“رحل الرجل الكبير وتركني وراءه أتساءل عن معنى البطولة.. أخي أحمد “أبو صالح” لن تعلن خبر وفاته الصحف والإذاعات، ولن يتسابق الكتاب إلى استدعاء سيرته وذكر مآثره، وقريبا يموت آخر الشهود المجهولين، آخر الرواة المنسيين، أولئك الذين عرفوه أيام شبابه جوادا بريّا لم يسرج بغير الريح، فمن يحمل عبء الذاكرة ومن يكتب سيرة من لا سير لهم في بطون الكتب؛ أولئك الذين قسَّموا جسومهم في جسوم الناس وخلفوا آثارا عميقة تدل على غيرهم ولكنها لا تدل عليهم”.
اختطفتني تلك العبارة الافتتاحية لمسلسل “التغريبة الفلسطينية” عبر صوت الراوي الهادئ الرزين بعربيته الفصحى دون تكلف، ودلتني منذ سنوات بعيدة على العالم الدرامي للمخرج السوري الأكثر تميزًا حاتم علي (1962-2020).
كان مدهشًا أن أرى كيف يمكن للتاريخ المعاصر أن يقدم عبر معالجة درامية واعية متقنة فنيًا تنبض بالحياة وتقول دون مباشرة ما تعجز عن قوله مئات الخطب الحماسية وبيانات الشجب والإدانة، وتلخص ما ضمته عشرات الكتب التي روت تاريخ القضية الفلسطينية.
تابعت المسلسل للمرة الأولى بعد نحو عامين من تاريخ إنتاجه عام 2004 عبر إحدى الفضائيات العربية، ولم يصادفني من بعدها ولو لمرة واحدة عبر فضائية مصرية رغم تتوبجه عام 2005 بعدد من الجوائز الذهبية والفضية لمهرجان الإذاعة والتليفزيون بالقاهرة .
التخلص من عقدة المبالغة
حتى ذلك الوقت كان مسمى “الدراما التاريخية” يرتبط في ذهني بالمبالغة في كل شيء، المبالغة في اللغة والانفعال، في المكياج والملابس، وكأنه استدعاء للحظة تاريخية متكلسة منفصلة تمامًا عن اللحظة الراهنة، قضايا ومواقف فقدت حرارتها وأناس لا يجمعنا بهم أي تشابه.
غير أن دراما حاتم علي التاريخية استطاعت أن تغير كليا تلك الصورة في مخيلتي؛ وخلصتني من فوبيا الدراما التاريخية التي نفرت كثيرا من أبناء جيلي والأجيال التالية من هذا النوع الدرامي المهم. أتذكر أنني بمجرد أن تابعت المشاهد الأولى لمسلسل “التغريبة” أدركت أنني أمام رؤية مختلفة تمامًا، فهي دراما إنسانية قبل أن تكون رواية لتاريخ يخص العرب.
لا يجد المشاهد العربي نفسه منعزلا عن الواقع الذي يعيشه وهو يشاهد الأعمال التاريخية لحاتم علي رغم الفارق الزمني، فثمة أفكارًا إنسانية وقضايا ومواقف تتجدد وتعيد طرح تساؤلات آنية مستوحاة من لحظات فائتة. وقد عبر حاتم عن رؤيته تلك في مختلف لقاءاته التليفزيونية والصحفية، مؤكدًا أن دور الدراما التاريخية إلقاء الضوء على اللحظة الراهنة وأن ثمة تشابه وضرورة لتفهم دروس التاريخ:
“معاصرة العمل الفني لا ترتبط بزمن ما وإنما لها علاقة بالأفكار التي يقدمها ومعالجتها فنيًا”
ثنائي فكري وفني
وجد حاتم علي ضالته في النصوص الدرامية للدكتور وليد سيف، بحمولتها الفكرية والفلسفية، فضلا عن اتفاقهما في كثير من الظروف الشخصية، فالأول ابن الجولان الذي عاش قسطًا من حياته بعد النكسة في مخيم “اليرموك”، والثاني ولد بمدينة طولكرم قبل أشهر من النكبة وعاش فصولا مهمة من تاريخ القضية وكان شاهدًا عليها.
على الجانب الآخر فقد أعاد حاتم لرفيقه الأمل في إمكانية تقديم نصوصه برؤية مغايرة، فقد سبق تقديم نص التغربية عام 2000، في عمل أردني تحت عنوان “الدرب الطويل”، لكنه لم يحقق النجاح المرجو لاختلاف الرؤية الإخراجية ولضعف الإنتاج. وبخروج “التغريبة” إلى النور فتحت أفقا جديدًا لتلقي الدراما التي تغزل نسيجها المتين مستندة لحقائق تاريخية ومتكئة على سبر أغوار الإنسان وصراعاته في شتى مستوياتها.
امتاز التعامل بين هذا الثنائي الإبداعي في الأعمال التاريخية لاتفاقهما في الفكر والرؤية الفنية وقدرتهما معًا على ترجمة الفكرة والحوار إلى صور بصرية تكتسب مزيدًا من العمق والوضوح، ويتحقق لها الأثر المرجو باكتمال العناصر المساعدة للدراما من فواصل موسيقية أو غنائية ومن ملابس وديكور وغيرها.
كانت بداية تعاون الثنائي حاتم علي ووليد سيف عام 2001 عبر مسلسل “صلاح الدين” الذي نال شهرة واسعة؛ أعقبته ثلاثية الأندلس التي ضمت “صقر قريش” 2002، “ربيع قرطبة” 2003، ملوك الطوائف 2005، لتمثل نقلة نوعية في الرؤية الإخراجية للأعمال التاريخية عموما وفي رحلة حاتم على وجه الخصوص، ووفر الإنتاج الواعي لتلك الأعمال عبر شركة سورية الدولية للإنتاج الفني كل العوامل التي تضمن الدقة والإتقان.
أما السمة المميزة لتلك الأعمال معًا فكانت الانتصار للقيم الإنسانية وتقديم الشخصيات -سواء كانت تاريخية مشهورة أو من العامة- بمهارة عبر رصد كل التفاصيل والتناقضات الداخلية والدوافع التي تجعل لكل شخصية درامية ملامحها الخاصة وحضورها المؤثر في دفع الأحداث بسلاسة ودون أية مبالغة أو افتعال.
كما كشفت تلك الثلاثية كيف تتغير النفوس والآراء والقرارات بمجرد أن يصل الإنسان إلى سلطة ما؛ فيقر ما كان ينكر كما فعل عبد الرحمن بن معاوية “صقر فريش”، أو ينفصل تدريجيا عن العامة حتى لو كان واحدا منهم مثل “محمد بن أبي عامر” في “ربيع قرطبة”.
انتبه حاتم علي إلى أن واحدة من مشكلات التعاطي مع القضية الفلسطينية تجريدها من محتواها الإنساني؛ لذا حين أقدم على تقديم “التغريبة الفلسطينية” استطاع أن يجسد النص الفريد للدكتور وليد سيف ويضيف إليه الكثير من خلال تكامل عناصر الصورة والصوت والموسيقى ووصل من الاتقان حد القدرة على توظيف الصمت
ازدياد الشغف
ومع ندرة إذاعة تلك الأعمال الرائدة تليفزيونيًا أتيحت لي في السنوات الماضية فرصة أكبر لأتابعها عبر المنصات الإلكترونية المختلفة مثل مئات الآلاف ممن اجتذبهم عالم حاتم علي، خاصة بعد رحيله المفاجئ عام 2020 عن عمر يناهز الثامنة والخمسين.
الطريف أنه مع تكرار مرات المشاهدة يزداد الشغف بكل عمل درامي وتتكشف الكثير من دلالاته فهي جميعها أعمال خالدة بحق ليست من النوع الذي يشاهد مرة واحدة وكفى.
وبرغم جاذبية تلك الأعمال وجدارتها بالنقد والتحليل يظل لمسلسل “التغريبة الفلسطينية” مكانة خاصة في وجداني، ربما لأن القضية لا تزال جرحا مفتوحا وربما بسبب المخاوف التي تتزايد من تشويه الذاكرة والتشويش على الحقائق. لهذا ولكثير من الأسباب أظن أن مشاهدة بل تدارس هذا العمل الدرامي الإنساني الراقي واجب على كل من يؤمن بعدالة القضية العربية الفلسطينية.
من يحمل عبء الذاكرة؟
انتبه حاتم علي إلى أن واحدة من مشكلات التعاطي مع القضية الفلسطينية تجريدها من محتواها الإنساني؛ لذا حين أقدم على تقديم “التغريبة الفلسطينية” استطاع أن يجسد النص الفريد للدكتور وليد سيف ويضيف إليه الكثير من خلال تكامل عناصر الصورة والصوت والموسيقى، ووصل من الاتقان حد القدرة على توظيف الصمت أيضا ليبوح بما تعجز عنه الكلمات، حتى صار هذا العمل الدرامي أيقونة عربية قادرة على مخاطبة العالم بأسره وتقديم القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني متتبعا جذورها التاريخية منذ الاحتلال البريطاني وقبل قيام الكيان الصهيوني، راصدًا كفاح الشعب الفلسطيني قبيل الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 مرورا بالمعارك التي استبسل فيها قبيل النكبة وصولا إلى هزيمة 1967 ومن ثم اندلاع شرارة الكفاح المسلح لتحرير فلسطين بأيدي أبنائها.
نسج حاتم علي تلك العناصر معًا بعبقرية وقدمها في صياغة درامية راقية تقدم متعة فنية رائقة عبر إبراز الجمالي والإنساني رغم جدية الطرح وأهمية القضية الجوهرية فيه.
طرح المسلسل منذ البداية سؤالا مهما: من يحمل عبء الذاكرة؟ فالبطل “أبو صالح” الذي يودع الحياة بعد رحلة حافلة بالكفاح، كأحد قادة ثورة 1936، لن تذكره نشرات الأخبار ولن تسطر قصته كتب التاريخ التي اعتادت التحيز والترويج للنخبة وتجاهل وقود الثورات ومحركيها الحقيقيين.
نجح “حاتم” في توظيف طريقة السرد بالاسترجاع لإتاحة فرصة أكبر لتحليل الأحداث ووضعها في إطارها الاجتماعي لا رصدها فحسب مع الاحتفاظ بحيوية الطرح عبر تداعي الأحداث والتحام الخاص بالعام.
مستويات الصراع الدرامي
تتعدد مستويات الصراع في “التغريبة الفلسطينية” ما بين الطبقي متمثلا في أبو عايد (حسن عويتي)، الإقطاعي الصغير الذي يسعى لابتلاع حقوق صغار الفلاحين، والصراع الاجتماعي الذي تجلى في أكثر من موضع مبينًا كيف تمارس الجماعات الصغيرة ديكتاتوريتها ضد بعضها ولا تتوانى رغم شراكتها في الفقر والهموم عن التفاخر بالنسب والعائلة وتحط من قدر من لا سند له، إضافة للانقياد وراء الأعراف المستقرة حتى وإن كانت مجحفة إرضاء للجماعة. المستوى الثالث من الصراع هو الصراع الوطني الحاضر منذ بداية الأحداث وحتى نهايتها متمسكًا بعدالة القضية وباعثًا فيها الأمل.
نسج حاتم علي تلك العناصر معًا بعبقرية وقدمها في صياغة درامية راقية تقدم متعة فنية رائقة عبر إبراز الجمالي والإنساني رغم جدية الطرح وأهمية القضية الجوهرية فيه.
يرد المسلسل على كل الادعاءات التي روجها الصهاينة، ورددها بعض العرب حول تفريط الفلسطينيين في أرضهم. ويتتبع بشكل غير مباشر كيف كان الاحتلال البريطاني ينتزع الأراضي من الفلسطينيين ويمنحها لليهود المهاجرين قبل النكبة، وكيف استبسل الشعب الفلسطيني في الدفاع عن أرضه لولا اختلال التوازن العسكري والمؤامرات الدولية والصمت على المذابح والمجازر الوحشية التي شنتها عصابات الصهاينة.
وتبرز خلال هذا العمل مهارة رسم الشخصيات وتمايزها ففي أسرة واحدة يجتمع أربعة أخوة وأخت وحيدة يمثل كل منهم تجاهًا رغم اتفاقهم على ضرورة التحرر من سطوة التمايز الطبقي الإقطاعي والاحتلال الإنجليزي ومن بعده الصهيوني: أبو صالح “جمال سليمان) الابن الأكبر الذي اجتمعت فيه كل سمات البطولة والقيادة رغم رقة الحال وحرمانه من مواصلة التعليم، و مسعود (رامي حنا) الذي يحسب كل خطواته بعقلانية، وينتهج البرجماتية للوصول إلى الأهداف التي يراها في صالحه وفي صالح الأسرة.
“علي وحسن” الطفلان اللذان فرقتهما ضرورة اختيار أحدهما ليستكمل تعليمه في المدينة، فاختلفت مصائرهما منذ تلك اللحظة.
تحمل حسن (باسل خياط) عبء التضحية واحتفظ بشجاعة نادرة تبدت منذ الطفولة في دفاعه عن الحق دون خوف من عقاب ثم في مواجهة التقاليد والأعراف البالية دفاعًا عن حبيبته جميلة (نسرين طافش) التي ظل مخلصا لها بعدما اغتالتها الأيدي الآثمة التي نالت من سمعتها ظلمًا، إلى أن يلحق بها شهيدًا في مواجهات حرب 1948.
أما علي (تيم حسن)، الذي كان يعتبر حسن توأم روحه فتمثل حياته منذ الصغر رحلة كفاح حقيقية كنموذج للمثقف العصامي الذي وإن كان لا يمتلك شجاعة المواجهة فقد ظل حريصًا على ألا تنقطع علاقته بأرضه وأهله بعد أن نال أرفع الدرجات العلمية ولم يتخل عن مبادئه، و ظل غياب حسن جرحًا غائرا في روحه.
فيما مثلت خضرة (نادين سلامة) صورة مصغرة من الأم بحنانها ومسئوليتها تجاه أخوتها واستمرت قصة حبها لزوجها البطل الشهيد أبي العبد (خالد القيش) حاضرة طوال العمل حتى بعدما أجبرت على الزواج من آخر على النقيض تماما من زوجها الراحل.
وبينما تفرقها النكبة عن ابنها “رشدي” يصبح هو نفسه أيقونة للنضال ممثلا كل فلسطيني لم يرض بلقب “لاجئ” بل ظل شاهدًا على استمرارية الكفاح رغم تتابع الأجيال وما استتبعه من تطور القضية وصولا إلى مرحلة الكفاح المسلح في أعقاب نكسة 1967.
كذلك كان حضور الأب (خالد تاجا) لافتا في هذا العمل برغم ما يبدو أحيانًا من جنوح للمسالمة خوفًا على أبنائه، لكنه ظل الشاهد الصامت على كل فصول القضية فيما بدت شخصية الأم (جولييت عواد) بقوتها وصلابتها في مواجهة الظلم بشتى صوره نموذجًا حقيقيًا للمرأة الفلسطينية التي هي بالفعل عمود الخيمة وحافظة الهوية وصانعة الأبطال والشهداء.
وبعد، فمن الصعب الإلمام بكل جوانب هذا العمل الدرامي المبدع إخراجا وتأليفا وتصويرا وتمثيلا لكني أتمنى أن يتابعه كل من يرغب في مشاهدة عمل درامي إنساني عالي الجودة وكل من يريد أن يلم بتفاصيل قضية العرب العادلة، وأحلم أن يراه الطلاب في مدارسنا العربية ربما نجد من يحمل عبء الذاكرة.