أحدث الحكايا
ما بعد الحداثة

د. زين عبد الهادي يحكي: أفكار أولية حول إيهاب حسن والحداثة وما بعد الحداثة

لو قلت إن عصر المعرفة والمعلومات يعد عصرا مفاجئا في التاريخ الإنساني، والمفاجأة تتعلق بتحقيق الحرية الإنسانية المطلقة في الكتابة والتعبير، فإن ذلك لم يكون بالأمر الجديد، لأن الأمر في رأيي يتعلق بالشخصية الإنسانية، ولتوضيح ذلك سنفترض مجموعة من الافتراضات تتعلق بعصر المعلومات وعلاقته بالحداثة وما بعد الحداثة.

الذات المتعددة

إذا نظرنا للأدب والفن، فقد كان الأديب والفنان الشاعر والرسام والنثري هم الأشخاص الوحيدين الذين يمتلكون حق ممارسة الذات المتعددة، من خلال أعمالهم الفنية والإبداعية التي تنطق على ألسنة أناس من اختراعهم، ومن ثم كان ذلك دائما يمنحهم الوسيلة للتعبير دون الوقوع تحت طائل القانون الذي اخترعه إنسان آخر –يا للسخرية-. من هنا سمح عالم المعلومات بتغيير كثير من القوانين التي كانت تحكم العالم.

كان أول هذه القوانين هو أنه أصبح هناك عالم مواز بالفعل للعالم الذي نعيش فيه ونأكل ونشرب ونتخيل، وهنا لا يمكن أن نخوض في ذلك دون أن نشير لمجموعة من العناصر التي لابد من البناء عليها عند الحديث عن الحداثة وما بعد الحداثة وعلاقتهما بعالم المعلومات، وبمفهومهما لدى إيهاب حسن، (رائد ما بعد الحداثة وصاحب الكتاب الأشهر في عالم ما بعد الحداثة: تقطيع أوصال أورفيوس)؛ فما بعد الحداثة لم تأت من الحداثة فإن كان هناك تشابه في الاسم فإن هناك تضادا في المضمون وتناقضا تاما.

أصنام فكرية

وعلى سبيل المثال فإن فيدلر يشير إلى أن ما بعد الحداثة تعبر الفجوة بين العامية والفصحى، أو بين الثقافة الراقية وبين الثقافة الشعبية أو ثقافة البوب، وأن ما بعد الحداثة تتحدى مفهوم الحداثة، فالحداثة وُلدت مع الصفوة بينما ما بعد الحداثة وُلدت مع المثقفين الذين يعيشون بين الناس، الذين يحاولون دوما تحدي أصنام فكرية خلقتها الحداثة، وهي تضع الثقافات بجوار بعضها البعض فلا فضل لثقافة على أخرى.

 

كان الأديب والفنان الشاعر والرسام والنثري هم الأشخاص الوحيدين الذين يمتلكون حق ممارسة الذات المتعددة.

 

إيهاب حسن
إيهاب حسن

 

كما أن ما بعد الحداثة في مضمونها تعني عدم التحديد أو ميلاد عصر عدم التحديد، فرمادية العالم والعلاقات بين عناصر هذا العالم مناطق ضبابية تتداخل فيها المعوقات والدوافع جنبا إلى جنب. ومن هنا يصبح للمستقبل منظور جديد، ولن يعود أبدا كما كان في الماضي، فبعد الحداثة تقفز فوق كل تيارات ومدارس وحدود الماضي بما فيها حتى نفسها. وهو ما يعني أن ما بعد الحداثة تيار وجودي يستمر إلى مالانهاية لأنه حصيلة كل الماضي والمستقبل والحاضر وما يتم إنجازه. تعني أيضا قبول كل أشكال الإبداع، وكل أشكال التداخل بين الإبداعات، وقبول كل أشكال عدم اليقين، وهى السمات الأكيدة الآن.

ما لا يمكن تصنيفه

بل إن الأمر يتعدى ذلك بكثير، فإذا كان العلم في أحد تعريفاته هو إمكانية التصنيف، فإن ما بعد الحداثة تيار ما لا يمكن تصنيفه وتأطيره، إنه أشبه بالتلفيق بين كل ما قدمته الإنسانية عبر تاريخها، وبين ما يمكنها تقديمه والقادم من الذات الإنسانية بكل ما فيها، والقبول بغموض العالم الذي نعيشه.

 

ما بعد الحداثة تيار وجودي يستمر إلى مالانهاية لأنه حصيلة كل الماضي والمستقبل والحاضر وما يتم إنجازه. تعني أيضا قبول كل أشكال الإبداع، وكل أشكال التداخل بين الإبداعات

 

الفروقات

وهنا يجب أن نعود للفروقات التي حاول إيهاب حسن وضعها بين الحداثة وبين ما بعد الحداثة، حيث وضع قائمة تفرق بين التيارين، وإذا نظرنا للقائمة جيدا، محاولين استنطاقها علميا سنجد أن إيهاب لم يستثن أي جديد قام به العلم في الخمسين سنة الأخيرة من حياة الإنسانية في سبيل إلصاق صفات متباينة بين التيارين، يمكننا ملاحظتها في الفقرتين التاليتين [1]:

1-     فالحداثة ذات طبيعة رومانسية وذات شكل محدد، وهناك غرض ما منها، ولها بناء هرمي وهي تقدم عملا فنيا مكتملا، وتسعى للخلق والبناء، وهناك حضور للعالم، كما تتسم بالمركزية، ولها جنس أدبي وفني محدد، وتعني بالاستعارة، وتنتقي، وذات جذر وعمق، وقابلة للتأويل والقراءة ولها مدلول وموجهة للقارئ، وتسعى نحو القص، وهي واضحة التوجه الجنسي، وتعاني من هوس الاضطهاد، ولها أصل وعلة، وتقدم الميتافيزيقا، ومحددة وتسعى وتقدم المفارقة

 

غلاف كتاب تقطيع أوصال أورفيوس

 

2-     ما بعد الحداثة ذات طبيعة باتافيزيقا، ولها شكل ضد، منفصل ومفتوح، وتعني بالتلاعب، وتسعى نحو الصدفة، وتعاني من الفوضى، وهي عمل فني ولا فني في ذات الوقت وتسعى نحو التفكيك إن لم تكن الإبادة، وتلعب على النقيض، وهناك غياب للعالم، ولا مركزية أو مشتتة، وهناك تناص أو ما وراء القص بها، وتلعب على الكناية، وتسعى نحو المزج، ولها سطح أي غير ذات جذر، وضد التأويل وهي دالة، وموجهة للكاتب، وتعبر عن رغبة ما، ومتعددة الأشكال الجنسية، ومبنية على الرغبة، وتعاني الشخصيات فيها من الفصام، وتعبر عن الاختلاف والخلاف وتعتمد  المفارقة الساخرة، وهناك استحالة في تحديد جنسها، وتعتمد اللامفارقة.

عدوان سافر

هذه هي الفروقات بين التيارين، أحدهما انتهى مع الستينات، والثاني مازال يعمل ويرتوي من كل أرض قديمة أو جديدة أو من الفواصل بين الأراضين، وهو ما يؤكده إيهاب حسن بأنه استدعى كل ذلك من مجالات مختلفة ليس الأدب والفن فقط، فهناك نماذج من علم الإدارة والاقتصاد والتسويق والهندسة، والتاريخ والفلسفة، ومع ذلك يشير إيهاب حسن نفسه، ومجايلوه، إلى أن هذا التقسيم يعد عدوانا سافرا على المفهومين، بل هناك استحالة في التحديد.

بينما إذا ألقينا نظرة سريعة على عالم المعلومات والاكتشافات الفلكية أو جغرافيا ما خارج الكرة الأرضية سنجد أن  هناك الكثير مما يمكن قوله إضافة إلى ما ذكر، فالشخصية الانسانية مبعثرة وليست ممزقة فقط، ويكفي أن تعرف أن لأكثر من نصف الكرة الأرضية عدة حسابات بريد إلكتروني كل منها لا يشير لنفس الشخصية، ويكفي أن تعرف أن كل شخص يمكنه أن يكون أكثر من شخصية في ذات الوقت، وهو لا يعرف ماذا يريد تحديدا، وهناك انهماك في البحث عن أغراض غريبة، والعالم لا يمكن فهم سياساته الآن لغياب الشفافية والعدالة فيه.

 

 

إيهاب حسن في سيمنار 2012

 

وقد أدرك إيهاب حسن في ختام مقاله عام 1980 -كما تشير روز-، إلى أن تيار ما بعد الحداثة ينبع من الاتساع الهائل للوعي من خلال منجزات التكنولوجيا التي أصبحت بمثابة حجر الأساس في المعرفة الروحية في القرن العشرين. ونتيجة لذلك أصبح الوعي ينظر إليه على أنه معلومات، والتاريخ على أنه حدوث، وتلك رؤيا متناقضة ظاهريا، وذلك ضمن مراجعاته لكل ما كتبه عن تيار ما بعد الحداثة.

الجديد لم يأت بعد أبدا

من هنا وبهدوء يمكن القول بأننا علينا أن نقبل العالم كما هو بكل ما فيه، لأن الجديد لم يأت بعد أبدا، وأن تاريخنا الإنساني كله هو محاولة صرصار لمعرفة هل هو إنسان أم صرصار، وفي النهاية سيلقى به في سلة المهملات كحشرة كافكا العملاقة.


[1] روز، مارجريت. مابعد الحداثة (1994). ترجمة أحمد الشامي. القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب. (سلسلة الألف كتاب، 153) . ص63

عن د. زين عبد الهادي

باحث وروائي مصري، نشر له العديد من الأعمال العلمية والإبداعية، أستاذ علم المكتبات والمعلومات جامعة حلوان، المشرف العام على مكتبة الفنون والثقافة بالعاصمة الإدارية الجديدة، رئيس تحرير مجلة عالم الكتاب التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وزارة الثقافة (سابقا).

2 تعليقات

  1. مقال رائع دكتور زين
    للاسف السعه المعلوماتية حاليا أصبحت حمل لا يمكن السيطرة عليه
    وكل ياتى ليس فقط بأفكاره ومبادئه ولكن أيضا بشخصياته وتخيلاته التى يتمنى أن يصبحها يوما ما

    • شكرا ياسارة هذا حقيقي تماما.مايحدث اكثر من ان يستوعبه عقل انساني مفرد محدود القدرة.. لكن الانسان له القدرة هلى الخيال وتقديم الرؤية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *