ما بين عامي 1932 و2018 امتدت رحلة ثرية من العطاء الفني والإنساني لرائد فن تصميم العرائس في مصر الفنان الدكتور ناجي شاكر، لم يخفت خلالها شغفه بالفن التشكيلي على اختلاف تصنيفاته وظل محتفظا بروحه الشابة التي منحته صداقة مختلف الأجيال.. أصدقاء أدركوا قيمته العلمية والإبداعية ومنحوه عن طيب خاطر لقب “أستاذ الأساتذة” أما الجمهور العام فقد تعرف عليه عبر أوبريت الليلة الكبيرة الذي أبدع في تصميم عرائسه وتوالت من بعده أعماله الخالدة في ذاكرة المسرح والسينما أيضا.
نشأ ناجي شاكر في منزل بحي الزيتون الذي كان وقتها منطقة سكنية هادئة على أطراف القاهرة تحيطها الأشجار والحقول. كان أبوه موظفا بمصلحة السكك الحديدية فأطلق عليه الفلاحون “الأفندي”. لم يخل ذلك المشهد الذي تجاورت فيه الثقافة الريفية بالمدنية من بصمة كوزموبوليتانية إذ كان للعائلة جار أجنبي من مالطا استرعى انتباه “ناجي” فرآه بعيون فنان لا تغيب عنه أدق التفاصيل؛ استوقفته ضخامة جسده وغموضه وكلبه المرعب الذي يتبعه أينما ذهب، ظل ينسج حوله تصورات مختلفة، مقلقة في معظمها، دون أن يعرف أن هذا الرجل سيفتح له يوما ما بابا نحو عالم ساحر سيظل حتى آخر العمر مشدودا نحوه.
مثلت “كاميرا” الجار الأجنبي جسر التعارف مع ناجي وإخوته، حينما بدأ الجار في تصويرهم ومنحهم فرصة متابعة “تحميض” الصور، وكم كانت تلك المهارات مبهرة لأطفال في مقتبل العمر في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين!
عبر الكاميرا اكتسب الجار الغامض ثقة “ناجي” لكنه نال محبته بعد تلك الليلة التي وجه له فيها الدعوة بصحبة العائلة لمشاهدة فيلم على ماكينة السينما التي يقتنيها في منزله.
منذ ذلك اليوم انتبه “ناجي” لسحر الصورة والإضاءة وتمنى أن يدرس السينما لكن هذا النوع من الدراسة لم يكن قد أتيح بعد في مصر.
الرسم
كانت موهبة الرسم قد ظهرت بوضوح على “ناجي” في مرحلة مبكرة من عمره فاهتم والداه بأن يتعلم أصول هذا الفن على يد الفنان الإيطالي كارلو مينوتي واستكمل تعليمه بمدرسة ليوناردو دافنشي قبل ان يلتحق بكلية الفنون الجميلة ويكشف مواهب جديدة فاجأت أساتذته.
وكان اختياره للعرائس كمشروع تخرج اختيارا مفاجئا وغريبا إذ كان أول طالب يتجه نحو هذا التخصص واعتبره إلهاما خاصا قاده نحو المجال الذي تجلت فيه موهبته وحقق فيه نبوغا كبيرا، وكانت المصادفة أن تلاقى الحلم الخاص مع الحلم العام فبعد عام واحد من تخرجه وتحديدا في 1958 شكل الدكتور علي الراعي -رئيس مصلحة الفنون آنذاك- أول فرقة للعرائس تم تدريب كوادرها التسعة واختيارهم من بين 300 فنان على أيدي خبراء رومان من أكثر مسارح العالم شهرة في هذا المجال، وكان ناجي شاكر ضمن تلك المجموعة التي تدربت على تصميم العرائس والديكور.
الليلة الكبيرة
وفي عام 1959، ظهر للنور “الشاطر حسن” أول عرض مسرحي مصري للعرائس من تأليف صلاح جاهين الذي كان شريكا لناجي شاكر فيما بعد في أكثر من عمل متميز لحبه الشديد لمسرح العرائس؛ أشهرها أوبريت “الليلة الكبيرة” الذي كان عملا غنائيا إذاعيا أحبه “ناجي” واقترح على جاهين وسيد مكاوي تحويله الى عرض بالعرائس، وهو الأمر الذي اعتبره الاثنان مغامرة مجنونة لصعوبة تنفيذه وكثرة شخصياته وديكوراته لكن حماس واقتناع “ناجي” سهل المهمة الصعبة.
“ولم يكتف “ناجي” بذلك وانما طلب من جاهين ومكاوي إضافة مشاهد أخرى للأوبريت لتصل مدته إلى نصف ساعة.”
ومن بين المواقف الطريفة التي جرت خلال تنفيذ هذا العمل الخالد تصميم “ناجي” لإحدى شخصياته وهي شخصية “النشانجي” بحيث تشبه جاهين في ملامحه وخفة ظله وهو ما أسعد جاهين كثيرا لكنه جزع بعد أن أبدى له “ناجي” نيته كسر الرأس المستدير وتفريغه لتخفيف وزن العروس وسهولة تحريكها؛ رفض جاهين أن تكون العروس التي تمثله فارغة الرأس ووضع فيها “نصف ريال”، لايزال موجودا داخلها حتى اليوم.
اختير أوبريت “الليلة الكبيرة” للمشاركة في مهرجان العرائس الدولي برومانيا في سبتمبر 1960، وكان مدهشا أن يفوز العمل الثاني في تاريخ فن العرائس المصري بالجائزة الثانية في تصميم العرائس والديكور من بين 27 عرضا من دول مختلفة وكان أبرز أسباب حصول “ناجي” على هذه الجائزة، الطريقة التي استخدم بها الإضاءة مع كتلة النحت بحيث تبدو ملامح كل شخصية واضحة ومميزة رغم صغر حجم العروس التي لايتخطى طولها عادة 30 سم.
مسرح العرائس
في ذلك الوقت كانت الدولة قد انتبهت لأهمية هذا الفن وسارعت في عام 1960 بتأسيس أول مسرح للعرائس بتكلفة تقدر بمائة ألف جنيه.
ونتيجة لتفوقه حصل ناجي على منحة دراسية من ألمانيا الغربية درس خلالها المسرح فى كلية الفنون الجميلة فى برلين وفنون العرائس والإخراج فى كلية الفنون فى براونشفايج امتدت من عام 1960 حتى 1963.
وواصل ناجي شاكر مشواره مع الفن الذي أحبه فقام بتصميم العرائس لمسرحيات “بنت السلطان”، “حمار شهاب الدين”، “مدينة الأحلام”، “الولد والعصفور”. كما قام بتصميم الديكور والأزياء لعدد من الأعمال المسرحية منها “سهرة مع الجريمة”، “الزير سالم”، “الكل في واحد”، “شغل أراجوزات”، “غربة”.
الحلم الذي ضاع
لكن ظل تأسيس معهد مستقل لفن العرائس حلما يراوده حاول تحقيقه في عهود مختلفة دون جدوى فبعد أن كانت الدولة مهتمة بالفنون عموما والمسرح على وجه الخصوص في الستينيات وأنشأت نحو 20 مسرحا تقدم عروضا شهرية وتستقطب جمهورا من مختلف فئات المجتمع خفت الحضور الثقافي والفني خلال فترة السبعينات. ورغم محاولاته مع رفاقه المتخصصين إنشاء قسم لمسرح العرائس بمعهد الفنون المسرحية وقيامهم باعداد المناهج الدراسية الملائمة لم يجد المشروع أي استجابة رسمية.
لم يستسلم ناجي شاكر وانما مضى في طريقه ما بين طموحه الفني متعدد المسارات وتحصيله العلمي، وبالفعل حصل في عام 1971 على الدكتوراه فى ديكور المسرح من كلية الفنون الجميلة بروما.
حلم السينما
وفي عام 1972 حقق ناجي شاكر حلمه القديم بالسينما حيث شارك الإيطالي باولو ايسايا إخراج وتصوير وكتابة سيناريو فيلم تجريبي أثار اهتمام وإعجاب النقاد في مصر وايطاليا عنوانه “صيف 70″، الغريب أنه لم يكرر التجربة وإنما خاض تجربة أخرى شهدت أيضا على براعته من خلال الإشراف الفني وتصميم الديكور والملابس لفيلم “شفيقة ومتولي”، عام 1978.
واصل الدكتور ناجي شاكر رحلته مع الفن ممارسا له لا يكف عن التجريب حتى أنه أقام قبل بضع سنوات من رحيله معرضا تجريبيا بعنوان “حديث الضوء” وكان لدوره كأستاذ غير متفرغ بكلية الفنون الجميلة منذ عام 2007 أكبر الأثر في دعم أجيال مختلفة من براعم الفنانين الذين ظل مؤمنا بمواهبهم وتميزهم عن أقرانهم عالميا ولم يبخل عليهم بعلمه ولا مشورته ودعمه حتى صار معظمهم من كبار الفنانين وأبرز الأكاديميين.
تم تكريم صاحب “الليلة الكبيرة” محليا ودوليا وحصل على عدة جوائز أهمها جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 2015، لكن ظل التكريم الأهم في حياته تلك المكانة التي شغلها في قلوب تلاميذه وزملائه حيث امتزج الجانب الإنساني الحنون بالجانب الفني المغامر في شخصيته لذا كان مشهدا مألوفا أن تجده أينما وجد محاطا بصحبة من محبيه من مختلف الأجيال تعلموا منه المحبة بقدر ما حصلوا من علم وإبداع.
رحلة فن
وكان طبيعيا أن يمتد الاعتراف بقيمته والوفاء لشخصه بعد رحيله متمثلا في إقامة عدة معارض لأعماله كان آخرها معرض “رحلة فن” الذي نظمته جامعة حلوان على مدار شهر يونيو الماضي وضم لوحات فنية فريدة بتقنيات مختلفة، بالإضافة لأعمال تعبيرية تعكس روح الثقافة المصرية.
وإن ظل التكريم الحقيقي الذي لم يتحقق حتى الآن تحويل أمنيته القديمة إلى واقع بإنشاء معهد لفن العرائس لدعم وصقل الكوادر الفنية كي تلحق مصر بمن سبقوها في هذا المضمار بعد أن ولد بها فن العرائس عملاقا واقتنص منذ بداياته اعترافا وتقديرا دوليا.