أحدث الحكايا

إيهاب دكروري يحكي: ربابة يحيى العلمي التي عزف عليها سيرة الوطن

بينما كنا صغارًا، في أواخر السبعينيات، أذيع على شاشة التلفزيون المصري، مسلسل «الأيام»، السيرة الذاتية لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين. نجح المسلسل نجاحًا كبيرًا واستولى على اهتمام المشاهدين على اختلاف اهتماماتهم وثقافاتهم. أما نحن الأطفال في ذلك الوقت، كنا سندرس رواية “الأيام” في مسارنا التعليمي القادم في المرحلة الإعدادية، وهذا أدعى للمشاهدة، أما ما جعلني أتابع بانتباه وشغف لا ينقطع، أن طه حسين يحكي في بداية سيرته عن أسرته وطفولته في ريف المنيا، وهو ما كان مشتركًا بيني وبينه.

 

دراما يحيى العلمي

كان العمل أول بطولة تلفزيونية للنجم أحمد زكي، والمسلسل هو عتبته الأولى إلى عالم النجومية، أما إخراج المسلسل فكان للمخرج الراحل الكبير «يحيى العلمي»، الذي قدم قبلها بعام مسلسلًا ناجح جماهيريًا هو «برج الحظ» من تأليف لينين الرملي وبطولة محمد عوض، ثم «الأيام»، وأتبع ذلك بسلسلة من أفضل المسلسلات التي قدمها إلى التلفزيون من نهايات السبعينيات إلى نهاية التسعينيات مثل: العملاق (1979)، زينب والعرش (1980)، دموع في عيون وقحة (1980)، أديب (1982)، هو وهي (1985)، رأفت الهجان ج1 (1988)، رأفت الهجان ج2 (1990)، رأفت الهجان ج3 (1992)، دموع صاحبة الجلالة (1993)، لا (1994)، الزيني بركات (1995)، نصف الربيع الآخر (1996)، الحاوي (1997)، وقبلها وبعدها مسلسلات وسهرات تلفزيونية متميزة كثيرة.

له أيضًا مسيرة سينمائية ناجحة قدم من خلالها 19 فيلمًا من إخراجه، و11 فيلمًا ككاتب سيناريو. بعض هذه الأفلام بلغ درجة كبيرة من التميز مثل “الليلة الموعودة” و”شلة الأنس” وغيرهما، لكن مساره مع الدراما التلفزيونية والأعمال التي أخرجها هي التي أعني بالتوقف عندها والالتفات إليها هنا.

يحيى العلمي مع زوجته الفنانة تهاني راشد وابنته شيرين

 

توفى يحيى العلمي في عام 2002، وهو المولود في المنصورة في عام 1941. في شتاء نفس العام، وبعد وفاته بقليل، فكرت في إنتاج سهرة تلفزيونية تتناول سيرته وأهم أعماله، وشرعت بالفعل في كتابتها وجمع المادة المناسبة، وفي هذا الإطار سعيت لمقابلة أسرته، والتقيت السيدة تهاني راشد زوجته، وابنته شيرين في منزلهم بحي المهندسين بالقاهرة برفقة الزميل المخرج وليد الطيب.

وصلنا إلى باب الشقة في الموعد المحدد وجدناه مفتوحًا وتستطيع أن ترى بالداخل مجموعة من السيدات ترتدين الأسود. جاءت إلينا إحداهن فأخبرناها بالموعد والموضوع، فسارعت السيدة تهاني بالقدوم إلينا مرحبة وقادتنا إلى جلسة في صالون المنزل واعتذرت عن انشغالها عنا قليلا وأنها لن تتأخر.

فناجين القهوة المتناثرة على المناضد والسواد، جعلني أدرك أننا حضرنا في موعد ذكرى الأربعين. لم يمض وقت طويل حتى انصرفت آخر المعزيات وجاءت إلينا ابنته وزوجها رفقة السيدة تهاني راشد. وبعد تجديد التحية والتعزية وما إلى ذلك، بدأنا حديثنا عن الموضوع الذي جئنا من أجله، اتسم حديث السيدة تهاني بالبساطة الشديدة والتلقائية. وتحدثنا عن السهرة وحاجتنا إلى معلومات ومادة خاصة عن الأستاذ يحيى.

تهاني راشد ومحمود عبد العزيز في مسلسل «رأفت الهجان»

كانت الفكرة مرحبًا بها والجلسة ودودة وانصرفنا بعد ساعة تقريبًا على موعد قريب نلتقي فيه ونواصل العمل. فيما بعد، لأسباب وتعقيدات بيروقراطية لم ننجح في الحصول على الموافقة لإنتاج هذه السهرة. شعرت بالأسف لذلك، كانت محاولة مني للامتنان لمبدع كبير لم أسعد بلقائه في حياته، لكنها لم تكتمل وبقيت ذكرى لطيفة بخاطري، اقتربت من خلالها من عالم العلمي بصورة أكثر وضوحًا، وكان من ضمن ما جمعته في هذه الفترة عنه مجموعة مقالاته التي كتبها في مجلة “نصف الدنيا”، وأحاديثه في الصحف والمجلات المختلفة والتي كانت بمثابة الشاهد والكاشف لتجربته واختياراته.

سهير رمزي ومحمود مرسي من مسلسل «زينب والعرش»

يحيى العلمي والأيام

هنا استشهد بأحد المقالات المنشورة في مجلة «نصف الدنيا» في أغسطس 1993، بعنوان «عزفت على الربابة فتحول طه حسين إلى بطل شعبي»، والتي كتبها عن مسلسل «الأيام»، يمكن أن نستنبط منه كيف كان العلمي يفكر في رؤية أعماله قبل تنفيذها، وفي تركيبة شخوص عمله، إذ كتب:

“سألت نفسي أليست السيرة الأيام وهي السيرة الذاتية لطه حسين أشبه بالسيرة الهلالية؟ ولما لا يكون طه حسين الذي تغلب على عاهته وحارب أهوال قدره وجاهد ضد دروب الفقر والجهل والمرض، لما لا يكون بطلا شعبيا، وما الذي يمنعني من أن أمسك بالكاميرا وكأنها ربابة، أعزف عليها الحان ملحمة شعبية تُجسد سيرة هذا الرجل؟

وصفقت كطفل عثر أخيرًا على لعبته التي كان يبحث عنها، وشعرت أنني أضع قدمي على بداية الطريق، وارتفع ستار القلق الشفاف وقمت أطلب التليفون لأتواعد على لقاء عاجل مع شاعرنا الشعبي سيد حجاب، بعدها كانت جلسات وجلسات حتى حوّلنا سطور الكتاب إلى ملحمة شعبية، ثم انضم إلينا رائد موسيقانا الحديثة عمار الشريعي ليصنع من الكلمات ألحانا شعرية وكأنها إرث خصب خبّأه من أجلنا طه حسين خلف سطور كتاب الأيام”.

أظن العبارة المفتاح التي قالها هي: “أن أمسك بالكاميرا وكأنها ربابة، أعزف عليها ألحان ملحمة شعبية تجسد سيرة هذا الرجل”. فقد وصف العلمي دوره جيدًا بهذا التعبير، فهو الحكاء الكبير الذي اتخذ من الكاميرا أداة ليحكي لنا جزء من سيرة وطن عبر شخصياته وأبطاله وأهم أحداثه من طه حسين، إلى العقاد، وجمعة الشوان، لرأفت الهجان، للزيني بركات، لزينب والعرش وغيرهم.

أحمد زكي من مسلسل «الأيام»

من بعد مسلسل “الأيام” قدم العلمي مجموعة من المسلسلات، بنظرة واحدة إلى أسماء كتابها ندرك وعي وقصدية العلمي في الاختيار، فمن بداية العمل في 1978 مع لينين الرملي، ثم طه حسين، العقاد، فتحي غانم، صالح مرسي، سناء البيسي، صلاح جاهين، جمال الغيطاني، محمد السيد عيد، موسى صبري، مصطفى أمين، وغيرهم، ندرك معنى اختياراته.

من عتمة الليل النهار راجع
ومهما طال الليل بييجي نهار
مهما تكون فيه عتمة ومواجع
العتمة سور ييجى النهار تنهار
وضهرنا ينقام
– من تتر مسلسل «الأيام»، كلمات الشاعر الكبير سيد حجاب

 

وخلال كل هذه الأعمال شارك العلمي روايته مع أشعار سيد حجاب، وألحان عمار الشريعي، فلم يتخل عنهما أبدًا في أي من هذه الأعمال، فقط أضاف إليهما كمال الطويل وصلاح جاهين في «هو وهي»، أما في مجال التمثيل فلم يختر العلمي إلا نجوم الصف الأول، أو من جعل منهم نجوم الصف الأول، مثل: أحمد زكي، نور الشريف، عادل إمام، محمود مرسي، سعاد حسني، سهير رمزي، محمود عبد العزيز، نبيل الحلفاوي، فاروق الفيشاوي ويحيى الفخراني.

أحمد زكي وسعاد حسني في مسلسل «هو وهي»

جميعهم كتاب ومبدعون يمثلون سبيكة مصرية خالصة أو عقد من درر الإبداع شاركوا جميعًا مع غيرهم في صياغة وجدان وأفكار واختيارات وثقافة أجيال. سبيكة ذات توجهات وطنية خالصة استطاعت أن تمتعنا وتكشف لنا عن سيرة وطن عبر حقبة مهمة من تاريخه فصاغوا أعمالهم التي صاغت بدورها وجداننا شئنا أو لم نشأ.

صلاح قابيل وعادل إمام في مسلسل «دموع في عيون وقحة»

تذكُّر الآباء الكبار من صناع الدراما المصرية، ويحيى العلمي أحدهم، بالتأكيد محاولة لإنعاش ذاكرة أجيال شاركتهم الحلم والرؤية، ومحاولة لزيادة معارف أجيال جديدة وشابة إلى قيمة هذا الإرث الفني. والأهم هو محاولة لفهم لماذا بقيت هذه الأعمال مؤثرة جيلا بعد جيل، فهي ليست مجرد «تريند» تأخذه الأيام إلى النسيان.

فادية عبد الغني ويحيى الفخراني في مسلسل «نصف الربيع الآخر»
نادية فهمي ومحمد عوض في مسلسل «برج الحظ»

 

عن إيهاب دكروري

إعلامي وقاص مصري، كبير المذيعين بالتلفزيون المصري، قدم العديد من البرامج الثقافية الناجحة وساهم في تقديم المبدعين والكتاب في المجالات الثقافية المختلفة. صدرت له المجموعة القصصية «حامل الراية»، كما كتب في الدوريات والصحف المصرية المختلفة. عمل في مجال الإنتاج الإعلامي بتأسيسه لشركة «ميديا آرت كونيكشن» المعنية بصناعة الوثائقيات والبرامج الإعلامية، وصنع عددا من الأفلام الوثائقية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *