أحدث الحكايا

د. سارة حواس تحكي: ما لا يعرفه أحد عن “فوسه” صاحب نوبل الجديد.. شاعر السماء على الأرض

“لكي تكتبُ شِعرًا استمعْ، ولا تتدَبَّر، إنه التحدث عن تقديم شيء موجود وحاضر بالفعل، لذا عندما يقرأ المرء شِعرًا عظيما سيصل إلى تلك النتيجة أنا بالفعل أعلم كل تلك الأشياء ولكنني لم أتمكن من التعبير عنها، فاللغة تستمع إلى نفسها.

بهذه السطور القليلة أبدأ حكايتي عن الروائي والكاتب المسرحي والشاعر والمترجم يون فوسه الحائز على جائزة نوبل في الآداب لعام 2023، حيث عبَّر من خلالها عن رؤيته للشعر بوصف فنًّا من فنون الأدب الذي نستطيع من خلاله أن نعبر عما يختلج في نفوسنا من مشاعر وأحاسيس نشعر بها، ولكننا نفشل في التعبير عنها إلا عن طريق الشعر.

فوز الكاتب النرويجي يون فوسه بجائزة نوبل للآداب لعام ٢٠٢٣

حطام الشعر الطافية

حُطام مُلقاة وُجدت طافيةً في عرض البحر ودفعتها المياه إلى الشاطىء” (Flotsam and jetsam)، أطلق الكاتب والشاعر النرويجي يون فوسه هذا المسمَّى أو التعريف على شعره، ويعني أن الشعر شيء يحدث ليطفو أو يسبح نحو الماضي أثناء عملية الكتابة.

هذا المشهد الذي عبَّر به فوسه عن رؤيته الخاصة لقصائده الشعرية، يتناسب تماما مع طبيعة شخصيته حيث نشأ على ضِفاف مضيق هاردانجيرفجورد، وهو مكان يتمتع بخصائص طبيعية ساحرة مليء بالخطوط المتعرجة والمياه الغزيرة والرياح والصخور وكثير من الأمطار، وتكرر هذا المشهد الطبيعي كثيرا في أعماله حيثُ كان له التأثير الأكبر في كتاباته الشعرية والروائية والمسرحية.

جانب من كتابات فوسه

الشاعر المجهول

وقد ولد الكاتب والشاعر النرويجي يون فوسه في ستراندبارم في النرويج عام 1959 وكان طفلا يهوى ركوب الدراجات وعزف الجيتار. وبدأ الكتابة عندما كان طفلا، لكن بدايته الحقيقية كانت مع رواية رودت سفارت (أحمر، أسود)، وحقق شهرة عالمية بمسرحياته، أما عن شعره ونثرهوكتب الأطفال والمقالات فلقد حظيت بشهرة أقل عالميا برغم امتياز وفرادة لغته الشعرية الفلسفية المليئة بالغرابةوالتناقضات التي تتسم بها النفس البشرية.

بدأ يون فوس كتابة المسرح بعد عشر سنوات من إصرار صديقه المخرج كاي چونسون حيث كان يشجعه دائما على كتابة المسرح، ومن أسباب لجوئه إلى كتابة المسرح أنه كان يعاني من ضائقةٍ ماليةٍ وكانت تلك المحنة بداية منحة السماء له، حيث فُتحت له أبواب النجاح منذ ذلك الحين حتى أُطلق عليهإبسن الجديد” لاتباعه طريقة ومنهجية الكاتب المسرحي النرويجي الشهير هنريك إبسن (18281906) في كتابة المسرح.

وتتسم أعمال يون فوسه بلغة موسيقية، فكلماته بسيطة غير معقدة مليئة بالإيحاءات، وإيقاعه متكرر، ينجح دوما في إيصال رسالته المرجوة من خلال الإيقاع واللحن والصمت، ففي رواياته نجد أن الرواية تُسرد وتندفع أحداثها على هذا الإيقاع من دون توقُّف ووضع نقاط، وهذا يجعل القارىء يُقبل على قراءة العمل من دون كلل أو ملل مستمتعا بإيقاع يون فوسه في الكتابة.

يون فوس

ومع كل هذه البساطة والعذوبة قال فوسه لصحيفة لوموندالفرنسية في عام 2003: أنا لا أكتب عن الشخصيات بالمعنى الحرفي والتقليدي للكلمة ولكنني أكتب عن الإنسانية”. وأضاف قائلًا: “‘العناصر الاجتماعية حاضرة وموجودة وهي البطالة والوحدة والأُسر المحطمة ولكن الأمر الأساسي والمهم هو ما يوجد بينهما أي الشقوق والفجوات بين الشخصيات وعناصر النص“.

لا يخجل يون فوسه من تناوله موضوعات حيوية ومهمة في الحياة كالميلاد والموت والحُب والعُزلة وتلك التيمات هي السائدة في أعماله المختلفة والمتنوعة.

البداية الملهمة

بدايات يون فوسه العملية مُلهُمة إلى حد كبير، ففي بداية التسعينيات كان يكافح لتغطية نفقاته ككاتب وطُلب منه حينها أن يكتب بداية مسرحية، وقال في هذا الصدد: كانت هذه المرة الأولى التي أجرب فيها هذا النوع من العمل وكانت أكبر مفاجأة لي ككاتب لأنني شعرت حينها أن هذا النوع من الكتابة قد خُلق لي“.

حقق يون فوسه نجاحًا مدويًّا وتُرجمت أعماله إلى حوالي خمسين لغة وفقًا لناشره النرويجي ساملاجيت وعُرضت مسرحياته أكثر من ألف مرَّةٍ حول العالم.

جانب من كتابات يون فوسه

تسمم وعودة

تعرض يون فوسه لتسمُّم كحولي منذ عدة سنوات حيث كان يشرب الخمر بشراهة وتوقف حينها عن العمل عقدا من الزمن، وقال في هذه الفترة إن الكتابة المسرحية لا تمنحه أي متعة، ولكنه عاد بعدها بمسرحية جديدةSterkVind(ريح عاتية ولكنها لم تُترجم بعد إلى اللغة الإنجليزية، وبرغم أنه في بلد لا يحظى كُتَّابه بشهرةٍ كبيرةٍ في الخارج إلا إذا كانوا يكتبون روايات الجريمة، فإنه قُورن بالكاتب المسرحي النرويجي الشهير هنريك إبسن. وفي عام 2010 حصد جائزة إبسن الدولية، وهي واحدة من أرقى الجوائز في عالم المسرح.

وعلى صعيد آخر، أعلن فوسه إعجابه بالأيقونة الأيرلندية صامويل بيكيت (1906-1989) واصفًا إياه بأنه يشبهه في أنهرسَّام للمسرح أكثر من كونه فنانًا حقيقيًّا”، أي ينحت ويرسم شخصياته بريشة رسام حيث يجعل للحجر الأصم روحًا ويدب الروح في جسد الميت من جديد.

يون فوس

شاعرٌ في أرض الله

ألَّفت سيسلي سينيس، الكاتبة والصحفية الشهيرة في جريدة داج آند تيد” (Dag &Tid) الأسبوعية كتابًا عن يون فوسه بعنوانيون فوسه.. شاعرٌ في أرض الله” (Jon Fosse.A Poet on the Earth of God) عام 2009، تحدثت فيه عن بداياته ونجاحاته وأعماله الشهيرة وحياته الخاصه والصعوبات التي واجهها في حياته، وضمت سيسلي في كتابها حوارا كانت قد أجرته مع يون فوس؛ أوضح فيه بعض النقاط المحورية في حياته ككاتب مسرحي وروائي وشاعر، حيث اعترف فيه أنه قديمًا كان قلقًا وخائفًا بشأن الموت، وكان يفكر فيه كثيرا، لكنه بعد أن أصبح أباوهو في سن كبيرة، بدأ يغير رؤيته للحياة وقال إنه سيترك الحياة لتتحدث وسيترك العِنان لأطفاله بأن يولدوا ويعيشواومع ذلك لم يعد يخاف الموت، فالحياة مليئة بالوجع والألم،وقال إن داخله الكثير من الحزن؛ وذكر مُقتبسا عن الحزن لإبسن يقوللقد تلقيتُ منحة الحزن وأصبحت شاعرًا بعد ذلك“. وأكد فوس أن الحزن والألم والاكتئاب عطايا من الله أيضا ويمكننا أن نخرج منها بمنحٍ كثيرة.

في سياق آخر، قال فوسه إنه يُفضِّل الكتابة في الصباح الباكر وأن كتابته لروايته الشهيرةالسباعية” (Septology) كانت المحفِّز له للكتابة في ذلك الوقت حيث كتبها في مدينةٍ صغيرةٍ تقع بالقرب من ڤيينا، وقال إن إقامته في هذه البلدة الصغيرة منحته الحرية والمساحة الكافية التي كان لا يتمتع بهما أثناء إقامته في منزله بالنرويج.

بالإضافة إلى ذلك، أكد فوسه في لقائه هذا أنه يعتبر كل ما كتبه نوعًا من الواقعية الغامضة” (mystical realism) ليست سحريةً، لذا كان يتجنَّب الإشارات المباشرةوالإضافات المقالية في كتاباته بصفة عامة.

رواية «السباعية»

خمس قصائد مترجمة فقط

أما عن قصائد فوسه الشعرية، فأثناء بحثي وجدت أنه لا يوجد سوى خمس قصائد مُترجمة إلى اللغة الإنجليزية: (A Human Being is Here، Only Know، Something about the Actor، The Mountain Holds its Breath، و Like a Boat in the Fine Wind)، وقد ترجمت قصيدة هنا إنسان” (A Human Being is Here) إلى اللغة العربية واستمتعت كثيرا بترجمتها حيث وجدتها مختلفة في البناء والمعنى، وتعكس رؤية يون فوسه الفلسفية للحياةوالنفس البشرية المليئة بالتناقضات والغموض، قصيدة باذخة بغرابتها وغموضها ورسائلها المتوارية خلف كلمات فلسفية تغوض داخل النفس البشرية وتفاصيل الحياة الصغيرة، ثرية بالمعاني المخبوءة التي لا يكشفها إلا من يقرأها بتمعن وتركيز وذهن صافٍ.

من أغلفة أعمال فوسه المترجمة للعربية، إهداء من دار الكرمة

فإلى القصيدة:

A Human Being is Here

هنا إنسانٌ

 

هُنَا إنسَانٌ

يَخْتَفِي بَعد ذَلِك في مَهَبِّ رِيحٍ

 

يَتَلاشَى إلى الدَّاخِلِ

مُواجِهًا حَرَكَاتِ الصَّخرِ

يُصبِحُ لهُ مَعنًى

في شَكلٍ جَديِدٍ ودَائِمٍ

لما هو عليه

أو ليس كَمَا يَبدُو

في صَمتٍ

حيثُ الرِّيَاحُ تُصبِحُ رِيَاحًا

والمَعنَى يُصبِحُ مَعنًى

في حَرَكِةٍ مَفقُودَةٍ

لِكُلِّ ما كَان وفي الحَالِ

مِن أصلٍ

حَيثُ يَحمِلُ الصَّوتُ المَعنَى

قبل أنْ تَقسمَ الكَلِمةُ نَفسَهَا

ومُنذُ ذَلكَ الحِين لم يَترُكْنَا أبدًا.

 

لكِنّهُ حَاضِرٌ في كلِّ المَاضِي

و كلِّ المُستَقبَلِ

وفي شَيءٍ ما ليس له وُجُودٌ

في حُدُودِهِ المُتَوَارِيَةِ

بين ما كَانَ وما سَيَكُونُ

إنهُ لا نِهَائِيٌّ بِلاَ حُدُودٍ

في الحَرَكَةِ نفسها.

 

يَظهَرُ ويَخْتَفِي

يَبقَى حَيثُمَا يَخْتَفِي

يُنِيِرُ ظَلامَهُ

بَينَمَا يَتَحَدَّثُ عن صَمتِهِ

إنهُ في اللا مَكَانِ

إنهُ في كلِّ مَكَانٍ

إنهُ قَرِيبٌ

إنهُ بَعِيِدٌ

فيَلتَقِيان هُناكَ الجَسَدُ والرُّوحُ

ككيَانٍ وَاحِدٍ

صَغِيرٍ وأيضًا

كَبِيرٍ ككُل شَيءٍ

وصغِيِرٍ كَاللاَّ شَيءٍ.

 

حيثُ تُوجَدُ كُلُّ الحِكمَةِ

ولا شيءَ يَعرِفُ شيئًا عن أعمَاقِ ذَاتِه

فينقَسمُ اللا شيءُ

وكلُّ شَيءٍ معًا في آنٍ

وكل شَيءٍ في المُنقَسِمِ

الذي لا يَنقَسمُ

في حَدِّه اللا نِهَائيِّ

فالطَرِيقَةُ التي تَرَكتَهُ يَختَفِي بها

كانت في حُضُورٍ واضحٍ

في حَرَكَةٍ مُستَتِرةٍ

يَجُولُ طَوَال اليوم

حيثُ الشَجَرةُ هي الشَجَرَةُ

الصَّخرَةُ هي الصَّخرةُ

الرِّيحُ هي الرِّيحُ

والكَلِمَاتُ وحدَها مُبْهَمةٌ

في كُلِّ شيءٍ كان

في كلِّ شيءٍ يَختَفِي

وهكذا تَبقَى مثل كلامٍ يَترَجَّى.

عن د. سارة حامد حواس

مترجمة، مدرس اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة المنصورة، تخرجت في الكلية نفسها بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف، وحصلت منها على درجتي الماجستير والدكتوراه في اللغويات التطبيقية. حصلت على عديد من الدورات التدريبية، وشاركت في كثير من المؤتمرات العلمية الجامعية. ولها أبحاث في التخصص منشورة في عدد من المجلات المصرية والأجنبية. وهي منسقة البرنامج التخصصي للغة الإنجليزية والترجمة بكلية الآداب جامعة المنصورة، ومنسقة الكلية لدى نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة المنصورة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *