أحدث الحكايا

د. هيثم الحاج علي يحكي: حصر مصر وحكاية الهوية

في بداية التاريخ أو قبله بقليل، تجمع مجموعة من البشر حول نهر كبير. وتركوا ربما للمرة الأولى في تاريخ البشرية الترحال ليستقروا في مكان واحد، حين ارتبطوا بأرضه، عندما اكتشفوا أن بالإمكان أن يستغلوا نتاج هذه الأرض في الطعام والكساء، وبدأوا في الاتفاق على أن هذا التجمع من البشر يجب أن يكون له نظام ما، ناتج من اكتشافهم أنهم يمكنهم أن يزرعوا تلك الأرض، ولا ينتظرون فحسب ما تنتجه من ثمار.

 

كانت مصر هي المثل الأعلى التي حاول الجميع تقليدها، أو الانتماء إليها أو السيطرة عليها، كل بحسب قدرته وقوته الطارئة وطموحاته.

 

الزارع الأول

من هنا بدأ الزارع المصري الأول في استكشاف إمكانات هذه الأرض وهذا النيل، فكان أول نظام في التاريخ ينتظم فيه مجتمع، ليتطور هذا النظام، ويصير دولة، هي الدولة الأولى في التاريخ، دولة لها حدودا الثابتة المعروفة المستقرة التي يعرف أهلها أنها يمكنها استيعابهم وقضاء احتياجاتهم وضمان مستقبلهم.

من هنا كانت الدولة التي تطلع إليها كل من لم ينتم إليها من القبائل الرحل المحيطة، ومن الدول التي نشأت فيما بعد، كانت مصر هي المثل الأعلى التي حاول الجميع تقليدها، أو الانتماء إليها أو السيطرة عليها، كل بحسب قدرته وقوته الطارئة وطموحاته.

لكن الحقيقة المؤكدة أن تلك الأرض التي حدها أهلها بحدود واضحة منذ بداية التاريخ قد بقيت على هذه الحدود وإن تغيرت كل حدود العالم، هي ذلك المربع من الأرض في شمال شرقي أفريقيا، ويحدها بحران، وصحراء، وإن مرت عليها السنون وحكمها الأقوياء الطامحون لتتسع تلك الحدود لبرهة من الزمن، أو الضعفاء لتتقلص أو يتم احتلالها، لكنها تعود دائما لشكلها الثابت المستقر.

 

خريطة مصر

المواطن التاريخي الأول

وسط هذا الثبات تتحرك الشخصية المصرية التي كانت هي المواطن التاريخي الأول، ذلك الذي صنع هوية خاصة به، ربما كانت هي الأولى في التاريخ، واستطاع بحسه الزراعي المرتبط بالأرض أن يغرس جذوره فيها لكنه كان دائما ما يقبل الإضافة والتعديل بغرض التطور، مثل الفلاح الذي يهجن أشجاره لينتج ثمرة جديدة، مع الحفاظ على الجذر الأصلي، ولذلك فإنه على الرغم من مرور كثير من الأجانب على هذه الأرض ومحاولاتهم تغيير هويتها، كانت الهوية المصرية تقبل دائما بعض الإضافات، تعدل فيها وتمتصها وتعيد إنتاجها لتصبح مصرية وتسهم في إضافة طبقة جديدة من الهوية عليها، وربما لهذا السبب يمكن لنا أن نحكم بأن الهوية المصرية هي الأشد تعقيدا وتركيبا – ربما – على مستوى العالم والتاريخ.

أرابيسك الهوية

لقطة من مسلسل أرابيسك

 

في بداية الألفية أبدع أسامة أنور عكاشة واحدا من أهم نصوصه الدرامية في مسيرته الكبيرة وهو مسلسل أرابيسك الذي جسد شخصيته صلاح السعدني، وقد طرح عكاشة في هذا المسلسل مجموعة من القضايا الراهنة في حينه، لكن القضية الأساس التي دارت حولها كل تساؤلات الشخصيات وإجاباتهم كانت حول الهوية المصرية في الأساس.

كان حسن أرابيسك (اسم الشهرة لشخص يعمل في النجارة العربية واسمه الأصلي: حسن فتح الله النعماني) قد تم تكليفه عن طريق أحد مكاتب الديكور الحديثة بعمل بض الديكورات لفيلا العالم النووي المصري العائد توا من أمريكا الدكتور برهان، وزوجته الدكتورة ممتاز محل عالمة اللغويات، وهما اللذان اتفقا على أن تكون تلك الفيلا تعبيرا عن الحضارة المصرية بصورة مختصرة وجميلة.

وعلى الرغم من وضوح الرؤية في البداية لدى مهندس الديكور بأن هذا التعبير عن الحضارة المصرية يكون عن طريق تقسيم الفيلا إلى أقسام واضحة، بهو فرعوني وصالة قبطية وبعض الأركان اليونانية والرومانية غرفة عربية، هي التي سيتم تكليف حسن أرابيسك بها، غير أن حسن أرابيسك الذي قد اصطدم في التعامل للوهلة الأولى مع الدكتور، قد بدأ في طرح التساؤل حول كيف يمكننا التعبير عن الهوية المصرية، ثم ما هي أصلا الهوية المصرية، ليصل في النهاية إلى رؤية مفادها أننا نعي هذه الهوية بصورة منقوصة أو مغلوطة، وأننا نحاول أن نعيها بوصفها تتابعا من الفترات التاريخية وليس عن طريق التراكم.

 

يصل أرابيسك إلى حقيقة أن الفيلا بشكلها الحالي لا يمكنها التعبير عن هذا التراكم المعقد الذي استطاع امتصاص كل العناصر التي مرت عليه، وبذلك يبدأ في تكسير بعض أعمدة الفيلا التي رآها زائدة على هذا التعبير، ليصل الأمر به إلى هدم الفيلا، تلك الواقعة التي لا يتهمه فيها الدكتور برهان (العالم) بل إنه قد يكون قد أقره عليها.

طبقات الأرض

إن السؤال الجوهري الذي طرحه أرابيسك علينا حول هويتنا يجعلنا نقف الآن أمام تلك المعضلة لنبدأ من الآن حصر تراكمات الهوية المصرية التي لا يمكن رؤيتها بوصفها كتلة واحدة بل هي أشبه بطبقات الأرض الجيولوجية المتراكمة عبر التاريخ والتي تؤثر بالتأكيد في حاضرنا وكيفية تناوله، ورؤيتنا لأنفسنا بوصفنا أصحاب الجذر الأكثر انغراسا في عمق التاريخ.

عن د. هيثم الحاج علي

شاعر وناقد، أستاذ مساعد الأدب العربي الحديث والنقد بكلية الآداب جامعة حلوان. شغل سابقا العديد من المناصب في وزارة الثقافة المصرية مثل: رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرة الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية، له العديد من الكتب النقدية والإبداعية.

تعليق واحد

  1. حكاية تفتح الافاق لمزيد من الحكايات عن الهوية المصرية .. تحياتي للدكتور هيثم الحاج ومتشوقة للمزيد في هذا الموضوع الهام جدا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *