أحدث الحكايا

د. هيثم الحاج علي يحكي: حكاية الشيخ أبو العلا محمد.. عراب الفن الجميل

“هيييه.. فين أيام الزمن الجميل”

يحلو لنا كثيرا ترديد هذه الكلمة المطاطة التي تعبر عن حنين ما إلى زمن نعتبر أن الفن فيه كان هادفا وجميلا، أو قيمة غابت في عصرنا، وفي الحقيقة فإن كل زمن فيه فنه الجميل بهذا المعنى وفيه أيضا ما دون ذلك، غير أن ما يبقى دائما في الذاكرة هو ما يعبر عن معنى الجمال كما نفهمه.

في بدايات القرن العشرين كانت الموسيقى والأغاني أقرب إلى أن تكون غير معبرة عن معنى الفن الجميل على الإطلاق، ففيها من الابتذال والسطحية ومخاطبة الغرائز الكثير، وربما كانت هناك أسماء ممن صاروا نجوما فيما بعد من أولئك الذين ركبوا موجة الانتشار تلك، ومنهم من سار عكس اتجاه ما يريده الجمهور ليفرض ذائقة راقية ومعبرة عن التوجه الجمالي المصري الحقيقي.

ومن أهم هذه الأسماء التي سارت عكس الاتجاه الشيخ أبو العلا محمد، الذي عرفنا اسمه فقط على نطاق واسع عند عرض مسلسل أم كلثوم حيث تم تشخيصه عن طريق الممثل القدير رشوان توفيق، وعرفنا القليل عن هذا الشيخ الذي كان له الفضل في تحويل أم كلثوم من الإنشاد إلى الغناء، ثم إلى الغناء الراقي الرصين، ليكون أبو العلا محمد بذلك واحدا من أوائل من يصدق عليهم تعبير صانع النجوم.

الشيخ أبو العلا محمد
رشوان توفيق مجسدا شخصية أبو العلا محمد في مسلسل “أم كلثوم”

حكاية أبو العلا محمد

ولد أبو العلا محمد في قرية بني عدي بمركز منفلوط بمحافظة أسيوط عام 1884، على أقرب تقدير، عن أب يرجع نسبه إلى الشيخ أبو الحسن العدوي شيخ شيوخ فقهاء المالكية في مصر القرن الثامن عشر.

بعد أن أبلى بلاء حسنا في حفظ القرآن في كتاب القرية اتجه إلى علم القراءات والتجويد حيث برع فيه وامتاز بحلاوة الصوت وحسن القراءة، وبدأ في صباه هاويا للإنشاد الديني ما جعله يهاجر إلى القاهرة في مطلع شبابه حيث مجال العمل أوسع، وهناك عرف الموسيقى وتعلمها فاتجه إلى الإنشاد مع تخت موسيقي، وكانت بداية عمله في إحياء حفلات الأفراح والسبوع والطهور، ومما يحكى عنه أنه أحيا حفل سبوع أحمد رامي حيث كان صديقا لأبيه.

أبو العلا محمد

 

كان الاتجاه الذي سار فيه الشيخ أبو العلا لتحسين المجال الغنائي عموما، ومحاولة استكشاف أصوات جديدة يتم تقديمها للجمهور من هذا الطريق الرصين، وهو ما جعله يجد ضالته في أم كلثوم وعبد الوهاب.

 

انطلاقة موسيقية

سجل أبو العلا محمد أولى أسطواناته عام 1912، وهو ابن الثامنة عشر وقد لاقت نجاحا كبيرا وأسهمت في خروج الموسيقى الرصينة من المجالس الخديوية ليسمعها العامة ربما للمرة الأولى، فقد كان يختار ألفاظه بعناية شديدة ويصر على غناء القصائد العربية الرصينة، في الوقت الذي أثارت فيه أغنيات مثل “ارخي الستارة اللي في ريحنا” موجات استهجان شعبية في ذلك الوقت، فكان الاتجاه الذي سار فيه الشيخ أبو العلا لتحسين المجال الغنائي عموما، ومحاولة استكشاف أصوات جديدة يتم تقديمها للجمهور من هذا الطريق الرصين، وهو ما جعله يجد ضالته في أم كلثوم وعبد الوهاب، ومن هنا كانت رعايته لأم كلثوم وتعهده بها وسيلة لبدء مرحلة جديدة في تاريخ الغناء المصري كان هو عرابها الأول، منذ أول ألحانه لها وهي أغنية “الصب تفضحه عيونه” ثم عن طريق مساهمته في تكوين واحد من أهم الثنائيات في هذا المجال، أم كلثوم ورامي، بل ورعايته لهذا الثنائي بالمشاركة والنصح في البداية.

اسمع «وحقك أنت المنى والطلب» بصوت أبو العلا محمد وأم كلثوم من هنا 

الشيخ أبو العلا محمد وأم كلثوم

 

توفي أبو العلا محمد بعد ثقل مرض السكر عليه مما أصابه بالشلل وعدم القدرة على التلحين أو الغناء وكانت وفاته في عام 1927، عن عمر يناهز ثلاثا وأربعين عاما حفلت بإنتاج ضخم، والأهم أن هذه الحياة القصيرة كانت مفرق طريق ربما في الفن المصري عموما.

الآن ونحن نعرف تلك الشخصية، كما نعرف أن الفن قد امتد في نسله فحفيدته هي الفنانة الكبيرة ليلى عز العرب، ألا نجد احتفاءً بإنجاز هذا الرجل الذي كان له إسهامه الخاص في تطوير الموسيقى العربية ووضعها على خريطة الفن الجميل؟

عن د. هيثم الحاج علي

شاعر وناقد، أستاذ مساعد الأدب العربي الحديث والنقد بكلية الآداب جامعة حلوان. شغل سابقا العديد من المناصب في وزارة الثقافة المصرية مثل: رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرة الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية، له العديد من الكتب النقدية والإبداعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *