل نهايتها أو مسارها الدرامي كي تنال تصريح الرقابة، والمفارقة أن كلها تقريبًا أعمال غير سياسية، لا ترتبط بما يمكن تفسيره وإسقاطه على رأس الدولة كما في حالة “المتمردون”، لكنها قاعدة إيثار السلامة والأخذ بالأحوط مرة أخرى.

سريع الاستثارة

آخر الحكايات الدالة التي نقتبسها من كتاب “شيء من الحرب” هي حكاية وزير التربية والتعليم حلمي مراد، الذي نصّب نفسه خصمًا مباشرًا لجهاز الرقابة وقت رئاسة الناقد مصطفى درويش لها، الفترة التي تعد الأكثر انفتاحًا في تاريخ الرقابة المصرية. الرقباء تداولوا مزحة حول الوزير من كثرة حديثه عن الأفلام بأنه يحرص صباح كل يوم على الذهاب للسينما ومشاهدة الأفلام الجديدة والتدخل لمنعها قبل أن يشاهدها تلاميذ الثانوية.

الوزير محمد حلمي مراد

وفي اجتماع لمجلس الوزراء صمم حلمي مراد على فتح النقاش عن فيلم أمريكي بعنوان “القلب المرح” يراه عبارة عن مغامرة جنسية، فسأله عبد الناصر: “أنت رحته؟”، فأجاب: “رحته يا فندم”، ليضحك الرئيس بصوت عالٍ ويتبعه الوزراء. وعندما حاول وزير الثقافة ثروت عكاشة الإشارة لأن الحد الأدنى لمشاهدة الأفلام المعنونة “للكبار فقط” قد ارتفع من 18 إلى 21 سنة، علق عبد الناصر ساخرًا: “أنا عندي خالد ابني محتج على هذا الرفع، بيقولّي تخلّو الجندية 18 سنة وهنا تقولوا 21 سنة”.

وعندما ضجت القاعة بالضحكات واصل الرئيس باسمًا: “عندي اقتراح نعمل الأفلام الجنسية فوق الخمسين”، ثم سأل وزير التعليم: “هو أنت عندك كام سنة؟” فأجاب مراد: “49”، ليرد عبد الناصر ساخرًا: “يعني قرّبت”. ويعلق ثروت عكاشة: “يبدو أن السيد وزير التربية والتعليم سريع الاستثارة”.

 

فيرد الرئيس وفقًا لمحضر الجلسة: “في تصوري المعارضة مش ممكن تتخلق وإلا تبقى معارضة تمثيلية، ما تبقاش معارضة تبقى عملية ممسوخة وتضحك الناس علينا، إذا كنا عايزين معارضة لازم تبقى معارضة حقيقية”

 

مواطنون غاضبون

لا أملك توكيدًا على أن الحديث السابق دار بحذافيره سوى إشارة محمد توفيق لأن مصدره محاضر الاجتماعات الرسمية لمجلس الوزراء. لكن موقف وزير التعليم وتدخله في شأن لا يعنيه وهو الرقابة على الأفلام ثابت تاريخيًا، وكم لدينا حتى يومنا هذا من مواطنين غاضبين، يفرضون رأيهم الخاص ويجعلوه قاعدة يجب أن تُعمم، وأن يُمنع هذا الفيلم لأنه يشوه – في نظرهم – سمعة البلاد، وذلك لأنه لا يحترم أخلاقيات الأسرة المصرية، والثالث لسبب آخر من نفس النوع الهلامي.

بعد معرفة هذا الحوار، وفي كل مرة يخرج فيها شخص مهاجمًا فيلمًا أو مسلسلًا أو رواية ومطالبًا بالمنع، سيكون تعليقي في الأغلب: يبدو أن السيد المعترض سريع الاستثارة.

عن أحمد شوقي

ناقد سينمائي مصري ومبرمج ومشرف سيناريو. حاليًا هو رئيس الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسى)، ورئيس جمعية نقاد السينما المصريين. ينشر مقالات أسبوعية عن السينما وصناعة الترفيه. كما أصدر ثمانية كتب متخصصة حول السينما المصرية. شوقي يشغل منصب مدير منطلق الجونة، برنامج تطوير المشروعات والإنتاج المشترك الخاص بمهرجان الجونة السينمائي. كما إنه مدير التطوير لمنطقة الشرق الأوسط بمنصة "فيو" الإلكترونية.