رأينا في المقال السابق مدى هيمنة المركزية الأوروبية في مسألة التحقيب التاريخي، وكيف كانت النهاية المقترحة للتاريخ القديم هي سقوط روما على يد القبائل الجرمانية، وبالتالي كان ذلك أيضًا بمثابة البداية لما أُطلِق عليه فترة العصور الوسطى.
نسبية التحقيب
بدايةً لا بُد من أن نؤكد على نسبية مسألة التحقيب التاريخي، ويشمل ذلك أيضًا مسألة البدايات والنهايات. وربما يتضح ذلك جليًا إذا ألقينا نظرة على المجال الأوروبي، فبدايات العصور الوسطى تم تحديدها من مقياس ضيق، وهو تاريخ وسط وغرب أوروبا، بينما لم يحظ الجانب الشرقي من أوروبا بالكثير من الاهتمام. وربما يتضح ذلك من رؤية بعض المؤرخين أن تاريخ العصور الوسطى للجناح الشرقي من أوروبا، لا سيما الإمبراطورية البيزنطية، ربما يبدأ مع اعتراف الإمبراطور قسطنطين بالمسيحية، وإصداره مرسوم ميلان في عام 313م، الذي عُرف بمرسوم التسامح مع المسيحية، والمتغيرات العميقة التي حدثت بعد ذلك، لا سيما مع انتشار المسيحية وتحولها إلى الديانة الرسمية للدولة.
هناك اتجاه غير تقليدي بين المؤرخين العرب يرى أننا إذا حاولنا اختيار بداية مناسبة لتاريخ العصور الوسطى للمشرق العربي، فمن الواجب علينا اختيار بداية واقعية ومناسبة لتاريخ المنطقة، وليست من خارجه
العصور الوسطى بالمشرق العربي
وإذا ابتعدنا قليلاً عن أوروبا- شرقها وغربها- وألقينا نظرة على حال ما نعرفه الآن باسم “المشرق العربي”، فإن بداية العصور الوسطى بالنسبة لهذه المنطقة محل خلافٍ حاد، حتى بين المؤرخين العرب أنفسهم؛ إذ يذهب الاتجاه التقليدي إلى أن الفترة البيزنطية في تاريخ المنطقة هي بداية ما يعرف بالعصور الوسطى، وبالقطع يحاول هذا الاتجاه ربط حركة التاريخ بالتاريخ الأوروبي، حتى لو كان تاريخ أوروبا الشرقية، ويؤكد على مدى تأثر منطقة المشرق العربي بالتاريخ البيزنطي، هذا التاريخ الذي تُطلِق عليه المصادر العربية مصطلح “تاريخ الروم”.
وهناك اتجاه غير تقليدي بين المؤرخين العرب يرى أننا إذا حاولنا اختيار بداية مناسبة لتاريخ العصور الوسطى للمشرق العربي، فمن الواجب علينا اختيار بداية واقعية ومناسبة لتاريخ المنطقة، وليست من خارجه، وبالتالي فالأوقع من وجهة نظرهم اختيار ظهور الإسلام، والفتوحات العربية لبلاد المنطقة نظرًا للمتغيرات الجوهرية التي غيرت من شكل وتوجهات المشرق العربي.
جدل قائم
والحق أن أقسام التاريخ في عالمنا العربي لم تحسم بشكلٍ جدِّي حتى الآن هذه المشكلة؛ إذ نجد في داخل القسم الواحد فرع مستقل لتاريخ العصور الوسطى، وفرع آخر للتاريخ الإسلامي، رغم التداخل الكبير زمنيًا وموضوعيًا بينهما. الأكثر من ذلك أننا نجد في بعض أقسام التاريخ يتوقف التاريخ الإسلامي زمنيًا عند سقوط بغداد على يد التتار في عام 1258م، بينما يتم إدخال فترة الحكم الأيوبي وسلطنة المماليك ضمن تخصص العصور الوسطى، بحجة معاصرتهما للحملات الصليبية، التي كانت من أهم معالم تاريخ العصور الوسطى. وهنا نعود إلى السؤال التقليدي وهل كان حكام الدولة الأيوبية، وسلاطين دولة المماليك غير مسلمين؟!
وحاولت بعض أقسام التاريخ في عالمنا العربي حل هذه المعضلة من خلال اعتبار التاريخ الإسلامي وحدة واحدة من ظهور الإسلام وحتى سقوط دولة سلاطين المماليك على يد العثمانيين في عامي 1516- 1517م، واقتصار فرع تاريخ العصور الوسطى على التاريخ الأوروبي منذ العصر البيزنطي حتى نهايات العصور الوسطى وبداية التاريخ الحديث مع عصر النهضة وحركة الكشوف الجغرافية. وبالقطع ظهر أمام هذا الاتجاه مشكلة من يدرُس فترة الحروب الصليبية؟ وهنا لجأ البعض إلى حلٍ توفيقي بأن يشترك في تدريس هذا المقرر أستاذان؛ أحدهما متخصص في التاريخ الإسلامي، يستعرض أحداث هذه الفترة من منظور التاريخ الإسلامي، والثاني من تخصص تاريخ العصور الوسطى، يقوم بالتدريس من المنظور الأوروبي. وهكذا نعود مرة أخرى إلى نظرية النسبية، وأن هذه المصطلحات، فضلاً عن التحقيب الزمني، ما هي إلا “اجتهادات” من المؤرخين لتسهيل دراسة التاريخ كلٍ وفق نظرته.
وهكذا، ومن جديد نرى نسبية المصطلحات التاريخية، وأن عملية التحقيب، وتقسيم التاريخ زمنيًا ما هي إلا اجتهادات من بعض المؤرخين.
عصور الظلام
أمر آخر يتصل بتاريخ العصور الوسطى، أنها كانت توصف بأبشع وصف “عصور الظلام” نظرًا لوقوعها بين الحضارة اليونانية والرومانية المتوهجة، وعصر النهضة الأوروبية الحديثة. كما وُصِفَت العصور الوسطى بأنها عصور الدين والحرب، نظرًا لسيطرة الكنيسة على الشأن العام، وكثرة الحروب ويأتي في مقدمتها بالطبع الحروب الصليبية.
لكن ترفض بعض الاتجاهات الحديثة كل هذه الأوصاف، وترى أنه من الصعب سحب هذه التوصيفات على فترة زمنية طويلة مثل العصور الوسطى، امتدت لعدة قرون، كما يؤكد هؤلاء على وجود مراكز تبادل حضاري مهمة في أوروبا، مثل الأندلس، وجنوب إيطاليا.
كما طرح بعض المؤرخين تصنيفًا آخر زمنيًا، يقوم على أساس الزمن، بالتفرقة بين العصور الوسطى الأولى، والعصور الوسطى المتأخرة -زمنيًا وليس حضاريًا-. ويرى هؤلاء أن بدايات النهضة الأوروبية الحديثة بدأت في أواخر العصور الوسطى مع انهيار نظام الإقطاع، والنهضة في إيطاليا.
وهكذا، ومن جديد نرى نسبية المصطلحات التاريخية، وأن عملية التحقيب، وتقسيم التاريخ زمنيًا ما هي إلا اجتهادات من بعض المؤرخين، وربما يتاح لنا مستقبلاً الحديث عن مبدأ الاستمرارية في التاريخ، لكن يُلاحظ دائمًا مدى هيمنة المركزية الأوروبية في عملية تحقيب التاريخ.