أحدث الحكايا

محمد طارق يحكي: المدينة كما يصورها يسري نصرالله.. بين روض الفرج وباريس

“لن تجد بلدانا ولا بحورًا أخرى

ستلاحقك المدينة وستهيم في هذه الأحياء بعينها

وفي البيوت ذاتها سيدب الشيب إلى رأسك

ستصل على الدوام إلى هذه المدينة

لا تأمل في بقاع أخرى

ما من سفين من أجلك

وما من سبيل

وما دمت قد خربت حياتك هنا

في هذا الركن الصغير

فهي خراب أينما كنت

هكذا يفتتح يسري نصرالله ثالث أفلامه الروائية الطويلة، بشاشة سوداء كُتب عليها قصيدة “المدينة” للشاعر اليوناني السكندري قسطنطين كافافيس. كلما قرأت تلك القصيدة أحسست شعورًا مشابهًا لها، إذ انتقلت في بداية عشرينياتي من مدينتي الصغيرة إلى القاهرة، بحثًا عن عمل وحياة جديدة، وعلى مدار 8 أو 9 سنوات، واجهت تحديات ترك المدينة التي تسكن بها عائلتي، وعشت لحظات مليئة بالألم والفرح على حد سواء، الألم من تغيير الواقع والفرح بتكوين حياتي من جديد بشكل حر ومستقل.

“كان الانتقال الثاني أكثر ألمًا، فدبلن مدينة متضادة مع القاهرة بشكل كبير، تفتقد المدينية، ويميل فيها المجتمع الأيرلندي للانغلاق”

في نهاية تلك السنوات بدأت بالشعور بالاستقرار في القاهرة، لكن الرياح جاءت بما لم تشته السفن، وانتقلت مُجددًا لتصبح حياتي بين القاهرة ودبلن.

كان الانتقال الثاني أكثر ألمًا، فدبلن مدينة متضادة مع القاهرة بشكل كبير، تفتقد المدينية، ويميل فيها المجتمع الأيرلندي للانغلاق على معرفة العائلة والأصدقاء القدامى مقابل القاهرة المنفتحة على الجميع. وفي مقابل ضوضاء القاهرة جاءت دبلن هادئة للغاية، لتذكرني نوعًا ما بمدينتي الأم بني سويف وعن توقي لهجرها لذات السبب.

مدينة نصر الله

هكذا علاقة المدن بالأشخاص، تؤثر فيهم بشدة وتغير من إحساسنا الداخلي، وتضع لنا النظم التي نعيش بها. وكما تفعل تلك القصيدة البديعة المعبرة عن حالة الاغتراب، يأتي فيلم يسري نصرالله الروائي الطويل الثالث “المدينة” ليحكي لنا عن بطل ممزق بين مدينتين مختلفتين، القاهرة وباريس. في القاهرة يعيش علي (باسم سمرة) وسط أهله وأصدقائه لكنه يمل من شدة تماسك المجتمع وذوبان الفرد به، وفي باريس يعاني من الفردانية الشديدة ودفعها للأفراد للتخلي عن تعاطفهم وتضامنهم مع الآخرين في الأوقات الصعاب.

بوستر فيلم المدينة
بوستر فيلم المدينة

 

يعمل علي موظفًا في الجمعية الاستهلاكية، يحاول أن يحقق حلمه بالتمثيل في مصر، لكن ذلك الحلم يتبدد أمام طلبات العاملين في المسرح التجاري بأن يلتزم بدوره ككومبارس دون أي إضافة من ناحيته، وطلب أبوه أن يسافر إلى الخليج ليعمل محاسبًا ويجلب لهم أموالًا تريح “عيشتهم”، أو أصدقاؤه الذين يحاولون إقناعه بالانضمام إليهم في إحياء بعض حفلات الشارع المتعلقة بحفل زفاف أو ما شابه، وحتى المخرج المستقل الذي يذهب إليه لعمل تجربة أداء، يقسو ويتهكم عليه، حتى يخبره في النهاية أنه يصوره كـ”موضوع” لفيلمه التسجيلي القادم!

“فيلم نصرالله ليس مجرد حكاية فلسفية، بل هو فيلم ذو أسلوب سينمائي مميز يصور تلك الحالات وينقلها إلينا”.

هكذا إذن، يواجه علي مشكلة أساسية متعلقة برؤيته لذاته ورؤية الآخرين له، يرفض الجميع أن يستمعوا حقًا إليه، أو ربما يفشل هو في التواصل معهم، وبين كل تلك الأصوات والسلطات الرسمية وغير الرسمية المفروضة عليه يتعزز شعوره بالاغتراب في وسط محيطه.

باسم سمرة (علي) في فيلم المدينة

إثر ذلك، يقرر علي أن يتوجه إلى باريس، عاصمة النور الفرنسية، فيسافر مع فرقته المسرحية، لكنه لا يجد العشب أكثر اخضرارًا هناك، إذ يواجه سلطة رئيسه هناك رشدي، الذي يدفع به إلى عالم الملاكمة المزيفة، مستغلًا قدراته التمثيلية لكن لخداع مجموعات من البشر تشاهد مباريات ملاكمة غير رسمية، وبالطبع في مقابل ذلك يمنحه المال، وأوراق إقامة مزيفة. سرعان ما يبدأ علي في إدراك أنه لم يخرج من المتاهة، بل إنه ورغم كل هذا التغير الظاهري الكبير، فربما لم يتحرك أصلًا مقدار خطوة حقيقية.

ليس مجرد حكاية فلسفية

لكن فيلم نصرالله ليس مجرد حكاية فلسفية، بل هو فيلم ذو أسلوب سينمائي مميز يصور تلك الحالات وينقلها إلينا. أولًا تأتي طليعية الفيلم من استخدامه لكاميرا ديجيتال في وقت مبكر عام 1999، حيث كان العالم في بدايات اكتشاف التقنية الناشئة آنذاك، وكان هو الأول في مصر ليصور بالديجيتال، وهي التقنية التي ستفتح بعد ذلك الأبواب لأجيال من السينمائيين المصريين المستقلين.

أضف إلى ذلك، فإن حركة الكاميرا المحمولة باليد والقطع السريع يساعد في خلق إحساس الشخصية، تلك الشخصية العادية والاستثنائية في آن، تشعر أحيانًا وأنت تشاهد الفيلم أن هذه ملحمة إنسان عادي فشل في التواصل مع من حوله!

المخرج يسري نصرالله
المخرج يسري نصرالله

إلى جانب ذلك، يستغل نصرالله التقنية ويطوعها لتصوير أحداث حقيقية في فيلمه، ما يمنح بعض الأحيان حسًا تسجيليًا للفيلم. فعلى سبيل المثال، يصور نصرالله هدم سوق روض الفرج الحقيقي، ويستخدمه في الفيلم كحدث في حياة الأبطال، ناهيك عن تصوير السوق قبل هدمه بالطبع وتصوير مشاهد كثيرة لعلي وسط المدينة سواء في القاهرة على الكباري أو في النيل بينما يسبح هو وأصدقاؤه بعوامات كاوتشوك أو في باريس حيث يحضر مظاهرة تندد بدعوات طرد المهاجرين (ما أشبه اليوم بالبارحة!).

“يلمس “المدينة” بصورته الخالية من التفخيم، قلوب كل الحالمين والمختلفين مع مجتمعاتهم، وهؤلاء الذين يعانون من صعوبة تعريف علاقتهم كأفراد وسط جماعاتهم.”

حالة الاغتراب

مثال آخر مميز على تصوير حالة الاغتراب بصريًا تأتي بعد خروج علي من تجربة الأداء مٌحبطًا، إذ يقف وصديقه أسامة (عمرو سعد) في وسط القاهرة أمام واجهة محل تحتوي عددًا هائلًا من التلفزيونات، تعرض كلها مشهد من “باب الحديد” ليوسف شاهين، حيث قناوي يحاول إقناع هنومة بأحلامه وتسخر الأخيرة منه. في ذلك المشهد يصور نصرالله وجهي علي وأسامة وهما منعكسين على واجهة المحل، يعيدان تمثيل مشهد باب الحديد، ما يجعل المشهد الأصلي والجديد يظهران في نفس اللقطة وكأنهما قد دُمجا سويًا. وبرغم الفارق ما بين علي وقناوي واختلاف موطنهما ووضعهما الاجتماعي ومستواهما التعليمي، نشعر بذلك الشبه بين الشخصيتين الحالمتين اللتين تقهرهما المدينة الصاخبة الكبيرة، وينظر إليهما مجتمعهما نظرة إشفاق أو حتى سخرية.

باسم سمرة من فيلم المدينة وفي خلفيته مشهد من فيلم باب الحديد
بوستر فيلم باب الحديد

يلمس “المدينة” بصورته الخالية من التفخيم، قلوب كل الحالمين والمختلفين مع مجتمعاتهم، وهؤلاء الذين يعانون من صعوبة تعريف علاقتهم كأفراد وسط جماعاتهم. يتنقل بين مجتمعين مختلفين، الأول ترى الجماعة فيه أنه لا وجود للفرد ورغباته أمام احتياجات الجماعة، والثاني تسحق فيه الفردانية  الشديدة كل معنى إنساني للتضامن والمحبة بين أفراد المجتمع، لكن علي بعد رحلته الطويلة، يستطيع في النهاية ضبط تلك الحدود بين كلا التصورين، حتى ببعض الخسائر الفادحة، ليصبح كما في التمثيل، وعلى حسب قوله في الفيلم، متُحكما في كل التفاصيل.

عن محمد طارق

ناقد سينمائي مصري ومبرمج مهرجانات سينمائية ومدير ثقافي يقيم بين دبلن والقاهرة. نائب المدير الفني لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي ومبرمج الأفلام القصيرة بمهرجان دبلن السينمائي الدولي، ومدير مشروع السينما من أجل التنمية بجمعية النهضة العلمية والثقافية (جيزويت القاهرة)، مبرمج أفلام سابق في مهرجان الجونة السينمائي، وعضو لجنة الاختيار في سوق ديربان لمحتوى الأفلام، ومستشار في ميدفيست مصر ومعهد جوته، وخريج أكاديمية لوكارنو للصناعة في بيروت، ومواهب ديربان. عضو جمعية نقاد السينما المصريين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *