أحدث الحكايا

د. أيمن بكر يحكي (حكايات ثقافية): هل تنقذنا “البريكس” من “الهوية المفترسة”؟

في خريف ٢٠١٢ كانت المرة الأولى التي أقدم فيها ورقة باللغة الإنجليزية في مؤتمر دولي كبير. المؤتمر في الهند بالتعاون بين جامعة “جايبور” وأكثر من جامعة أمريكية. كان هناك عدد كبير من الأسماء المشهورة في المؤتمر، لعل أهمهم أرجون أبادوراي المفكر الأمريكي من أصل هندي وعالم الأنثروبولوجيا وأحد أشهر المنظرين عن العولمة، الذي لم أكن قد التقيته من قبل، وكذلك باجيت هنري المفكر الكاريبي المشهور. كانت مشاركتي حول التحولات التي أصابت إنتاج المعرفة في الثقافات العربية خاصة في مجال العلوم الإنسانية، ومحاولة لتفسير لماذا توقفنا عن المشاركة الفعالة بصورة مؤسسية منتظمة ضمن تيارات الفكر العالمي.

مرحبا أنا أرجون أبادوراي

اسم مصر الموضوع بين قوسين أمام اسمي زاد من إحساس المسؤولية بصورة لم أكن أتوقعها، لدرجة أصابتني بحالة جمود قبل موعد الندوة بدقائق، حتى أني تأخرت في اتخاذ موقعي ضمن المنصة. كان مقدم الندوة هو باجيت هنري، ولم يكن أبادوراي موجودا في القاعة. انتهت الندوة وقد حظيت ورقتي بعدد لافت من الأسئلة.

في اليوم الثاني وجدت شيخا هنديا بسيط الثياب يمسك بعلبة سجائر محلية يسألني:

– مرحبا.. هل أنت من قدم ورقة عن أحوال المعرفة العربية؟

= نعم.

– قال لي باجيت هنري إن ورقتك مهمة.. أنا أرجون أبادوراي.

أرجون أبادوري

انتفضت وأنا أسلم عليه بحرارة وبعدها انتحينا جانبا رغبة منه في التعرف على ما قدمت. كان يستمع بهدوء وتفكر، ويطرح عليّ أسئلة بعضها حمل في طياته اقتراحات لتطوير البحث. دارت حوارات كثيرة انضم لها أحيانا باجيت هنري وآخرون.

صرنا نخرج من الندوات لنكمل الحوار حول كوب من الشاي وكثير من دخان السجائر الهندية الساخنة. قال أبادوراي إن له كتابا جديدا على وشك الظهور بعنوان (Future as a Cultural Fact)، اقترحت عليه أن أقوم بترجمته إلى العربية، وافق بترحيب، وبالفعل أرسل لي بعد المؤتمر البروفة النهائية من الكتاب قبل صدوره، وأوصلني بمدير دار النشر.

كتاب «The Future As Cultural Fact»

أعددت مشروع الترجمة وأرسلته لإحدى الجهات المشهورة بنشر الكتب المترجمة، التي تأخرت في الرد، حتى فاجأني مدير دار النشر، وكان إسبانيا، بأن هناك جهة أخرى تطلب حقوق الترجمة، ويريد أن يعرف موقفي ورأيي في هذه الجهة. سألته عنها وعن اسم المترجم، فقال لي إنه المركز القومي للترجمة في مصر، وإن المترجم اسمه طلعت الشايب. لم أتردد لحظة في القول إن هذا هو الاختيار الأمثل وإن الشايب أهم من أي مترجم آخر. ورغم أني خسرت ترجمة كتاب مهم، داخلتني راحة وسعادة كبيرة بأن الكتاب سيصدر في مصر، وبأنه سيصدر بصورة مشرفة وترجمة محترمة تخلو من الأخطاء التي لاحظتها في ترجمة كتاب آخر لأبادوراي.

كتاب «المستقبل واقعًا ثقافيًا» من ترجمة طلعت الشايب

أما الجانب الثقافي/ المعرفي فيتمثل فيما دار حولي من كلام عن “حوار الجنوب”. كانت المرة الأولى التي أسمع فيها المصطلح مقرونا باسم تكتل البريكس (PRICS)

“حوار الجنوب” الشهير بالـ”بريكس”

حتى هنا ينتهي الجانب الشخصي من الحكاية. أما الجانب الثقافي/المعرفي فيتمثل فيما دار حولي من كلام عن “حوار الجنوب”. كانت المرة الأولى التي أسمع فيها المصطلح مقرونا باسم تكتل البريكس (PRICS) (اختصار لأسماء الدول الخمس المؤسسة للتكتل وهي بالترتيب: البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا). إنه قوس من الدول يحيط العالم من الجنوب تقريبا، ويمثل ما يعادل ٢٧٪ من مساحة اليابسة، ويمثل عدد سكانه ٤٠٪ من سكان الأرض تقريبا. بدأ التكتل عام ٢٠٠٦ بأربعة دول لم تكن من بينها جنوب أفريقيا التي دعيت لحضور اجتماع البريكس هي وفلسطين عام ٢٠١٠ ثم انضمت بعد ذلك في ٢٠١١.

البريكس هو تكتل اقتصادي يحاول الإفادة من إمكانات الدول الأعضاء ومواردها في صنع توازن اقتصادي مضاد للهيمنة الأورو-أمريكية على الاقتصاد العالمي، لذلك أنشأت البريكس كيانين اقتصاديين مهمين ينافسان البنك وصندوق النقد الدوليين، هما بنك التنمية الجديد (NBD) أو (New Bank of Development)، وكذلك صندوق يتعامل مع حالات الطوارئ الاقتصادية خاصة ما يتصل بضغوط نقص السيولة، ويسمى هذا الصندوق “ترتيبات احتياطي الطوارئ” الخاص بدول البريكس (BRICS CRA) (BRICS Contingent Reserve Arrangement).

 

صورة توضيحية لدول البركيس

لم يكن الكلام مقتصرا على طموح هذا التكتل في تنمية اقتصادات البلدان المشاركة فيه، والخروج من هيمنة المؤسسات الدولية القائمة، التي تعمل لصالح مراكز رأس المال العالمية وتبدو منفذة لسياسات الدول الغربية الكبرى وخاصة أمريكا، في الوقت الذي تضغط فيه على الاقتصادات الناشئة وتضع لها سقفا للطموح الاقتصادي وشروطا مجحفة للاستدانة. أقول لم يقف الكلام عند هذا الحد بين المتحاورين (الذين وقفت بينهم مستمعا لا أكثر في ذاك الوقت)، بل تجاوز إلى أزمة الرأسمالية التي يبدو أنها تزيد من مشكلات الفقر والجوع في العالم، وهو ما أنتج تلك الموجات من النزوح الشرعي وغير الشرعي باتجاه الغرب، الذي كان يظن نفسه بعيدا عن مناطق النزاع، ومساحات الفقر والجهل التي خلقتها سياسات الرأسمالية المتوحشة، وما نتج عنهما من حركات إرهابية.

لقد ترك الغرب الاستعماري/الرأسمالي آثاره على ثقافات العالم، حين خلق نموذجا لفكرة “الهوية المفترسة” التي طرحها أرجون أبادوراي عام ٢٠٠٦ في كتابه “الخشية من الأعداد الصغيرةFear of Small Numbers “

البريكس كفرصة ثقافية

تجدد الكلام منذ أيام عن البريكس، ولكن بصورة أقرب لنا حين تم إقرار عضوية عدد من الدول من بينها مصر في المجموعة. هنا استعدت كل ما سمعت في ٢٠١٢ من المفكرين المجتمعين في جايبور الهندية، وبحثت عن المزيد حول البريكس ودورها، ومستقبلها الذي يتوقع بعض المحللين أن يكون مؤثرا في أسس الاقتصاد العالمي بحلول ٢٠٤٠ بصورة قادرة على إعادة ترتيب القوى الاقتصادية/السياسية في العالم.

لكن شيئا مختلفا يدور في ذهني الآن حول إمكانات البريكس بعيدا عن الحسابات الاقتصادية. ألا يمكن أن يتحول التقارب بين دول البريكس إلى فرصة ثقافية تقدم للعالم مخرجا من حالة انهيار القيم وتراجع دور العلوم الإنسانية والفنون؟ لقد ترك الغرب الاستعماري/الرأسمالي آثاره على ثقافات العالم، حين خلق نموذجا لفكرة “الهوية المفترسة” التي طرحها أرجون أبادوراي عام ٢٠٠٦ في كتابه “الخشية من الأعداد الصغيرة” (Fear of Small Numbers)؛ تلك الهوية التي تدعي تمثيلها للأمة/ القيم النبيلة/ الأخلاق/ المبادئ الدينية أو الحزبية، وتدعي أيضا أنها تحوز الأغلبية ولكنها رغم ذلك تشعر بالتهديد من الهويات العرقية أو الدينية أو الفكرية الصغيرة، ولذلك تسعى الهوية المفترسة إلى محو تلك الهويات الصغيرة من الوجود.

Fear of Small Numbers

الرأسمالية تبدو الآن كقاطرة فقدت السائق وتتحرك بسرعة قصوى إلى مجهول مخيف على المستويين الاقتصادي والثقافي، وهنا يبدو تجمع البريكس فرصة ليس فقط لتعاون اقتصادي، بل لتعاون ثقافي

ولنا أن نتساءل عن سياسات الرأسمالية التي تمثل كيانا مفترسا، ألم تدمر تلك السياسات التجارب الاقتصادية التعاونية (ولا أقول الاشتراكية) التي حاولت صنع حمايات اجتماعية للطبقات الأكثر هشاشة، وضبط الفوارق الطبقية ومنعها من الاتساع؟ ألم تمثل الرأسمالية هوية مفترسة دمرت سعي الدول النامية في الستينات إلى النهوض من خلال هذه السياسات التي تحاول الحفاظ على اللحمة الاجتماعية، كما كان الحال في الأرجنتين وشيلي ومصر وغيرها؟ ألم يتدخل فتيان مدرسة شيكاغو في الاقتصاد (كما تسميهم ناعومي كلاين في كتابها “عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث”) الداعين لسوق حرة بصورة كاملة من تدخل الدولة، ليدعموا بصورة مباشرة ديكتاتوريات دموية كتلك التي قادها الجنرال بينوشيه في شيلي، ما أدى إلى تدمير تلك التجارب ذات الصبغة الإنسانية، فارضين بقدر مخيف من العنف السياسي نمط السوق المفتوح الخالي من أفكار الرحمة والتعاون والتكافل، السوق الذي فتح المجال لقيم التنافس العنيف والقنص واستخدام كل الوسائل في سبيل صناعة المكسب، وهو ما تحول من نمط اقتصادي إلى نمط تفكير يتحكم في القيم والسلوك والعلاقات الاجتماعية في العالم كله؟ لقد مثلت السوق الحرة فكرة اقتصادية حملت في طياتها فلسفة تحكم السلوك الاجتماعي والأخلاقي والثقافي بصورة عامة، حيث جعلت من كل شيء سلعة خاضعة لقانون العرض والطلب، لتمنح قدرة مطلقة لمن يملك الثروة أيا كانت طرق الوصول إليها، ليحقق كل أحلامه أيا كانت تفاهتها، أو بذخها، أو عنصريتها، أو حتى تطرفها على حساب موارد الكرة الأرضية وأمنها البيئي، ومليارات البشر ممن يعانون الجهل والفقر والمرض؟

كتاب «عقيدة الصدمة .. صعود رأسمالية الكوارث»

الرأسمالية تبدو الآن كقاطرة فقدت السائق وتتحرك بسرعة قصوى إلى مجهول مخيف على المستويين الاقتصادي والثقافي، وهنا يبدو تجمع البريكس فرصة ليس فقط لتعاون اقتصادي، بل لتعاون ثقافي قادر علي طرح فلسفات اجتماعية وأخلاقية أكثر إنسانية واحتفاء بالحياة، وقدرة على صنع توازنات اقتصادية من نوع مغاير، اعتمادا على ثقافات دول البريكس المتنوعة والعريقة.

عن د. أيمن بكر

حاصل على الدكتوراة في جامعة القاهرة، أستاذ الأدب والنقد والدراسات الثقافية في جامعة الخليج للعلوم والتكنولوجيا بالكويت. ورئيس قسم العلوم الإنسانية والاجتماعية. له عدة كتب في النقد الأدبي والثقافي منها السرد في مقامات الهمذاني (1998)، وتشكلات الوعي وجماليات القصة (2002)، وقصيدة النثر العربية (2009)، انفتاح النص النقدي، بالإضافة إلى مؤلفاته الشعرية مثل ديوان «رباعيات» بالعامية المصرية، والروائية مثل «الغابة». فاز بكر ٢٠٢١ بجائزة الشارقة لنقد الشعر العربي في دورتها الأولى عن كتاب بعنوان: الطقوسية، السردية، المبالغة، نحو نظرية للشعر العربي الحديث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *