وُلد الشيخ دراز في إحدى قرى محافظة كفر الشيخ، في عام 1894، وبعد أن أنه دراسته الأزهرية درس فلسفة الأديان في جامعة السوربون، ونال منها شهادة الدكتوراه، حيث أقام في فرنسا 12 سنة، عاصر خلالها الحرب العالمية الثانية، وأنهى رسالة الدكتوراة الخاصة به، بعنوان “الأخلاق في القرآن” باللغة الفرنسية.
واستمرارا مع الرسائل، ودون قطع مطلق لخط العائلة نتعرف على ملامح علاقة الشيخ دراز بالسلطة في مصر بعد ثورة 1952، حيث طلب قادة الثورة من دراز أن يتولى مشيخة الأزهر، لكنه رفض بعد أن طلب استقلالية كاملة لمؤسسة الأزهر.
وفي خطابات أخرى بينه وبين الإذاعة المصرية، نكتشف رفضه المتكرر لبعض الأفكار التي طرحتها عليه الإذاعة، واقتراحه أخرى. ونكتشف طلب الإذاعة منه حذف بعض العبارات من أحاديثه، فما كان منه إلا الرفض والاعتذار فيما بعد عن تقديم فقرته بالإذاعة، وقوله: “لن أساهم في إخفاء الحقيقة“.
تابعنا في الفيلم أيضا الخط المرتبط بأثر دراز على أشخاص آخرين، مثل الدكتورة ملكي الشرماني، أو الشاب أحمد الفقي، الذي تحول من الفكر المتشدد المتطرف إلى التدبر والتفكير بعد أن عرف طريق كتب ولقاءات دراز، والدكتورة أميمة أبو بكر، أستاذ الأدب الإنجليزي المقارن، والكاتب الصحفي إبراهيم عيسى، والشاب الريفي البسيط الذي ظهر في الفيلم، فاقدًا بصره منذ الطفولة، فوجد مأمنه في الاستماع إلى تسجيلات دراز الإذاعية، مما دفعه إلى تسجيل أغلبها، ونشرها على قناة خاصة باسم الشيخ على يوتيوب.
بالعودة من جديد للربط بين الخطين أو الاتجاهين (الحياة العملية، والحياة الشخصية) اللذين لم ينفصلا طوال الفيلم، يتضح فكر هذا الرجل، غير المائل للتشدد، بل ويتضح ما هو خارج سياق الفيلم، حيث توجه السلطة بفرض بعض الشروط على دراز بالإذاعة وفي منصب الأزهر ورفضه لهما، يؤكد أنه في المقابل، كان هناك سعي دائم من السلطة حينها للبحث عن غيره ليوافقوا توجهها، ومنهم من أصبحوا نجومًا ذات أسماء لامعة عنه ومعروفين للعامة، ومنهم من حاول تقنين عمله داخل سياق السلطة وشروطها حتى ينال القدر الأكبر من الشهرة، وبخاصة وقت عصر الانفتاح في عهد الرئيس محمد أنور السادات، وسيطرة الخطاب الديني الذي حول الدين إلى مظاهر و”موتيفات” كدلالة على الإيمان والتقوى، مثل الحجاب أو النقاب، واللحية، وعلامات الصلاة على الجبهة، تلك الأشياء التي لم يفرضها الشيخ على عائلته، والرسائل المليئة بالحب والدفء والكثير من روح الدعابة لديه مع أبنائه.
هذا النموذج المختلف عن صورة رجال الدين المعتادة، بجانب تقديمه داخل فيلم سينمائي يحمل دلالته، ويحمل أيضًا فنياته المتسقة مع الحالة الحميمية المقصودة من تدرج سلس في السرد، وصورة سينمائية تتنقل بين أفراد العائلة داخل منازلهم، وموسيقى الفيلم المؤلفة لـ خالد الكمار وسؤال السيدة عن انتمائي للعائلة، كل هذا أدخلني في حالة بحث قوي منذ مشاهدة الفيلم عن هذا الرجل، ومازلت في مرحلة قراءة أول كتابين له تمكنت من الحصول عليهما إلكترونيًا وأولهما “الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان”، والثاني “كلمات في مبادئ علم الأخلاق”، واستوقفني في الأول تفكيكه لمفهوم أن “الإله يهيمن على شؤون الناس” ومفهوم “المتدين”، والثاني يستند في تحليله على تفكيك مفهوم الأخلاق بين الغريزي والمكتسب، والشق النظري والعملي، وآراء الفلاسفة والاستناد عليها، والتعامل الدائم مع الأمور بشأن البحث العلمي وما يحويه من مراجع، بجانب الأسلوب المُبسط في الكتابة، الذي لا يحتاج متخصصا في علوم الدين حتى يستطيع مواصلة القراءة، فالأهم من الاتفاق أو الاختلاف مع الأفكار المطروحة بالكتب هو طرح سؤال لماذا لم نكن جميعًا على معرفة مسبقة بالشيخ محمد عبدالله دراز، في مقابل شهرة آخرين من نفس جيله؟
فسؤال هذه السيدة لي، وتلك الحالة الحميمية بفيلم ماجي مرجان، جعلتني أستشعر حقًا بجزء من القرابة، بل وأتسأل هل لابد لي أن أنتمي حقا لعائلته المتفتحة حتى أطلع على كتب هذا الرجل، ومن هنا بدأت البحث، وكذلك توثيق التجربة بهذا المقال.
ويمكنكم قراءة الجزء الأول من هذا المقال عبر الرابط التالي 👇🏻
الشيخ دراز.. الأزهري الذي رفض المشيخة والنمطية!