أحدث الحكايا

أسامة علام يحكي: يوم عادي في حياة مهرج

للمهرج العجوز أسرة كبيرة وقلب كبير وألم روماتيزم فى المفاصل.

لا يتذكر تماما متى بدأ فى مهنة التهريج. لكنه دائما كان لا يأخذ الأمور محمل الجد. يعرف أنه كان مهرجا دائما. طفل مهرج وزوج مهرج وأب مهرج. مهنته كمهرج محترف فى السيرك المكسيكى الصغير الدوار على المدن والقرى كانت مكافأة نهاية الخدمة لحياة مليئة بالتهريج. أما حياته الوظيفية فيتذكر أنه أنهاها فى الخمسين من عمره كمدير فى بنك أهلي.

لا يمكنه تعريف نفسه بشكل واضح. يقصد طبعا جذوره الإيطالية لعائلة لم تزر إيطاليا أبدا. جده وجدته ربما كانا طاليان. يفسر ذلك لعقله المشوش بإجادته للإيطالية وحبه الشديد للاسباكتى. يتخيل أيضا أن مقطع “ونى” المذيل لاسمه العائلى “مرلسكونى” يعود لنفس السبب.

تعلم مع الأيام أن دهان الركبتين مفيد جدا لبداية اليوم بشكل طبيعى. ظهره أيضا يؤلمه لسبب غير الروماتيزم. ربما عليه تغيير المرتبة اللعينة. لكن ذلك الأمر والذى أجله كثيرا، يمكن تأجيله ليوم أخر.

“يتفهم أنهم فى أمريكا منعوا الاستعانة بالفيلة والأسود وحتى الأحصنة بسبب ضغوط جماعات الرفق بالحيوان. لكنه كان يتمنى أن يشاهد عروضهم.”

روتين يومي

ككل البشر يأخذ حمامه الصباحي. ربما هو نفسه قد يعترض على هذه الجملة. ليس لأنه لا يفعل ذلك. لكن ليقينه بأن الكثير من النساء اللاتي عرفهن في حياته كانت لهن روائح لا تتفق مع نظرية أن كل البشر يستحمون صباحا. لكنه بالتأكيد يعرف أنه  -وعلى وجه الخصوص- يحتاج لهذا الدش كي يزيل مساحيق عرض الليلة السابقة.

لا يحب أن يأخذ القهوة في كافتيريا السيرك. فلاعبو الأكروبات وفتيات الاستعراضات وحتى الشاب المتأنق لاعب العجلة الهوائية كلهم مزعجون للغاية ولا يكفون عن الصياح مرحبين عند رؤيته. لذلك دائما ما يبحث عن مقهى صغير بالجوار. أصبحت معدته حساسة جدا بعد تجاوزه الستين من عمره. فتوقف عن أكل التوست والزبدة. ويضع الكثير من الحليب على القهوة.

لا يعرف أين عليه أن يذهب بعد الافطار. فيعود مرة أخرى إلى عربته فى السيرك ليقابل ماكس صديقه الأهم. كلب السيرك والحيوان الوحيد فيه. يتفهم أنهم فى أمريكا منعوا الاستعانة بالفيلة والأسود وحتى الأحصنة بسبب ضغوط جماعات الرفق بالحيوان. لكنه كان يتمنى أن يشاهد عروضهم.

“يضع المكياج أولا. أصبحت يديه أسرع فى دلق المساحيق على وجهه. ولأنه شخص لم يأخذ الأمور على محمل الجد أبدا، يخرج المكياج كل ليلة بصورة مرضية.”

السيرك .. حياة موازية

مع ماكس يستطيع أن يجعل حفيدته الصغيرة تظل لدقائق أطول على شاشة الموبايل فى محادثات الماسنجر. ربما هى أول من يرد عليه من عائلته الكبيرة. تفهم أن الأولاد مشغولون جدا بحياتهم كأشخاص كبروا وأصبحت لديهم مسؤليات. يتصل ولا يردون. يخبرونه فى مكالمة كل عدة أيام بأنهم يحبونه. من ناحيته هو أيضا يعلم أنهم يحبونه كما يحبهم. يهز رأسه دائما مؤكدا أن علاقات كهذه موجودة دائما. ولا علاقة لذلك بكونه مجرد مهرج عجوز فى سيرك صغير.

قبل العرض بساعة يأكل وجبته الأهم في اليوم. تحضرها له واحدة من الفتيات الصغيرات من مطعم السيرك. أصبح ينسى أسماءهن. فيناديهن كلهن يا حلوتى. يحب مشاغباتهن معه عندما ينادينه ألكس العجوز. أو ألكس صاحب الأنف الكبير. هو عن نفسه لا يعتقد أن أنفه كان بهذا الكبر أبدا. لكن استمرار تركيب أنف بلاستيكى أحمر فوق أنفه هو السبب.

فى السابعة مساءً يستعد لعرض الثامنة. يمر عليه مدير السيرك السمين ليتأكد أنه مازال على قيد الحياة وأنه لن يتأخر عن الفقرة الأولى. يعرف المدير من خطواته الثقيلة التى تجعل سلم العربة التي يعيش فيها يئن. فيجري بسرعة ليجلس أمام المرآة. وعندما يطل مدير السيرك بكرشه العظيم ورأسه الأصلع تكون ابتسامة واسعة على وجهه في استقباله.

 

يضع المكياج أولا. أصبحت يديه أسرع فى دلق المساحيق على وجهه. ولأنه شخص لم يأخذ الأمور على محمل الجد أبدا، يخرج المكياج كل ليلة بصورة مرضية. صورة لا يستطيع هو نفسه تذكر ملامحه من خلالها. يقوم ويرتدي بدلة من بدله الثلاثة التي لا يمتلك غيرها. كلها واسعة جدا وبألوان مبهجة.

ساعتها وساعتها فقط. يقف أمام المرآة ليضع الأنف الأحمر الكاوتشوك. وبلا كثير من الدراما يتحامل على آلام مفاصله ويلبس الحذاء الكاوتشوك العملاق ذو اللون الأصفر. ويمشي بخطى يحاول أن يجعلها طبيعية. ليبدأ عرضه اليومى منتظرا ضحكات الجمهور.

Performance of a Clown with a ball at the Circus

عن أسامة علام

روائي وقاص مصرى مقيم بنيويورك بأمريكا. حصل على الماجستير من فرنسا ودكتوراه المناعة من كندا. صدر له خمس روايات هى "واحة الزهور السوداء" 2008، "الاختفاء العجيب لرجل مدهش" 2013، "تولوز أغنية أخيرة لأكورديون وحيد " 2014، "الوشم الأبيض" 2017، "الحي العربي" 2019. صدر له أيضا "أربع محاولات للحياة" مقالات مع آحرين 2021، وكتاب قصصي بعنوان "طريق متسع لشخص وحيد" 2022.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *