أحدث الحكايا

د. جيهان زكي تحكي: بلغني أيها الملك السعيد.. ذو الرأي الرشيد

مقدمة

تلتقي الحكايات دائما، كما تلتقي الثقافات. وذلك ما يؤكده كتاب “إيزيس وشهرزاد.. تلتقيان في آخر بلاد المسلمين”، للدكتورة جيهان زكي، عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب، وأستاذة الحضارة المصرية بمركز البحوث بجامعة السوربون.

تنشر منصة “شهرزاد” فصول الكتاب على حلقات متتابعة لنعيش معا سحر الحكايات ونكتشف التشابه بين شهرزاد الحكاءة الأعظم في تاريخ الثقافة العربية وإيزيس الربة الأكثر شعبية في حضارة مصر القديمة وما تلاها من حضارات.

(2)

بلغني أيها الملك السعيد.. ذو الرأي الرشيد

بلغني أيها الملك السعيد.. ذو الرأي الرشيد أنّه في قديم العصر والأوان، كانت هناك مملكة كبيرة، امتّدت من بلاد فارس إلى حدود الهند والصين، وكان يحكمها ملك عظيم، عُرف بالحكمة والعدل، فتمتّعت البلاد تحت ولايته بالهدوء والسلام والاستقرار. وكان لهذا الملك ولدان كان قد أحسن تربيتهما، الابن الأكبر يدعى “شهريار” وهو الذي تولّى الحكم بعد وفاة أبيه، أما الابن الأصغر “شاه زمان” وكان قد تولى حكم بلاد العجم، واستمرّ الحال هكذا لمدّة عشرين عاماً.

وفي صباح يوم من الأيام، بَعث “شهريار” وزيراً من حاشيته برسالة خاصة لأخيه “شاه زمان” يدعوه لزيارته حيث اشتاق لرؤيته، فلبى “شاه زمان” الدعوة و خرج من قصره متجهاً إلى قصر شهريار.

وفي سياق الحبكة الدرامية للرواية، أدرك “شاه زمان” وهو في منتصف الطريق أنّه نَسِي اللؤلؤة الثمينة التي كان قد اشتراها خصيصاً لتقديمها لأخيه، فعاود إلى قصره، ولما وصل، صدمته الأقدار بمشهد مؤلم حيث وجد زوجته في أحضان عبد من عبيده، فاستشاط غضباً وقتلهما جزاء خيانتهما.

مرت أيام طويلة على هذا الحادث المأساوي غير أن جرح الخيانة ظل متأججاً في قلب “شاه زمان”.. لاحظ الملك “شهريار” حزن أخيه الشديد، وامتناعه عن الطعام والشراب فقرر اصطحابه في رحلة صيد ولكنه رفض وفضّل البقاء في القصر، بينما ذهب الملك شهريار إلى الأحراش والمستنقعات البعيدة.

حكايات ألف ليلة وليلة

 في يومٍ ربيعي مشرق وبينما كان “شاه زمان” يتجول  في حديقة القصر متأملاً جمال الطبيعة المزدهرة بالورود،  وقعت عيناه على زوجة أخيه في موضع غرامي مع أحد حراس القصر من خلف شباك غرفة النوم الملكية، فضاق ذرعاً وتذكر حادثته المؤلمة مع زوجته وتوجع كثيراً وقرر أن يَقُص على أخيه ما دار في غيابه، فما كان من “شهريار” إلّا أن قطع رأس زوجته بسبب خيانتها وطرد الحارس خارج حدود مملكته. 

امتلأ قلب “شهريار” بالكره تجاه النساء ظنّاً منه أنّهنّ جميعاً خائنات، فقرر الانتقام من كل نساء مملكته، وأصبح يتزوّج كلّ ليلة بفتاة جديدة ليقتلها في صباح اليوم التالي، حتّى أتى يوم على “شهريار” لم يجد فتاةً ليتزوجها في مملكته مترامية الأطراف حيث إنه قتل منهنّ من قتل، والأخريات هرَبنَ من ظلمه واستبداده إلى ممالك بعيدة، ولم يبقَ سوى “شهرزاد”، ابنة الوزير الكبرى. 

شهريار في ألف ليلة وليلة

فعندما عَلمت “شهرزاد” بالحال البائس الذي آل إليه الملك “شهريار”، قرّرت أن تضع حدّاً لهذا الأمر الحزين الذي وصل إليه  الوضع داخل القصر، واستأذنت والدها الوزير كي يبارك زواجها من الملك.

رفض الوالد طلب ابنته بشدة، خشيةً عليها أن تقع ضحيةً لـ“شهريار” كمن سبقنها، ولكنها استطاعت أن تقنعه بذكائها و أطلعته على غايتها الإنسانية في إنقاذ الشعب من قسوة وبطش “شهريار” ودرء غيمة الحزن التي حلت على كل البيوت التي فقدت فتاة بعد زواجها من الملك.

“ألف ليلة وليلة هي عمل مركب يتكون من مجموعة من القصص الشعبية التي نُقلت في الأصل شفاهياً وتطورت خلال عدة قرون، حيث أضيف لها مجموعة من القصص بشكل تلقائي في فترات متباينة وبقاع متباعدة.”

الهروب بالحكايا

وحلَّت ليلة الزفاف وحينها، طلبت “شهرزاد” من الملك أن تروي لأختها الصغرى “دنيا زاد” قصةً قبل أن تُفارق الحياة. ففعلت ونجحت في تحقيق هدفها، بل وسار الأمر كما ارتأت بفطنتها وبذكائها وبدأت تروي له كلّ يوم قصةً حتّى يتملّكه الشغف والفضول لمعرفة باقي الأحداث، فتتوقف وتُكملها في اليوم التالي، فيمتنع عن قتلها ليستمع لباقي القصة.

كانت “شهرزاد” تحرص دائما على أن تُدرِج حكايتها في عالم مليء بالعجائب والغرائب، وإلا فإنها لن تؤتي بثمارها. حيث إن المستمع يجب أن ينجز ذهنيًا المسافة التي يقطعها البطل من العالم المألوف إلى العالم الغريب. يحدُث هذا الاستعداد الخاص منذ اللحظة التي تقدّم الحكاية باعتبارها مدهشة ومذهلة.

لوحة شهرزاد وشهريار لفرديناند كيلر عام 1880

 وتخلق شهرزاد إحساسًا من الانتظار القلق، إذ إن نهاية الحكاية لا تتطابق مع نهاية الليلة، وهكذا على الملك أن يترقب، كل فجر، استكمال الشمس لمسيرتها اليومية. وما أن تنتهي الحكاية حتى تبدأ أخرى جديدة بوصفها أكثر جمالًا وعجائبية من سابقتها. 

 واستغرق الأمر منها ألف ليلة وليلة، حتّى وقع “شهريار” في حُبّها وأنجبت منه ولداً وتوقف عن قتل النساء وعاد إلى رُشده.

 “ويرجع فضل دراسة اللغات الشرقية في الحقيقة إلى المرسَلين المبشرين الموفَدين إلى البلاد الشرقية من قبل الباباوات؛ فهؤلاء هم الذين حملوا معهم عند رجوعهم إلى بلادهم تلك اللغات.”

عمل مركب

ألف ليلة وليلة هي عمل مركب يتكون من مجموعة من القصص الشعبية التي نُقلت في الأصل شفاهياً وتطورت خلال عدة قرون، حيث أضيفت لها مجموعة من القصص بشكل تلقائي في فترات متباينة وبقاع متباعدة.

غير أن هناك بعض الشخصيات الرئيسية من واقع التاريخ في طيات هذه الحكايات، مثل الخليفة العباسي الشهير “هارون الرشيد”  والوزير الكبير “جعفر البرمكي” بالإضافة إلى الشاعر الشهير “أبو نواس”، هذا بجانب الجنيات والغول الأسطورية، وبعض الطيور العملاقة مثل  طائر الرخ.

أما عن أول من ذكر اسم ألف ليلة وليلة من المؤرخين العرب فكان المؤرخ المسعودي في كتابه “مروج الذهب” وهو من مؤرخي القرن الرابع الهجري، حيث قال عنه:

“ويقال له هَزار أفسانة وتفسيرها خرافة بالفارسية، والناس يسمون هذا الكتاب ألف ليلة وليلة وهو خبر الملك والوزير وابنته”. 

 أما الذي بحث في أصل “هزار أفسانة” وفنّد أصله هو المؤرخ ابن النديم صاحب الفهرست الذي قال:

“إن ملكًا من ملوكهم كان إذا تزوج امرأة وبات معها ليلة قتلها من الغد. فتزوج بجارية من أولاد الملوك لها عقل ودراية، يقال لها شهرزاد، فلما حصلت معه، ابتدأت تخرّفه وتصلُ الحديث عند انقضاء الليل بما يحمل الملك على استبقاؤها ويسألها في الليلة الثانية عن تمام الحديث إلى أن أتى عليها ألف ليلة، إلى أن رزقت منه ولدًا أظهرته وأوقفت الملك على حيلتها عليه فاستعقلها ومال إليها واستبقاها حتى وصلت بهم الليالي ألف وليلة واحدة. فوقع الملك في حبها وأبقاها زوجة له وتاب عن قتل الفتيات واحتفلت مدينة الملك بذلك لمدة ثلاثة أيام”.

 أما أول ترجمة كاملة لـ“ألف ليلة وليلة” إلى اللغات الأوروبية، فقد قام بها “أنطوان جالان” حيث نقلها إلى الفرنسية في أوائل القرن الثامن عشر ومن بعده، العديد من الكتاب الذين قاموا بترجمات للغات مختلفة، بدءاً  بالإنجليزية تحت مسمى “الليالي العربية”.

المجلدات الأصلية لألف ليلة وليلة ترجمة أنطوان جالان

لغات محظورة

وأود أن أذكر هنا أن لغات الأمم الشرقية كانت مجهولة تقريبًا في أوروبا قبل الحروب الصليبية، وليس هذا بعجيب، إذا علمنا أن كافة العلوم، وعلى الأخص الدينية منها كانت وقفًا على الرهبان والبابوات في الكنيسة الكاثوليكية، والتي كانت تبيح لهم السيطرة على كل شيء يختص بالكتب، ولم يكن في استطاعة أحد أن ينشر أي كتاب إلا إذا كان باللغة اللاتينية، وبإذن خاص من البابا.

 ويرجع فضل دراسة اللغات الشرقية في الحقيقة إلى المرسَلين المبشرين الموفَدين إلى البلاد الشرقية من قبل الباباوات؛ فهؤلاء هم الذين حملوا معهم عند رجوعهم إلى بلادهم تلك اللغات.

 كان ظهور الراهب “مارتن لوثر” أثراً كبيرا في تطور الفكر تجاه الشرقيين، فإذا بهم يتعلمون اللغات حبًّا في العلم لذاته، وخدمة للحقيقة، وميلًا لآداب اللغات، لا لغرض ديني أو سياسي أو تجاري كما يزعم البعض.

و بالنسبة للغة العربية، فقد ذاعت شهرتها ولهجتها الرنانة العذبة، حين بدأوا يترددون علي بلاد الأندلس وجزيرة صقلية وفلسطين؛ حيث تأملوا العمران وهندسة المباني البديعة التي تعكس حضارات عريقة وتمدْيُنٍ مبهر.

“بهذا المعنى الراقي انتقلت “شهرزاد” إلينا مرة أخرى في أدبنا العربي الحديث والمعاصر بومضات الأدب الغربي غير أن هذا النموذج الإيجابي والإنساني للمرأة الشرقية التي كانت تمثله تلك الفتاة قد نُقل بشكل مغاير وتحول مع مرور الأيام إلى نموذج للمرأة الضعيفة أمام رجل جبّار.”

شهرزاد العالمية

أصبحت شخصية “شهرزاد” عالمية بعد انتشار ترجمات ألف ليلة وليلة وصارت بمثابة ينبوعًا للأعمال الفنية والأدبية في أغلب ثقافات العالم. وقد تحولت شخصيتها في الثقافة الغربية الشعبية إلى رمز للمرأة الشرقية، خاصة في القرن التاسع عشر. 

وقد كان لشخصية “شهرزاد” في الأدب الغربي قدراً كبيراً وأثراً عميقا في النفوس وقد بدا ذلك جليًا في اهتمامات الدارسين بقصة “ألف ليلة وليلة” التي أصبحت محورًا لمعظم الدراسات الشرقية والأبحاث سواء على مستوى الترجمة أو النقد أو الاستلهام. 

لوحة شهرزاد للفنان الفرنسي إدموند دولاك

وقد قال السير “ريتشارد بيرتون” عندما ترجم حكايات ألف ليلة وليلة عن شهرزاد أنها فتاة مثقفة، بحثت في كتب وأساطير وقصص الملوك السابقين حيث قال إنها جمعت ألف كتاب كاملة من القصص والحكايات عن الملوك السابقين، كما أنها أيضًا قرأت في الشعر وعرفته معرفة جيدة ودرست الفلسفة والعلوم والفنون. وأضاف أن شهرزاد كانت فتاة ذات أخلاق عالية بالإضافة إلى أنها كانت لطيفة ومهذبة، حكيمة، بارعة في أشياء عديدة، وقارئة جيدة.

وبهذا المعنى الراقي انتقلت “شهرزاد” إلينا مرة أخرى في أدبنا العربي الحديث والمعاصر بومضات الأدب الغربي غير أن هذا النموذج الإيجابي والإنساني للمرأة الشرقية التي كانت تمثله تلك الفتاة قد نُقل بشكل مغاير وتحول مع مرور الأيام إلى نموذج للمرأة الضعيفة أمام رجل جبّار، المرأة التي تواجه التحديات وقسوة الزمان بمفاتن جسدها والإغراء وأحياناً بالكيد والسحر مما يناقض الحقيقة وقوامها المعنوي وموقف “شهرزاد” الإنساني عندما أقدمت على الزواج من “شهريار”. 

ووفقا لما جاء في رؤية الشاعرة المغربية عائشة بلحاج فقد “استُعملت قصة ألف ليلة وليلة ضد المرأة الشرقية، لا معها، حيث تعوّد الجميع -بما فيهم النساء- على تسويق نموذج شهرزاد كمثال للمقاومة والمواجه للسلطة الذكورية ونموذج للمرأة المتاع، الجارية التي تباع وتشتري”.

عن د. جيهان زكي

عضو مجلس النواب، الرئيسة السابقة للأكاديمية المصرية للفنون بروما، أستاذ علوم المصريات بمركز البحوث العلمية بجامعة السوربون الفرنسية، عملت مستشاراً للشئون الخارجية والمنظمات الدولية فى وزارة الآثار، ثم مستشارًا لمنظمة اليونسكو بمكتبها الإقليمي بالقاهرة. نالت العديد من الجوائز والأوسمة منها وسام فارس من الطبقة الوطنية بفرنسا، كرمتها اليونسكو عام 2015 ضمن 70 امرأة مؤثرة حول العالم، وفي نفس العام حصلت على الوردة البرونزية الإيطالية" التي تعد أرفع وأقدم الأوسمة في مجال التواصل بين الشعوب بإيطاليا، ووسام "شجرة الإنسانية" فى 2017 لدورها فى إعلاء لواء الفكر والفن ومد جسور التواصل الثقافى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *