أحدث الحكايا

أسامة عبدالفتاح يحكي: كمال بكير.. “الموسيقار المستشار” شريك خان في الشجن

سحرني كمال بكير وأتعبني.

شغلني للغاية الرجل الذي نقل الموسيقى التصويرية للأفلام من القاعات المذهبة إلى الحارات والحقول والبيوت القديمة، وجعل البيانو والتشيللو والكمان، وباقي الآلات الغربية، في خدمة الناي والطبلة والرق والدفوف.. لا يمكن أن تتخيله إلا مصريا أسمر يرتدي جلبابا ويعزف الناي على شط الترعة، أو أبا بالبيجاما الكستور جالسا في بيته ويداعب العود.

 

قصة حوار صحفي وحيد أجراه طوال حياته واحتجت إلى دليل التليفونات وثلاثة أشهر وست زيارات لمنزله لكي أقنعه به

 

في زمن لم يكن يعرف الإنترنت ومحركات بحثه، ولا التليفون المحمول وتطبيقاته، بحثت عن اسمه في تترات أفلام المخرج الكبير محمد خان، ثم بحثت في دليل التليفون الأرضي الضخم، المغفور له بإذن الله، عن رقم بيته.. وجدت نحو عشرة يحملون نفس الاسم، وكما يحدث في الأفلام القديمة، اتصلت بالأرقام واحدا تلو الآخر حتى رد.

 

كمال بكير

كنا قد أصدرنا مجلة “الفن السابع” السينمائية المتخصصة عام 1997، وخصصنا فيها بابًا بعنوان “خارج الكادر” للتقنيين والفنانين العاملين خلف الكاميرا، ورأيت أنه من أهم الذين يجب أن نفرد لهم الصفحات لدوره اللافت في الأفلام التي صاغ لها الموسيقى ومنحها من روحه ما جعلها تعيش، وأيضا لتأثير شغله الطاغي على المشاهدين أثناء عملية التلقي نفسها.. وفوجئت بأنه لم يكن يريد أن يتحدث على الإطلاق. فهو لم يكن يحب الأضواء، ولم يكن يجيد الحديث عن نفسه.

حوار وحيد مع كمال بكير

اكتشفت أيضا أنه لم يكن يحب الصحفيين، ولم يكن يثق فيهم، وهذا مدهش ومحيّر لأنني عرفت منه فيما بعد أنه شقيق الناقدة الفنية الكبيرة آمال بكير. قال لي ببساطة: “ليا أخت عندكم في الأهرام”. وددت في تلك اللحظة لو كنت عرفت هذه المعلومة مبكرا لأطلب مساعدتها في الوصول إليه، أو حتى في إقناعه بإجراء الحوار، ثم أدركت أن شيئا لم يكن ليقنع أبدا رجلا لم يُجر أي حوارات صحفية في حياته، والمؤكد أنه عايش أو شاهد أو قرأ ما جعله يتخذ هذا الموقف.

لكن كان لابد من محاورة الرجل المسئول عن “شجن” معظم أفلام محمد خان، وعن “مصرية” (سواق الأتوبيس).

كمال بكير

تطلب إقناعه ثلاثة أشهر من المحاولات، والعديد من الاتصالات الهاتفية، وست زيارات لبيته بالدقي بدأت بـ”تعال أتعرف عليك.. لكن مش هعمل حوارات”. وفي الزيارة الثانية، أخذت معي نسخا من “الفن السابع”. قلت له إن رأيه فيها يهمني، لكنني في الحقيقة كنت أريد أن أريه أن المجلة جادة ومتخصصة بحق، وليست مثل الإصدارات التي قرأها أو سمع عنها.. وافق بعد جهد وجدل، وفور أن تنفست الصعداء، فاجأني بأنه لا يريد تسجيل الحوار، وخضت جولة أخيرة من المفاوضات لإقناعه، قائلا إن الكلام سيكون متخصصا ولن أتذكره بتفاصيله حتى لو دوّنت الخطوط العريضة على الورق، ولم أشعر بالانتصار إلا عندما ضبط بنفسه جهاز التسجيل!

في البيت جهاز اسطوانات قديم أسمعني عليه عدة مقطوعات موسيقية كان ألّفها لعروض بالمسرح القومي قبل عمله بالسينما، ثم قال بابتسامة طفولية: “استنى هسمعك حاجة نادرة”، وكانت أغنية من أداء الممثلة الكبيرة سميحة أيوب بإحدى المسرحيات، ولعلها المرة الوحيدة التي غنت فيها بشكل احترافي. هناك أيضا بيانو أنيق، وأورج حديث في “كرتونة” مهملة.

في السطور المقبلة، تجد تفسيرا لذلك، فلا حاجة للتقليد والأصل موجود.

موسيقى فيلم «خرج ولم يعد» للموسيقار كمال بكير

حكاية كمال بكير

درس القانون، وظل يعمل به حتى إحالته للمعاش، حيث عمل أولا قاضيا بمجلس الدولة ثم مستشارا لوزارة الصناعة، لكن الموسيقى كانت تصاحبه طوال الوقت، وكان في البداية يريد أن يصبح عازف بيانو، فدرس في معهد “تيجرمان” الأهلي، الذي ظل موجودا في قلب القاهرة بشارع شامبليون منذ ثلاثينات القرن الماضي حتى الستينات. التحق به عام 1953، وواصل فيه الدراسة الحرة حتى 1960، حين رحل تيجرمان نفسه. وعندما افتتح الكونسرفتوار عام 1959، تابع فيه الدراسة مع أستاذة روسية استفاد منها كثيرا، لكن لم يستمر لظروف دراسته في كلية الحقوق، التي التحق بها عام 1956، وتأخر فيها قليلا بسبب حبه للموسيقى ليتخرج منها عام 1962.

عمل عازفا فعلا منذ فترة دراسته بالكلية وحتى لقائه بالمخرج المسرحي الراحل كرم مطاوع لدى عودته من إيطاليا، حيث وضع موسيقى معظم مسرحياته، بدءا من “شهرزاد” عام 1964 بالمسرح القومي، والتي كانت أولى تجاربه في توظيف الموسيقى دراميا، بعد قطع كثيرة كان يؤلفها لنفسه ولا يُطلع أحدا عليها. كما عمل مع مطاوع في مسرحيات غنائية كثيرة مثل “وطني عكا” لعبد الرحمن الشرقاوي، التي شهدت ميلاد المطربة عفاف راضي، وشارك في أكثر من عمل أيضا مع المخرج سمير العصفوري.

بدأت علاقته بالسينما من خلال مسلسل فيلمي – أي مُصوّر على شرائط سينما خام 35 مم – اسمه “العصابة” من إخراج إبراهيم الصحن، الذي كان قد عمل معه في مسلسلات فيديو كثيرة. أما أول فيلم سينمائي روائي طويل فكان “بيت بلا حنان”، الذي أخرجه علي عبد الخالق في السبعينات، وكان عمل معه أيضا في العديد من الأفلام التسجيلية.. وحكى لي أن أحد هذه الأفلام كان طوله 8 دقائق، ونظرا لقلة خبرته وقتها، وضع له موسيقى طولها 40 دقيقة، مما دفع المونتير أحمد متولي إلى أن يداعبه قائلا إنه مجنون!

 

أفلامه مع خان هي عصب تجربته السينمائية بلا شك، حيث كانا يفهمان بعضهما البعض بسرعة، وكل منهما كان يتمكن من تلبية احتياجات الآخر لأن كلا منهما عرف مفاتيح الآخر. كانا يتقابلان بسهولة في المسافة بين تفكير خان بالسينما وتفكيره بالموسيقى لكي يقدما فنا جيدا هو حصيلة الفكرين.

نقطة تحول

وبعد ذلك، حدث ما يمكن اعتباره نقطة تحول في مسيرة كمال بكير، حيث التقى في أواخر السبعينات مع محمد خان حين كان يجهز لفيلمه الأول “ضربة شمس”. كان خان قد شاهد “بيت بلا حنان” وأعجب بالموسيقى، وكان نور الشريف، منتج “ضربة شمس”، معجبا بدوره بشغله في مسرحية “جيفارا” على خشبة “القومي”، وهو الذي قدمهما لبعضهما البعض ورشّحه لتأليف موسيقى الفيلم.

بوستر مسلسل «ضربة شمس»

 

ذهب لمشاهدة نسخة العمل، فوجد خان يقول له: “أريد موسيقى في هذه الثواني الثلاث، وهذه الثواني الثماني”، وهكذا.. واكتشف أن أكبر قطعة موسيقى متصلة لا تزيد عن 20 ثانية، مما سبب له حيرة شديدة.. فقد كان معتادا على المسرح والمساحات الكبيرة التي يوفرها له، وهذه القطع الصغيرة معناها – على حد قوله – أنه بمجرد أن يقول “السلام عليكم” ستنتهي القطعة، وأنه لن يتمكن من استخدام الجمل والآلات الغنائية لأنها تحتاج إلى وقت أطول، وكان مصرا كعادته على أن “تقول” الموسيقى شيئا، ولا تكون مجرد خلفية.. وأخيرا اهتدى إلى طريقة تُعد بلا شك مغامرة، حيث صنع موسيقى الفيلم كله بآلات إيقاعية فقط، والعجيب أنها كانت عنصرا مهما جدا رغم أنها كانت مجرد “طبول” على اختلاف أنواعها وأصواتها. وهكذا صار لثواني الموسيقى القليلة معنى، بل أنه ألّف جملا لحنية بالإيقاعات، وجعلها تغني.

وفور الانتهاء من هذا العمل، انتقلا مباشرة إلى فيلم خان الثاني “الرغبة”، الذي كان بكير يتعجب من عدم نجاحه جماهيريا رغم أنه لاقى ترحيبا كبيرا من النقاد. وبعده صنعا فيلمين قال لي إنهما أفضل ما قدم خان على الإطلاق، وهما “طائر على الطريق” و”موعد على العشاء”، ثم ثلاثة أفلام من تأليف عاصم توفيق هي: “خرج ولم يعد” و”عودة مواطن” و”سوبر ماركت”، والأخير آخر فيلم عملا فيه سويا، وكان كمال بكير حزينا لأنه تعرض لحذف مشاهد كثيرة كانت تضم موسيقى يعتز بها، في حين أكد أن الفيلمين الآخرين خرجا كما صنعاهما بالضبط.

سعاد حسني وأحمد زكي من فيلم «موعد على العشاء»

 

وضع جوائزه تحت السرير والأورج الحديث في “الكرتونة” واستخدم آلة واحدة لتأليف موسيقى فيلمين كاملين.. و”شهرزاد” أول أعماله

 

أفلامه مع خان هي عصب تجربته السينمائية بلا شك، حيث كانا يفهمان بعضهما البعض بسرعة، وكل منهما كان يتمكن من تلبية احتياجات الآخر لأن كلا منهما عرف مفاتيح الآخر. كانا يتقابلان بسهولة في المسافة بين تفكير خان بالسينما وتفكيره بالموسيقى لكي يقدما فنا جيدا هو حصيلة الفكرين. وروى لي بكير أنه كان يشعر دائما بالسعادة في يوم التسجيل، وكان المخرج الكبير يسعد بالحضور والمشاركة في ميلاد الموسيقى، ولم يكن يستاء أبدا من طول الوقت وكثرة الإعادة في حالة وقوع أخطاء.

يحيى الفخراني وليلى علوي من فيلم «خرج ولم يعد»

 

تجارب أخرى

أما تجاربه مع المخرجين الآخرين فقليلة، وأهمها “سواق الأتوبيس” مع عاطف الطيب. وكان كتب موسيقى فيلمه التالي “الحب فوق هضبة الهرم”، لكنه لم يكملها لسبب لم يذكره. وهناك “زمن حاتم زهران” مع محمد النجار، وآخر أفلامه “مبروك وبلبل” لساندرا نشأت، والذي أعجبه نَصه جدا، إلى درجة أنه اتصل بمؤلفته لميس جابر في الرابعة صباحا – بعد أن فرغ من قراءته – ليهنئها، خاصة على مشهد شاعري جميل بين البطل المعتوه وحبيبته في المقابر.

بشكل عام كان قليل العمل، وكان يعتبر نفسه يمارس هواية إلى جانب عمله الأصلي في وزارة العدل، ولم يكن يشارك في فيلم إلا إذا كان يمثل له متعة شخصية، لأن العائد – على حد تأكيده – كان قليلا، حيث لم يكسب من عمله في السينما، وعادة ما كان ينفق على موسيقى الفيلم أكثر من أجره عنه.. وكان يشكو من أن الميزانية المخصصة للموسيقى في أي فيلم ضئيلة، وتكون هي “المتبقي” من ميزانيته الأصلية بعد التصوير وسداد أجور الممثلين والفنيين.

وكانت هناك بالطبع مشروعات مع مخرجين آخرين، لكنهم كانوا من هواة “ملء المساحات” بالموسيقى، وكان يكره ذلك بشدة، ولا يحب التعامل مع هؤلاء، لأنه لا توجد لغة مشتركة معهم.

موسيقى فيلم «سواق الأتوبيس» للموسيقار كمال بكير 

مصرية كمال بكير

لا يمكن أن تجد من هو أكثر “مصرية” منه. انزعج عندما قلت له إن هناك أثرا للتراث الأفريقي في شغله، خاصة في إيقاعات “ضربة شمس” وبعض أعماله الأخرى، وقال بسرعة: “ليست أفريقية ولكنها إيقاعات مصرية صميمة موغلة في القِدم.. من الصعيد الذي يُعد أغنى مناطق العالم بالإيقاعات”.

موسيقى فيلم «طائر على الطريق» للموسيقار كمال بكير 

تلازمه هويته طول الوقت. تعبر عنه ويعبر عنها. أوضح أن موسيقى فيلم “خرج ولم يعد” مثلا كانت شديدة المصرية لأنه يدور في الريف، وظهر ذلك في الإيقاعات، وحتى في الآلات الغربية التي استعملها مثل التشيللو والبيانو، فمن فرط مصرية الألحان التي تعزفها هذه الآلات لا تشعر بوجودها، بل تتفوق عليها الآلات الشرقية مثل الناي، الذي تجده “يبرق” على السطح وحده ويخطف الأذن رغم أن وراءه خلفية عريضة من الآلات الغربية، وكذلك القانون.. وهي آلات لا يمكن تصورها إلا في مصر، خاصة الناي، الآلة الودودة التي لا يمكن تصور عازفها إلا شخصا بسيطا وصديقا يرتدي الجلباب، بعكس البيانو مثلا، الذي تكاد أن تقطع بأن عازفه يرتدي البدلة الكاملة و”البابيون” وعلى قدر كبير من الاستعلاء. وقال إن هذه الآلات الشرقية “عملت شغلها” كما يجب مثلا في “سواق الأتوبيس”، بحيث لا يمكن أن يكون الفيلم إلا مصريا، وقد قصد ذلك تماما.

نور الشريف من فيلم «سواق الأتوبيس»

 

ولا يعني ذلك أنه يفضل دائما استخدام هذه الآلات، فهذا عنده يتوقف على أجواء الفيلم. مثلا في “الرغبة”، كانت الآلات المسيطرة هي الوتريات، وكذلك في “سوبر ماركت”، حيث كان البطل عازف بيانو. وفي “عودة مواطن”، كانت موسيقى الفيلم كله بالبيانو فقط، ليعكس وحدة البطل الشديدة بعد عودته من الغربة، رغم أنه وسط أهله، بعد أن تغيرت كل الظروف والمفاهيم.. فالبيانو – كما شرح – آلة وحيدة تشعرك بأنها تعزف على مفتاح واحد، ولذلك تعطي الإحساس بالوحدة والعزلة والوحشة الشديدة.

بوستر فيلم «الرعبة»

 

هنا غامر مرة أخرى، وبعد الطبول، أقدم على تأليف موسيقى فيلم بالكامل باستخدام آلة واحدة. وتكرر ذلك في “موعد على العشاء”، الذي كانت موسيقاه هي الأخرى بالبيانو فقط للتعبير عن وحدة ووحشة البطلة، والأزمة الحادة التي تمر بها، والتي جعلتها تطهو طعاما بالسم وتجلس لتتناوله بكل هدوء مع زوجها السابق.

موسيقى فيلم «موعد على العشاء» للموسيقار كمال بكير

وفي نفس الوقت، يمكن أن يستخدم أوركسترا كبيرة وكورالا، كما حدث في “زمن حاتم زهران” على سبيل المثال، حيث لجأ إلى الكورال لأنه شعر بالحاجة إلى سماع أصوات من قُبروا في 1967، والتي ما زالت تتردد حتى الآن.. أكد أنه لم يكن في وسع أي آلة أن توفر له هذا الإحساس، وكان لابد من صوت البشر، فاستخدم الكورال كثيرا.

نور الشريف ومشيرة إسماعيل من فيلم «زمن حاتم زهران»

 

أي أنك لو خرجت من دار العرض وقلت إن الموسيقى كانت جيدة، فذلك حكم على مؤلفها بالفشل. “شطارته” الحقيقية تكمن في عدم شعورك به أثناء المشاهدة، وبعد الخروج، “تدندن” بلحن لا تعرف من أين جاءك، إلى أن تتذكر أنه من الفيلم

شجن الموسيقى

كل ما سبق يشير إلى مؤلف موسيقي يوظف شغله ومجهوده بالكامل لخدمة دراما الفيلم، ولا يسعى لفرد “عضلاته”. كان يرى أنه لا يعمل وحده، وإنما في عمل جماعي، ولابد أن تسود في النهاية وجهة نظر واحدة تعبر عن وجهات نظر العاملين في الفيلم جميعا، ولا ينشأ ذلك إلا بالتفاهم المشترك، خاصة مع المخرج، فلم يكن يتعامل مع مخرج لا يتفاهم معه.

موسيقى فيلم «الثأر» للموسيقار كمال بكير 

من هذا المنطلق، لم يكن يسعى – مثل غيره – لزيادة مساحة الموسيقى في الفيلم، بل أحيانا كان يطلب منه المخرج ذلك ويرفض قائلا: لا.. لن تقول الموسيقى شيئا هنا. فإذا أمكن التعبير بالحوار أو حتى بالأداء التمثيلي، ماذا يمكن للموسيقى أن تضيفه؟ من الأفضل استخدامها حيث لا يمكن التعبير إلا بها.. ثم شرح لي ما يمكن اعتباره قانونا للموسيقى التصويرية للأفلام، وهو أنك إذا أحسست بالموسيقى خلال مشاهدتك الفيلم، فمعنى ذلك أنها فاشلة. أي أنك لو خرجت من دار العرض وقلت إن الموسيقى كانت جيدة، فذلك حكم على مؤلفها بالفشل. “شطارته” الحقيقية تكمن في عدم شعورك به أثناء المشاهدة، وبعد الخروج، “تدندن” بلحن لا تعرف من أين جاءك، إلى أن تتذكر أنه من الفيلم.. فأنت لم تدخل القاعة لسماع موسيقى، بل لمشاهدة فيلم، ويجب ألا يفسد عليك متعتك، ويجب أن تذوب الموسيقى في النسيج الكامل للعمل.

من فيلم «عودة مواطن»

 

عن الشجن الذي يربط بين أعماله كلها، والذي صبغ به الأفلام التي شارك فيها، قال إن الشجن طبيعة أصيلة في الإنسان المصري، وقد حرص على ذلك لأن الأفلام التي شارك فيها شديدة المصرية.. فلم يكن يتصور مثلا أنه يمكنه تأليف موسيقى لفيلم أجنبي، مؤكدا أنه يبدع حيث هو.

أهمية الموسيقى

توقف عند سؤالي المفاجئ عن أهمية الموسيقى لأي فيلم. صمت قليلا ثم قال: “هذا بالضبط كأن تسأل: ما هي أهمية النور للنهار؟ لسبب بسيط، أن الفيلم بدأ أصلا بموسيقى فقط دون حوار.. شاشة تعرض، وفرقة موسيقية تعزف أسفلها قبل دخول الصوت.. الموسيقى مرتبطة بالفيلم أكثر من الحوار، مع الاعتراف بأهميته. علاقتها بالصورة مهمة جدا، ولكي تعرف إلى أي مدى، يكفي أن تجرب مشاهدة فيلم بدون موسيقى”.

نجلاء فتحي من فيلم «سوبر ماركت»

انزعج لآخر مرة عندما سألته عن علاقته بالآلات الحديثة مثل الأورج، قائلا بحسم: “أكرهها بشدة، ولابد من العازفين، لسبب بسيط: إن هذه الآلات تقلد أصوات الآلات الموسيقية الأصلية، فلماذا ألجأ للتقليد وعندي الأصل؟ البعض يستخدمونها لتوفير أجور العازفين العالية، لكنهم لا يعرفون أنه حتى الغرب الذي اخترعها لا يستخدمها في الأعمال الكبيرة الجادة، ويخصصها للموسيقى الخفيفة التي تُعزف في الملاهي والمطاعم.. ثم إنه لا توجد آلة يمكن أن تعوض رعشة يد عازف الكمان على الوتر، ولا نفخة عازف الناي في آلته.. هذه الرعشة، وتلك النفخة، أحتاج إليهما بشدة في موسيقاي. وأتذكر أنني ذات يوم كنت أسجل موسيقى أحد الأفلام مع مهندس الصوت نصري عبد النور، وكان صوت نفخة العازف واضحا، واقترح عبد النور أن نحذفه، فقلت له بسرعة: (لا والنبي خليه يا عم نصري أنا عايزه)”.

وهذا لا يمنع أنه استخدم الأورج طبعا في بعض أعماله، لكن كأورج فقط، كآلة مستقلة لها صوتها الخاص، وليس كمحاكٍ لأصوات آلات أخرى.

حصل على أربع أو خمس جوائز، لم يكن يتذكر، ولم يكن يهتم بذلك كثيرا، فلم يضع هذه الجوائز في إطارات أو أشياء من هذا القبيل. وحتى عندما تبرع صديق بذلك، لم يعلقها، بل وضعها تحت السرير. كان كل ما يهمه أن يصنع موسيقى جيدة يكون مستمتعا وسعيدا بها.

عن أسامة عبد الفتاح

صحفي وناقد ومبرمج سينمائي مصري، مدير تحرير صحيفة "الأهرام المسائي"، مدير أسبوع النقاد الدولي بمهرجان القاهرة السينمائي. صدرت له العديد من الكتب والدراسات السينمائية، وشارك في عضوية لجان التحكيم الدولية بمهرجانات مونتريال وتورينو وقرطاج وتطوان والجزائر والإسماعيلية وشرم الشيخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *