أحدث الحكايا
illustration of stairs on the way to heaven

شريف صالح يحكي (على باب الله): هل سيلغي الله الجنة؟

منذ أيام أثار الشيخ علي جمعة الجدل بقوله: “وارد أن يلغي الله النار في الآخرة”. فإذا كان هناك احتمال أن يلغي الله النار، لأي سبب، فما المانع أن يلغي الجنة أيضًا؟ فطالما انتفى العقاب، انتفت المكافأة أيضًا! وربما تسميات الجنة والنار والصور اللغوية المتعلقة بهما من قبيل المجاز. فكيف تصور البشر الجنة والنار عبر آلاف السنين؟

صورة تعبيرية

جحيمي الشخصي

كيف بدأ جحيمي الشخصي؟

بدأ مع العيب والحلال والحرام.. مع أول تحذير عملي في طفولتي: الكي بالملعقة. تهديدات وأدعية مثل: “أولع فيك” و”ربنا يحرقك بجاز وسخ” و”ربنا يجحمك”. بدأ من تخويفي بالعفاريت وجنيات البحر و”أبو رجل مسلوخة”.

كان المخيال الشعبي يشكل وعيي وضميري، ويترجم السخاء اللغوي المعبر عن “النار” في القرآن الكريم، حيث ذكرت حوالي 145 بأسمائها وصفاتها ومنها: الجحيم، جهنم، سقر، الهاوية، دار البوار، السعير، سِجيّن، السَموم، أسفل سافلين، سوء الدار، وبئس المهاد.

وطالما هناك “نار” ينتهي إليها الأشرار، فحتمًا يقابلها “جنة” ينعم فيها الطيبون، حيث ورد ذكرها حوالي 139 مرة، ومن أسمائها وصفاتها: النعيم، دار السلام، دار الخلد، جنة المأوى، الفردوس، جنة عدن، مقعد صدق.

صورة تعبيرية

 

يحتل “المكانان”، مكانة بالغة الأهمية، لأن الإيمان بوجود “جنة” للطائعين، و”جحيم” للعاصين، يستلزم الإيمان بالبعث واليوم الآخر، ووجود إله عادل، وملائكة تنفذ مشيئته، وكتب مقدسة بمثابة دساتير تحدد للبشر العمل الصالح والعمل الطالح. وبدون شرط الثواب والعقاب، تضعف المنظومة الإيمانية كلها.

وبرغم أن كليهما يرتبط بالوعد والوعيد الأخروي المؤجل، لكن التخويف اليومي بالجحيم كان جحيمًا يسكنني وأسكنه. خصوصًا أن فكرة “التخويف” و”الترهيب” كانت أكثر حضورًا من فكرة “التحبيب” و”الترغيب”. يُراد لك أن تصلي خوفًا من النار، أكثر مما يراد لك أن تصلي حبًا لله وقربًا منه. يُراد لك أن تستشعر الله القوي الجبار المنتقم، قبل أن تحب الرحمن الرحيم غافر الذنب وقابل التوب.

كانت نشأتي مليئة بهذا التخويف، وتعظيم الشعور بالذنب، لدرجة أنني في سن المراهقة قررت مع صديق أكبر مني، أن ننسخ ورقة متعلقة بأحكام ترك الصلاة، وعذاب القبر والثعبان الأقرع. كانت تلك الصورة مخيفة جدًا لي مع كراهيتي الشديدة للزواحف.

وكان من يحيطون بنا من جماعات دينية كالإخوان والسلفيين يستثمرون في التخويف، ويضخمّون مبدأ “الحرام والحلال”، لأكتشف ـ وياله من اكتشاف بائس ـ أن معظم ما كنت أتصوره “حلالًا” هو “حرام” سوف ينتهي بي إلى مباراة غير متكافئة مع ثعبان أقرع يعتصر ضلوعي في ظلمة القبر.

صورة تعبيرية

 

جعلني هذا الخطاب شخصًا تسكنه “جهنم” من خيالات قاتمة وألسنة نيران وثعابين وصراخ وتعذيب. وأسس وعيًا خائفًا، مُطارَدًا، كارهًا للحياة ونعيمها الزائف الزائل. فهي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وخير للمرء ألا يتعلق بشهواتها ويحتمل الكد والنصب، كي يكون جديرًا بالنعيم الأخروى.

هل جميع البشر يؤمنون بالآخرة؟

لدينا هنا مسألتان مترابطتان: الأولى: خاصة بمبدأ الإيمان بوجود الجنة والنار، والثانية: فهم وإدراك “التصورات” المترتبة عليه. فهل كل البشر يؤمنون بالآخرة والثواب والعقاب وكيف يتصورون ذلك؟

هناك من يرى أن التخويف من كائنات لا مرئية، كالشياطين والجن، مجرد نظام ردع أخلاقي لضبط المجتمع والسيطرة عليه، وبناء “ضمير” أو رقيب داخلي يمنع الطغيان على الآخرين. فالقصد أن يبقي خوف الإنسان الأبدي من المجهول، حتى لو منعه من الاستمتاع بحياته، وجعله متماهيًا مع كل أنواع السلطات التي تنتقص من حقوقه. ويستند هؤلاء على صعوبة تصور أن ينشغل الله وملائكته بعد حسنات هذا الشخص وذاك، ومراقبته في كل صغيرة وكبيرة، خصوصًا أن النظم الأخلاقية نفسها نسبية وتتغير من مجتمع إلى آخر، فكيف نعرف أيها يعبر بدقة عن مشيئة الله وما يرضيه عنا حقًا؟

في المقابل هناك من يتبنى فرضية الإيمان الأخروي، استنادًا على توقهم إلى الخلود، فلا يمكن أن نختزل قصتنا في حياتنا الدنيا فقط ومن بعدها نصير ترابًا وعظامًا. إضافة إلى أن الحياة نفسها لا تمنحنا عدالة تامة، فكيف يستوي القاتل بالقتيل؟ لذلك ثمة توق إلى عدالة مطلقة يقيمها رب يعلم خفايا القلوب.

نحو المجهول- صورة تعبيرية

 

يستعيد التصور الإسلامي الجنة في هيئتها المادية المشابهة للتصور المصري القديم، من بساتين وأنهار وحور عين وثمار شهية وعسل وخمر ولبن، وأسوار وأبواب.

تصورات متنوعة

يتفق معظم البشر على أن حياتنا لا تنتهي بالموت، لكن التباين الشديد يتعلق بالكيفيات والتخييلات الخاصة بما بعده.

فالدين المصري القديم، وضع تصورًا مفصلًا لليوم الآخر، لترسيخ فكرة الخلود، لذلك كانت توضع مع الميت كل الأشياء العزيزة على قلبه، وتُكتب على الجدار بياناته ورسومات خاصة بأسرته، كي تهتدي الروح إلى جسدها. فكان هذا أصل فكرة الإيمان بالبعث والخلود، وسبب براعة المصريين في تحنيط الأجساد كي تبقى صالحة لحياة أبدية.

تحنيط- صورة تخيلية

 

وقد استنتج المصريون هذا التصور عبر تأمل دورات الطبيعة ورموزها التي تختفي وتظهر مجددًا: الشمس، زهرة اللوتس التي تغيب تحت الماء ثم تطفو، خنفساء الروث (الجعران المقدس) الذي ينهض من العفن والتحلل، وكذلك جفاف وفيضان النيل، وموت البذور وإنباتها.

ويكون الانتقال إلى الأبدية عبر رحلة برزخية لمحاسبة كل شخص، حيث يوضع قلب الميت في كفة وريشة ماعت (إلهة الحق والعدل والنظام) في الكفة الأخرى. لو رجحت الريشة فهذا يعني أن قلب الميت عاش طبق قيم الخير والعدل، أما لو رجح القلب نفسه فهذا يعني أنه كان من الأشرار، وقد مالت به خطيئته، وهنا يذهب إلى الجحيم ليعذبه الوحش “عمعموت”  أو “أمُّت” المكون من رأس تمساح وجسد أسد وذيل فرس النهر. ألا يذكرنا هذا الوحش الهجين بحكاية “الثعبان الأقرع” و”أبو رجل مسلوخة”؟!

إحدى البرديات التي تصور منظر محكامة الميت ووزن قلبه

 

يذهب من ثقلت به ريشته، إلى الجنة وهي حقول السلام أو “الإياور” أي القصب والبوص العامرة بالماء، وهناك يحظى بما لذ وطاب من طعام وشراب، وتخدمه كائنات الأوشبيتي وتعني “المجيبين”. وحسب نص كتاب “الخروج إلى النهار” في التعويذة رقم 110: “امتلاك القوة هناك والبراءة والزرع والحصد والأكل والشرب وممارسة الحب وفعل كل شيء كما كان على الأرض”. كما يستطيع المتوفى أن يتجول بقاربه في جداول تلك الحقول: “قدرتي السحرية كاملة القوة. لن أسجن فيها، ولن أعذب فيها، وسيبقى قلبي فرحًا”.

هكذا وضع المصريون القدماء تصورًا للجنة مستوحى من بيئتهم الزراعية وتحديدًا أحراش الدلتا التي يغمرها الفيضان وتشرق عليها الشمس، وجعلوا الحياة الأخروية للميت مطابقة لحياته الدنيا مع امتلاك أربعة معان: القوة التامة، والسعادة، والحرية، والخلود.

جنة عدن

يستثمر التصور التوراتي في الرؤية المصرية القديمة مشيدًا “جنة عدن” كجنة أرضية طرد منها آدم وحواء،: “وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا ووضع هناك آدم الذي جبله.. وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر”، ومن تلك الجنة خرج نهر تفرع إلى أربعة أنهار كبرى.

لكن جنة عدن غير مرتبطة بالعالم الأخروى الذي يبدو شاحبًا في الخطاب التوراتي، وحتى التصور المسيحي لا يعزز تصورًا ماديًا زراعيًا كبساتين وأنهار، وإنما يرتكز على مفهوم “الملكوت” وبقاء الأبرار في معية الله مكتسبين صفات نورانية.

بينما يستعيد التصور الإسلامي الجنة في هيئتها المادية المشابهة للتصور المصري القديم، من بساتين وأنهار وحور عين وثمار شهية وعسل وخمر ولبن، وأسوار وأبواب.

صورة تعبيرية

سعادة وتناسخ ودورات

في الأديان الآسيوية مثل الكونفشيوسية والهندوسية والبوذية، ثمة تفاوت في الإقرار بوجود إله، مما يضعف منظومة الثواب والعقاب الأخروي، فتلك الأديان تركز أكثر على “الحياة الدنيا” وتضبطها أخلاقيًا بما يضمن الخيرية والسعادة للناس. وفي حال وجود حياة أخرى، تكون عبر دورات الولادة والتناسخ في كائنات عليا أو دنيا. فمن يصل إلى النيرفانا أو السعادة القصوى في حياته، تنتقل روحه في دوراته التالية إلى مخلوقات أسمى كالملائكة، بينما ينحدر الشرير إلى مراتب حيوانية متدنية.

هذا يعني أن أتباع الأديان الرئيسة في العالم، شبه متفقين منذ آلاف السنين، على وجود حياة أخروية، لكن ثمة اختلافات واسعة بخصوص حقيقة أو مجازية الجنة والنار. فهناك من يرى استمرار نشاط الإنسان في الأكل والشرب وممارسة الجنس، كأنه يستعيد حياته السابقة بطريقة نموذجية، وإما تنتقل روحه إلى ملكوت نوراني، وإما يتخبط في دورات التناسخ سعادة وشقاء.

وثمة من يقول بأن الإنسان في حياته الدنيا يعيش جنته وناره، وفق سلوكه الشخصي، فإذا ما طور وعيه وانتبه إلى النفحة الإلهية فيه، واستمتع بحياته، سوف يعيش “جنته” ويتحرر من الجحيم المحيط به. فنحن نعيش حياتنا في شقاء بسبب سوء أفعالنا ورداءة وعينا. وبقدر ما نتحرر من كل ذلك سوف نبلغ الرضا والسعادة. فالجنة الآن، قبل أن تكون وعدًا أخرويًا. ومن يبلغها بوعيه وإرادته حتمًا سيبلغ ملكوت الرب أو النيرفانا أو الجنة الأبدية. ومن لا يصل إليها سيظل يتخبط في جحيمه الشخصي أو المؤقت أو الأزلي.

عن شريف صالح

‎كاتب وصحفي مصري، درس في دار العلوم في جامعة القاهرة. كما نال دبلوم النقد الفني، ودرجتي الماجستير والدكتوراة في النقد الأدبي من أكاديمية الفنون. له العديد من المؤلفات الأدبية، وحصل على عدة جوائز أبرزها جائزة ساويرس في القصة القصيرة عن مجموعة «مثلث العشق»، وجائزة دبي الثقافية عن مجموعة «بيضة على الشاطئ»، وجائزة أفضل مؤلف مسرحي من مهرجان «أيام المسرح للشباب» في الكويت عن مسرحية «مقهى المساء»، وجائزة الشارقة للإبداع العربي عن الإصدار الأول لمسرحية «رقصة الديك».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *