أحدث الحكايا

أيمن بكر يحكي: حكايات ثقافية (3) .. القاهرة سيدة العواصم ولكن!

في كل أسفاري إلى عواصم العالم الكبرى لا تتوقف القاهرة عن اقتحام مخيلتي، فتنتفض كل أوجه المقارنة في عقلي وروحي، وتثور موجات متكررة من الأسئلة: لماذا لا تصبح القاهرة في تألق هذه العواصم؟ ما الذي ينقصنا؟ ما الذي تملكه القاهرة ونعجز عن تطويره وتلميعه ليصبح مصدر فخر قومي، وجذب وإشعاع حضاري للدنيا كلها؟ هل باريس مثلا تملك ما لا تملكه القاهرة؟

القاهرة .. الأرض المسحورة

لنبدأ بالسؤال الأخير لنكتشف أن لدى القاهرة ما لا تملكه باريس، بل إن مصر هي من وضعت بصمتها في ميدان الكونكورد، بمسلة تقف شامخة شموخ الأرض التي نبتت فيها، وآثار تشكل الجناح الأكبر في اللوفر كما في المتحف البريطاني ومتحف فيينا الوطني وبرلين وغيرها من العواصم والمدن الكبرى.

القاهرة لا تملك تاريخا واحدا، بل تواريخ مرت عليها فاجتمعت آثارها، وكأنها قطعة أرض مسحورة تحركت لتجوب العالم وتجمع خلاصة الثقافات الكبرى، ثم تعود لموقعها الفريد على حافة التماس بين حضارات الشرق وممالك الغرب.

القاهرة مدينة تنصهر فيها الثقافات وتنخرط الأعراق بسهولة لتصبح جزءا من نسيجها، على عكس باريس التي تظهر فيها التجمعات الإثنية كجزر منعزلة تستوطنها الريبة والتحفز، وهو ما يؤدي لمشكلات عنصرية متكررة بطلها البوليس الفرنسي.

ميدان الكونكورد في باريس والمسلة المصرية

من هنا لا يمكن لمكان أن يشبه القاهرة في تنوعها واشتمالها على روائح الحضارات وآثارها، وقدرتها على التعايش السلمي. ومن هنا أيضا يمكن للقاهرة أن تكون متحف العالم المفتوح، وقبلة سياحته الأولي.

لكن هناك معوقات تقف أمام تحقيق هذا الحلم الممكن، وكلها معوقات قابلة للحل، بل إن حلولها موجودة وقديمة لا تحتاج لكبير إبداع، قدر ما تحتاج لاجتماع الإرادتين السياسية والشعبية.

لو تم تطبيق القانون بصرامة لن يتمرد المواطن المصري، لأن هذا المواطن نفسه يتحول بين عشية وضحاها إلى إنسان ملتزم بالقانون تماما بمجرد انتقاله للعمل في الخارج.

تصوير: حسام عباس Credit: Hossam Abbas

تهيئة القاهرة كقبلة سياحية

لنبدأ بفكرة أساسية هي ضبط المجال العام: النظافة/ التنظيم المروري الصارم/ انضباط حركة المشاة/ إزالة التعدي على الرصيف/ تحرير المجال العام من المزايدات الدينية مثل ميكروفونات المساجد/ محاربة التحرش وتغليظ عقوبته، ومعاقبة السلوكيات المشينة مثل إلقاء القمامة من نوافذ السيارات. يتجاور ما سبق مع التوعية المكثفة بطرق معاملة السائح بوصف ذلك مصدر دخل قومي يمكن أن ينقل مصر اقتصاديا لأعلى مما نتخيل.

لو تم تطبيق القانون بصرامة لن يتمرد المواطن المصري، لأن هذا المواطن نفسه يتحول بين عشية وضحاها إلى إنسان ملتزم بالقانون تماما بمجرد انتقاله للعمل في الخارج. لا يتسبب تطبيق القانون بصرامة في غضب المواطنين في أي مكان في العالم إلا إن كان التطبيق انتقائيا لا يسري على الجميع، بل إن العكس هو الصحيح؛ فتطبيق القانون بصرامة يريح المواطنين من صراعات ونزاعات فردية متعبة تعويضا عن غياب القانون في المجال العام.

تصوير: حسام عباس Credit: Hossam Abbas

لقد نجحت العواصم الكبرى في ضبط المجال العام في مراكزها وأطرافها على حد سواء، حين أصبح القانون مطبقا على الجميع بلا استثناء، وحين أصبحت العقوبات المفروضة على المخالفات فورية ومؤثرة. يمكن تحقيق ذلك بتحويل نظم الضبط والعقاب في المجال العام إلى نظم إلكترونية لا يتحكم فيها مزاج الأفراد، ما يوفر جهودا رقابية مضنية.

القاهرة ليست في حاجة لإنشاء مراكز إشعاع تجذب السائح والمفكر والفنان، فهي تملك تلك الأماكن وأكثر، والمطلوب تفعيلها وإلقاء الضوء عليها.

القاهرة منارة ثقافية

من زاوية أخرى هناك عوامل أخرى لا تقل أهمية عن الضبط القانوني تؤثر في روح المكان ودرجة إشعاعه، وأهمها تنوع مظاهر التعبير الفني والأدبي والفكري وانتشارها في المجال العام؛ وأقصد بذلك الحفلات الموسيقية وعروض الفنون الشعبية، والمسرحية، والمتاحف، والمعارض الفنية، والندوات الأدبية، وورش النحت والخط والحرف اليدوية.. إلخ. إن تشجيع مثل هذه الأنشطة ودعم مبدعيها هو ما جعل من باريس مدينة النور والفن، وكان الأساس في نهضة أوروبا من ظلمات القرون الوسطى.

الفنون الشعبية في القاهرة

المحزن أن القاهرة تملك مقومات الإشعاع بالمعنى السابق أكثر من أي مدينة على وجه الأرض؛ إنها مركز تجمعت فيه الحضارات وتركت آثارها الفنية والثقافية كما ألمحنا، إضافة إلى وجود مراكز ثقافية رسمية لمختلف دول العالم، فأصبح لدينا أماكن كثيرة ومتنوعة لإقامة هذه الأحداث الفنية/الأدبية/الفكرية وتحويلها إلى أحداث عالمية. القاهرة ليست في حاجة لإنشاء مراكز إشعاع تجذب السائح والمفكر والفنان، فهي تملك تلك الأماكن وأكثر، والمطلوب تفعيلها وإلقاء الضوء عليها.

ينقلنا ما سبق للنقطة الأخيرة وهي الدعاية الجيدة في الخارج، تلك الدعاية التي يجب أن تخاطب الآخر بمنطقه، بعد دراسة العوامل المؤثرة في اتخاذ السائح أيا كانت ثقافته لقرار السفر، وصرف جزء من عمره وثروته في مكان بعينه دون باقي الأماكن، وهو ما يمكن أن يحدث تلقائيا حين ينضبط المجال العام، ويتسع فيه مجال الأنشطة الثقافية على تنوعها.

شارع المعز لدين الله الفاطمي بالقاهرة
دار الأوبرا المصرية

عن د. أيمن بكر

حاصل على الدكتوراة في جامعة القاهرة، أستاذ الأدب والنقد والدراسات الثقافية في جامعة الخليج للعلوم والتكنولوجيا بالكويت. ورئيس قسم العلوم الإنسانية والاجتماعية. له عدة كتب في النقد الأدبي والثقافي منها السرد في مقامات الهمذاني (1998)، وتشكلات الوعي وجماليات القصة (2002)، وقصيدة النثر العربية (2009)، انفتاح النص النقدي، بالإضافة إلى مؤلفاته الشعرية مثل ديوان «رباعيات» بالعامية المصرية، والروائية مثل «الغابة». فاز بكر ٢٠٢١ بجائزة الشارقة لنقد الشعر العربي في دورتها الأولى عن كتاب بعنوان: الطقوسية، السردية، المبالغة، نحو نظرية للشعر العربي الحديث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *