أحدث الحكايا

ابتسام أبو الدهب تحكي: جدران الأمس تتجمّل للمستقبل في قلعة صلاح الدين

“ماذا ستقول لنا الجدران إذا تحدثت؟”، هذا التساؤل يطرحه المعرض الفني “إذا كان للجدران أن تتحدث”، الذي أقيم في دار الضرب بقلعة صلاح الدين الأيوبي، بمشاركة أكثر من ٥٠ فنانا من جنسيات مختلفة، لنقل الفن والثقافة المعاصرة المصرية ولعيش تجربة التقاء الماضي مع الحاضر، ومحاولة سماع قليل من المحادثات والحكايات التي خطّها الزمن على أوجه الحجارة هنا وهناك.

همسات ومعايشات

إذا كانت همسات الجدران صعبة الفهم قليلا فاستيعاب الفن أسهل كثيرا، إذ يمكننا معايشة الحالة التي صنعتها الأعمال الفنية الكثيرة التي شاركت في المعرض، لوحات وأعمال بصرية وصناعات يدوية، كل منها تحكي قصة متفردة خاصة بها في فضاء تاريخي مثل القلعة، يفسح براحا لأسرار الفنانين وآلامهم وآمالهم، وما عاشوه من أزمات ونجاحات، فنستكشفها ونعيشها معهم ونشاركهم حكاياتهم، ليس فقط خلال فترة المعرض، إنما ما بعد ذلك، فما نعرفه يظل معنا ويرافقنا أينما كنا وفي كل وقت، فمنذ تتكشف الحكايا تعيش أبدا.

لوحات للفنانة المصرية السورية هند عدنان

الماضي والحاضر.. معًا

المعرض انقسم إلى 4 أقسام، كل قسم منها عبارة عن معرض جماعي مستقل، تحت عناوين “الحوار العربي”، “طقوس الحكايا الكامنة”، “معرض الفنون الزخرفية والتصميم”، و”إذا كان للجدران أن تتحدث”.  

الفنانة المصرية عاليا الطناني أشرفت على تصميم قسم “الفنون الزخرفية والتصميم”، الخاص بأعمال الفن الزخرفي والتصميم المصري، بمشاركة مجموعة من المصممين والفنانين لعرض أعمالهم التي تبرز تطور وفرادة مجال “الديزاين”، فسردت الأعمال المعروضة حكايات تطور وتميز الصناعات التراثية المصرية من السجاد، والأثاث الخشبي المصنوع صناعة مصرية بالكامل، والخيامية والتطريز وصناعة الاخشاب والجلود والنحاس، إضافة إلى 10 علامات تجارية محلية صنعت فارقا في مجال الموضة والتصميم المعاصر المستوحى من تاريخنا الثري، مثل مجموعة السجاد اليدوي المصنوع على طرز مختلفة منها مثلا الطراز المملوكي، والكراسي الخشبية المستوحاة من أشكال المقاعد الفرعونية.

جانب من معروضات قسم “الفنون الزخرفية والتصميم”

 

المعرض لم يحك قصص الماضي لمصر فقط، إنما توسّع ليسرد تجارب بلاد أخرى، ويقص على الزائرين ما شاهدته أو سمعت عنه الجدران من أحداث تاريخية، وذلك بمشاركة 50  فنانًا من أنحاء العالم، كجزء من الدورة الثالثة لمعرض حي القاهرة الدولى للفنون، الذي انطلق في شارع المعز التاريخي عام 2019 تحت عنوان “سرديات معاد تخيلها”، برعاية «آرت دى إيجيبت». 

حكايات الأوطان الجريحة

أحد أوجه الحكايات المروية في المعرض هي الحكايا التي سردها الفنانون الذين عاشوا مآسي الحروب والتهجير والفقد، من البلدان العربية التي عاشت ومازالت تعيش أزمات إنسانية مفجعة مليئة بالآلام وقصصا محملة بخيبات الأمل وعبثية الحياة، والجروح المنكشفة التي لا تندمل؛ فبعض الفنانين المشاركين من فلسطين، العراق، سوريا، ولبنان والسودان.

من هؤلاء الفنانين عبد الرحمن قطناني، وهو شاب فلسطيني ولد عام 1983، في مخيم صبرا وشاتيلا للاجئين في لبنان، لجأ للفن كي يعبر عن قصته كما يراها ويشعر بها، وكيف يرى العالم بعدما عايش واقع الحياة اليومية للاجئين الفلسطينيين في المخيم، وكيف شغلته القضية وموضوعات كالوطن والنزوح والمقاومة وكيف عبّر عنها في أعماله.

يحكي قطناني قصته بطريقة فريدة رغم الشجون التي تسكنها، حيث يدمج مواد عثر عليها من المخيم مثل بقايا الأقمشة والحبال وأغطية الزجاجات، والحديد والأسلاك الشائكة، وعلب الصفيح وغيرها، لينتج قطعا فنية تكشف جزءا من روحه دون أن يتكلم. 

أحد أعمال الفنان اللبناني فلسطيني الأصل عبد الرحمن قطناني
من أعمال الفنان عبد الرحمن قطناني

 

هناك أيضا الفنان التشكيلي العراقي سيروان باران، الذي يعبر دائما في أعماله عن الحرب والموت وآلام الفقد، ويحاول دائما تجسيد تحولات المشاعر الإنسانية العراقية التي خبرت القمع والظلم والخسارة والدمار وشهدت الحروب الأهلية والصراعات الدموية والعمليات الإرهابية، فيعيد تشكيل المأساة التي عاشتها بغداد لسنوات طويلة. 

من أعمال الفنان التشكيلي العراقي سيروان باران

 

فنان تشكيلي عراقي أيضا شارك في المعرض، وهو الفنان محمود العبيدي، الذي يحكي مآسي وطنه من خلال القضية الأكبر التي شغلته، وهي جرائم الإبادة وتغيير المجتمعات بالقوة، ومدى العنف الذي يمكن أن تمارسه مجموعة بشرية ترى في نفسها قوة ما على مجموعة أضعف، مخلفة وراءها أجسادا مقطعة وبقايا مدن تاريخية، ونباتات بلا حياة وظلاما حالكا، وهي نفس العناصر التي يرسمها في لوحاته بطريقة تُشعر المتفرج بالوَحشة والثقل.

من أعمال الفنان التشكيلي العراقي محمود العبيدي

 

حكاية أخرى يرويها الفنان بهرم حاجو الكردي السوري الأصل والألماني الجنسية، وهي حكاية الغربة ومعاناته الإنسانية التي عاشها، فيجسد في لوحاته مشاعر الغربة والحنين والغضب والحزن، وغيرها.  

من أعمال الفنان السوري بهرم حاجو

نتقاسم البؤس معًا

أما القسوة التي نعيشها في هذا العالم، يحكيها الفنان السوري يوسف عبدلكي، الذي يرسم دائما بالأبيض والأسود، وله مجموعة أعمال كبيرة تجسد الطبيعة الصامتة، ينقل من خلالها آثار ما عاشه في الحرب وواقع الحال السوري بشكل عام من فقد وغربة وترحال. رائحة الموت ليست بعيدة عن لوحاته، حيث تمتليء بالشهداء والقتلى، والوجوه المفجوعة، والزهور المقطوعة والذابلة، والعصافير المذبوحة، والأسماك المقتولة بالمسامير، والكثير من الأمهات الثكلى. 

لوحاته هي إحدى أدواته التي يستخدمها ليكشف عن معاناته، ويضيف بكتاباته صوتا آخر يكشف ما في دواخله ورؤيته للعالم، فيقول في أحد لقاءاته: “لا شيء يسير على ما يرام.. الكل يتقاسم البؤس معا”.

من أعمال الفنان السوري يوسف عبدلكي

 

أحد أوجه البؤس الذي نشهده في هذا العالم، هو جميع الممارسات التي تتم ضد الأطفال، ومنها مأساة هجرة الأطفال في البحر المتوسط، وهي القضية التي عبرت عنها لوحتان في معرض “إذا كان للجدران أن تتحدث”، للفنانة الإماراتية فاطمة لوتاه.

لوحتان عن هجرة الأطفال للفنانة الإماراتية فاطمة لوتاه

إذا تحدثت جدران اليوم عن الأمس

“غالبًا ما تشهد الجدران التي تحيط بنا بصمت على القصص والعواطف والتواريخ التي تتكشف داخل حدودها، فهي تحمل أسرار لحيوات لا تعد ولا تحصى، مرددة صدى الأفراح والأحزان واللحظات ذات الأهمية العميقة التي شكلت وجودنا، حيث يتعمق هذا المعرض في المفهوم الآسر لـ “إذا كان للجدران أن تتحدث”، لاستكشاف الروايات الخفية، مدمجة في الفضاء الذي نعيش فيه، من خلال مجموعة متنوعة من التعبيرات الفنية، ونحن نهدف إلى تجاوز الحدود المادية للجدران، والتعمق في العوالم غير الملموسة للذاكرة والخيال والوعي الجماعي”.

بتلك الكلمات وصفت الفنانة نادين عبد الغفار مؤسسة «آرت دى إيجيبت» للفنون، مفهوم سلسلة معارضها “إذا تحدثت الجدران”، سواء الذي أقيم في القلعة وأغلق أبوابه السبت 4 نوفمبر، أو شارع المعز منذ سنوات، أو الذي سيقام مستقبلا في أماكن تاريخية أخرى لاستكشاف قصص وحكايات إنسانية لم تُكشف بعد.

اقرأ أيضا:

ابتسام أبو الدهب تحكي: الرحلة اليومية لإله الشمس “رع” في ممالك الأهوال

ابتسام أبو الدهب تحكي: التفاحة.. ثمرة الجنة الملعونة/المظلومة

عن ابتسام أبو الدهب

كاتبة صحفية، تخرجت من قسم الآثار المصرية بكلية الآثار جامعة القاهرة عام 2015، وتستكمل الدراسات العليا لنيل درجة الماجستير بنفس القسم. تعمل في الصحافة منذ عام 2011، في عدد من الصحف المصرية والمواقع العربية، ترأست قسم الأخبار والتحقيقات بجريدة القاهرة عام 2022. وتعمل حاليا بمجلة البيت الصادرة عن مؤسسة الأهرام، ومُعدة بقناة الحياة، كما تعمل كمدربة للأطفال بمشروع "أهل مصر" منذ عام 2019.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *