-1-
يقدم المفكر الهندي الأصل أرجون أبادوراي تعريفا للإرهاب من زاوية أسلوبه بأنه “ممارسة أشكال متطرفة من العنف السياسي ضد المدنيين”.[1]
لم يتعرض أبادوراي لتعريف الإرهاب بصورة شاملة ونهائية، لأنه مفهوم مربك ومرتبط بعوامل كثيرة تجعل من الصعب اختصاره؛ ولذلك يجتهد كل مفكر في مقاربة الإرهاب من زاوية بعينها. الأسلوب الذي يستخدمه الإرهاب –بحسب التعريف السابق– يعتمد على عملية تخويف للمدنيين عبر ممارسات عنيفة، بدءا من درجات العنف الجسدي المباشر، إلى أشكال العنف المعنوي المتمثل في الإرغامات التي تتعرض لها الأقليات، وكذلك في صعود أشكال مختلفة من الريبة بين مكونات المجتمع.
لذا دعونا نعيد التفكير في حكاية الإرهاب والعنصرية، ولنعيد صياغتها من وجهة نظر جديدة.
-2-
تعريف جديد للإرهاب العنصري
سنحاول تعريف الإرهاب من زاوية أخرى ترتبط بالمنطلقات العقلية التي تمنح المشروعية الأخلاقية لممارسة العنف على الآخرين. هنا باستطاعتنا تحقيق درجة أكبر من العمق في فهم الصراع العربي الإسرائيلي.
يمكن تعريف الإرهاب فكريا بوصفه التعبير العملي عن درجة حادة من العنصرية التي تكتسب شكل البداهة. بعبارة أخرى: حين يتحول الشعور بالتفوق العنصري إلى يقين نهائي في وعي أشخاص/جماعة/مجتمع/أمة، يصبح بداهة، وسيعجب صاحب هذه البداهة العنصرية من عدم اتفاق العالم كله مع ما يراه في ذاته إلى درجة استخدامه للعنف تعبيرا عنها ضد كل من يشكك فيها.
يؤمن العنصري أن من ينكر تفوقه يسعى لانتقاص حق أصيل من حقوقه، ما يمكن أن يتسبب في إحساسه بأنه ضحية ظلم شديد. على المستوى العملي/السلوكي، من السهل أن يتحول اليقين المطلق بالتفوق العنصري إلى عنف موجه نحو من ينكر هذا التفوق بكل القوة التي يملكها الكيان العنصري. هنا يمكننا استعادة تعريف أبادوراي لفهم كيف يتحول اليقين بالتفوق العنصري إلى أشكال متطرفة من العنف السياسي ضد الهويات الأقل أو الأضعف تحديدا، وهي بالضرورة الهويات التي تشكك في تفوق الكيان العنصري، أو تختلف معه أو تعاديه لأي سبب من الأسباب. ويصبح اعتداء الكيان العنصري على خصومه بديهيا، في حين يصبح أي رد من الخصوم هو اعتداء إرهابي غير مبرر في عينيه.
-3-
المرض الذي أصاب جسد الإنسانية
عانى اليهود قبل وجود دولة تضمهم من عنصرية آرية مقيتة، كانوا يوصفون فيها بأنهم المرض الذي أصاب جسد الإنسانية. لقد نظر إليهم شعب بأكمله بوصفهم درجة أقل من الكائنات، “إنهم ليسوا بشرا مثلنا”، هكذا كان اليقين العقلي الألماني، ما سمح لنظام هتلر بممارسة أقسى أشكال الإرهاب بالمعنى السابق. لقد آمن الألمان وراء هتلر بتفوقهم العنصري ما برر لهم أخلاقيا السعي لإبادة اليهود بصورة بشعة.
واليوم يحلل جدعون ليفي الكاتب والصحفي الإسرائيلي جذور الأزمة، منتقدا إيمان الإسرائيليين بالأفكار العنصرية نفسها عن الفلسطينيين؛ حيث يقول: “… هناك إيمان عميق داخل كل إسرائيلي، إذا حفرتم ستجدونه بداخله في العمق: إن الفلسطينيين ليسوا كائنات إنسانية مساوية لنا. إنهم ليسوا مثلنا، لا يحبون أولادهم مثلنا، ولا يحبون الحياة مثلنا، إنهم قتلة بالفطرة، إنهم متوحشون، إنهم ساديون لا قيم لديهم ولا أخلاق، انظروا كيف يقتلوننا، هذا الاعتقاد عميق جدا جدا في المجتمع الإسرائيلي، ولن تصبح أحلامنا حقيقة ما لم تتغير هذه القناعة الأساسية”
انظر: تحليل جدعون ليفي الكاتب والصحفي الإسرائيلي لجذور الأزمة
لقد كشف ليفي تحول الضحية إلى جلاد باستخدام الأفكار العنصرية نفسها، وهو يسخر من هذه الأفكار ومن شعور الإسرائيليين بأنهم وحدهم الضحايا في التاريخ الإنساني، وفي الوقت نفسه هم يشعرون بالتفوق العنصري الذي يبرر لهم أخلاقيا افتراس المدنيين الفلسطينيين تماما كما فعل هتلر مع اليهود. لكن ألا ينظر الغرب اليورو-أمريكي لمعظم شعوب العالم بهذا التعالي العنصري؟ ألا تبرر العنصرية الدفينة الصلبة، تجاه الفلسطينيين والعرب عموما، وقوف دول إنجلترا وفرنسا واليابان وأمريكا ضد تصويت مجلس الأمن بوقف الحرب لأسباب إنسانية في غزة يوم الثلاثاء ١٧ أكتوبر ٢٠٢٣؟ إنها عنصرية تنطق بما قاله جدعون ليفي: “إنهم ليسوا بشرا مثلنا فليحترقوا جميعا.. لا بأس”.
-4-
تاريخ الهويات المفترسة
مرة أخرى نستعين بتعريف أرجون أبادوراي للهويات المفترسة بأنها: “… تلك (الهويات) التي يتطلب بناؤها وتنظيمها الاجتماعي فناء فئات اجتماعية أخرى قريبة منها، تم تحديدها على أنها تمثل تهديدا لمجموعة “النحن”. وتتولد الهويات المفترسة بشكل دوري عن تواجد هويتين أو أكثر لها تاريخ طويل من الاحتكاك والاندماج، وحدّا معينا من التنميط المتبادل. ويمكن أن يكون العنف العرضي جزءا من هذا التاريخ.. ولكن لابد من وجود حد من التباين بين المجموعتين في تحديد الهوية.”[2]
إن ظهور الهويات المفترسة متكرر عبر التاريخ، ويبدأ في تاريخ الشرق العربي الحديث بهوية مفترسة نموذجية هي الاحتلال الغربي، الذي بسببه ظهرت هويات لمقاومة الاحتلال، وبسبب التنميطات المتبادلة التي تمارسها الجماعات الدينية والعرقية والمذهبية والسياسية بعضها على بعض تحولت بعض هذه الهويات المقاوِمة إلى هويات مفترسة تحت عباءة الدين أو الأيديولوجية القومية.
هذا تحديدا ما أود إضافته لمفهوم أبادوراي، وهو أن الهويات المفترسة تتوالد بصورة تفاعلية؛ بمعنى أن الهوية المفترسة تؤدي إلى قيام مقاومة من جماعات متضررة، ثم تتحول بعض هذه الجماعات المقاوِمة إلى هوية مفترسة لا يقف دورها عند المقاومة، بل تكتسب نفس صفات الهوية المفترسة الأولى، ومن ثم تسعى لإفناء باقي الهويات المحيطة بها.. وهكذا.
إن الإيمان بالتفوق العنصري الإسرائيلي، إضافة إلى التنميط المتبادل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، قد سمحا لإسرائيل -التي تمتلك السلاح ووهم التفوق العنصري- بالتحول إلى هوية مفترسة، ما أدى إلى ظهور هويات مقاوِمة من بينها حماس التي لم يكن أمامها كي تتعامل مع العنف الإسرائيلي سوى أن تتحول هي أيضا إلى هوية مفترسة تؤمن بالتفوق استنادا إلى الدين، ولا أحسبها ستقبل إن قامت الدولة الفلسطينية بحكم أية جماعة فلسطينية أخرى.
إن تلك الجماعة التي تحولت -أو تتحول- إلى هوية مفترسة تؤسس مجموعة متماسكة من الادعاءات تبرر لها العنف المتطرف الذي تمارسه في حق مجموعات أخرى، ومن أقوى هذه الادعاءات التي تبرير درجات قصوى من العنف ذلك الادعاء بالتفوق العنصري الذي أشرنا له في الفقرة السابقة من هذا المقال؛ إذ يتحول غضب الكيان العنصري من أقل إهانة أو أذى يشعر بهما، إلى بركان غضب هادر لا يوقفه شيء، لأنه يملك مُبرّراته الأخلاقية القائمة على التفوق العنصري الذي يضع خصمه في درجة أدنى من درجات الإنسانية، ما يسمح باستباحة أي شيء بداية من الأرض، وانتهاء بحياة الخصم الأقرب إلى الحيوانات منه إلى البشر كما يؤمن العنصري.
إن ما يبدو معقولا في تفسير المستويات المرعبة من العنف في فلسطين المحتلة هو تحول أكثر من هوية يدور بينها الصراع إلى هوية مفترسة، أولها وأهمها إسرائيل التي خلقت نموذج الافتراس بالاستيلاء على الأرض، والتوسع بعيدا عن الشرعية وقرارات المؤسسات الدولية، وما نتج عن ذلك من صراع شهد جرائم متراكمة لا يمكن نسيانها في حق الفلسطينيين، ما قاد إلى ظهور هوية مفترسة أخرى تقاوم الافتراس الإسرائيلي، نحن أمام هويتين مفترستين مرة باسم التفوق العنصري وشعور الضحية، ومرة تحت شعار المقاومة والتفوق باسم الدين.