للمرة الأولى في تاريخ كرة القدم المصرية توحّدت طريقة احتفال اللاعبين بأهدافهم في مرمى المنافسين، أما طريقة الاحتفال فهي رفع علامة النصر بيد مع وضع اليد الأخرى خلف الظهر وإغماض العينين، في تقليد لرسم شخصية الطفل «حنظلة» للفنان الفلسطيني الشهيد ناجي العلي الذي صار رمزا للمقاومة الفلسطينية. فما هي حكاية «حنظلة» الذي وحّد بين لاعبي الزمالك والأهلي؟
منذ بدأ الكيان الصهيوني حرب الإبادة الجماعية الشعواء على قطاع غزة، أظهرت الفرق المصرية بجماهيرها ونجومها على حد سواء دعما كبيرا للمقاومة الفلسطينية باستخدام العديد من الطرق، فبخلاف ارتداء اللاعبين للقميص الرسمي للمنتخب الفلسطيني في عمليات الإحماء، والوقوف دقيقة حدادًا على أرواح شهداء غزة قبل بداية المباريات، وانتشرت الأعلام الفلسطينية في كل المدرجات، وتوحدت هتافات الجماهير ترج الملاعب “بالروح بالدم نفديك يا فلسطين”، بل ارتدى لاعبو الأهلي طاقما أسود بالكامل في إحدى مبارياتهم الإفريقية خارج مصر، وارتدت جماهير الزمالك الملابس السوداء بدلا من البيضاء دعما لفلسطين في إحدى مباريات فريقها المحلية.
الصبي الذي أصبح رمزًا
«عزيزي القارئ اسمح لي أن أقدم لك نفسي. أنا وأعوذ بالله من كلمة أنا، اسمي: حنظلة.. اسم أبي مش ضروري.. أمي اسمها نكبة.. وأختي الصغيرة فاطمة.. نمرة رجلي ما بعرف لأني دايما حافي، تاريخ الولادة: ولدت في 5 حزيران 1967 جنسيتي: أنا مش فلسطيني، مش أردني، مش كويتي، مش لبناني، مش مصري، مش حدا.. باختصار معيش هوية ولا ناوى أتجنس، محسوبك إنسان عربي وبس»..
هكذا عرّف الفنان الفلسطيني الراحل ناجي العلي شخصيته المبتكرة «حنظلة»، على لسان نجله خالد في مقدمة كتاب «حنظلة.. رسومُ ناجي العلي المقاومة» الذي جمع فيه ابنه وأصدقاؤه مجموعة من رسوماته، واصفًا فيه أيقونته الكاريكاتورية الشهيرة، التي تحولت فيما بعد إلى رمز للهوية الفلسطينية، وصارت مع الوقت بمثابة توقيع لناجي العلي.
«حنظلة» هو صبي صغير لا يتعدى عمره عشر سنوات، يظهر ببنطاله المرتّق، لم نر وجهه منذ ولادته، حيث يقف مديرًا لنا ظهره، عاقدًا ذراعيه من خلفه، وقدماه حافيتان، ولا نعلم إن كان يعطينا ظهره استغراقًا في مأساته أم غضبًا من خذلاننا له، في تعبير هو الأدق والأصدق لوصف حال الشعب الفلسطينية بأكملها، هذا الشعب الممزق، الواقف وحيدًا أمام مجتمع دولي قاس. الجميع يحاول ترقيع قضيته دون حل نهائي. وربما يدير الطفل لنا ظهره شابكًا ذراعيه خلفه، رافضًا الالتفات إلى الوراء أو أن يَكبُر، قبل أن يتحرر شعبه المعزول والمحاصر عربيًّا ودوليًا، واحتجاجًا ورفضًا للموقف الدولي، وحزنًا من الموقف العربي.
ميلاد على حافة النكسة
ظهرت شخصية «حنظلة» لأول مرة عبر جريدة «السياسة» الكويتية عام 1969، بعد عامين فقط من نكسة الخامس من يونيه عام 1967، تنقّل بعدها ناجي العلي بين العديد من الصحف والمجلات العربية حاملا معه «حنظلة» كصغير لا يقوى على مفارقة أبيه.
ومع انطلاق جريدة «السفير» اللبنانية في أوائل سبعينيات القرن الماضي، ذاعت شهرة الصبي الصغير على النطاق العربي، ومنذ ذلك التاريخ أصبح علامة ثابتة في رسومات الفنان المغدور.
في البداية لم يكن الصبي عاقدا ذراعيه خلف ظهره، لكن مع استمرار المأساة وتعقد قضية الوطن «فلسطين» أكثر، في سنوات ما بعد 1973، ظهر «حنظلة» أكثر صلابة ورفضًا، فأدار لنا ظهره وعقد يديه خلفه واستمر من حينها على هذا الوضع. ربما جاء ذلك احتجاجًا ورفضًا للمجازر البشرية في صيدا ومخيم عين الحلوة ومن قبلهما في صبرا وشاتيلا، التي وقعت على مرأى ومسمَع من العرب المنقسمين على أنفسهم إثر اتفاقية كامب ديفيد، وكأنه يحتقر صمتهم، رافضًا للتطبيع والحلول التي فرضها الاحتلال ورضي بها العرب، -حسبما يرى إلياس سلموني في شهادته التي ذكرها في كتاب «ناجي العلي.. شاهد خالد على تاريخ صراع دون نهاية».
ناجي العلي يرسم توأمه
أرّخ ناجي العلي من خلال شخصية «حنظلة» للنكبة، وطفولته وشبابه وكل حياته، مختصرًا فيه تاريخ نضال الشعب الفلسطيني المستمر.. يقول ناجي العلي (1937 – 1987): “إن «الصبي حنظلة هو نفسه الصبي ناجي، الذي أُجبر على مغادرة قريته، حينما كان في نفس عمره، بعد احتلال إسرائيل لفلسطين عام 1948»”..
فـ«ناجي» نفسه كان من بين الفلسطينيين الذين وجدوا أنفسهم في جنوب لبنان بعد تهجيره من قريته الشجرة الواقعة في الناصرة، فهاجر مع أهله إلى مخيم عين الحلوة وعاش في المخيم وهو في العاشرة، ومن ذلك الحين لم يعرف الاستقرار أبدا، ومن هنا توقف سن الصبي «حنظلة» في رسومات «العلي» عند العاشرة، وكأنه يرفض أن تسري عليه قوانين الطبيعة في زيادة العمر وهو بعيد عن أرضه، لكن ربما حين يعود إلى الوطن ويعود الأصل إلى طبيعته يبدأ هو الآخر في الكِبر.
اختار «العلي» اسمًا للصبي معبرًا عن مرارة الشعب الفلسطيني «حنظلة»، مستلهمًا إياه من نبات «الحنظل» وهو عشب مُر المذاق، أوراقه خشنة، عالي السُّمية، تعبيرًا عن حالة الضعف والهزل والهوان ومرارة العيش التي عاشها الفلسطينيون، وربما استلهمه أيضًا من حكاية النبي المغدور «حنظلة بن صفوان»، الذي بعثه الله إلى أصحاب الرس في اليمن، فكذبوه، وقتلوه، فأهلكهم الله، وفقا لرواية ابن عساكر في أول تاريخه عند ذكر بناء دمشق عن تاريخ أبي القاسم عبد الله بن عبد الله بن جرداد.
وجعل ناجي العلي لـ«حنظلة» أختًا سمّاها «فاطمة» وهي شخصية لا تهادن، رؤيتها شديدة الوضوح فيما يتعلق بالقضية وبطريقة حلها، وهي رمز للانتفاضة الفلسطينية المستمرة، وهي أيضًا رمز لفلسطين والدالة على العطاء والخصب والحب والتضحية، أما أمه فهي «نكبة»، أي أنه ابن لكامل الوطن العربي الذي عاش نكبة لم يخرج منها منذ عام 1948، وهو نفس الحال مع ناجي العلي ابن تلك المرحلة التي شهد فيها بلاده تنقسم ويولد فيها كيان مغتصب يدعي أنه صاحب الأرض، ويقتل ويذبح أصحابها الأصليين.
حنظلة أيقونة خالدة
اغتيل ناجي العلي بطلق ناري، من قبل مجهولين في لندن عام 1987، بعد أسابيع قليلة من إحياء الذكرى الأربعين للنكبة التي لم يخرج منها الوطن العربي حتى الآن، لكن حنظلة الشعار بَقِيَ حيّا حتى بعد أن رحل صاحبه، مديرًا لنا ظهره مع كل مذبحة يرتكبها الكيان الصهيوني على أرضه، محتجًا على انهزام وضعف الأنظمة العربية، التي أدارت ظهرها له وللقضية وللفلسطينيين.
رحل ناجي العلي، لكن حنظلة لا يزال حيًا، ظل باقيًا مع كل انتفاضة ومع كل نكبة للشعب الفلسطيني، ظل أيقونة رياضية وأدبية وفنية، ففي السنوات الأخيرة، ساد احتفال «حنظلة» الملاعب العربية، وخاصة خلال الفترة الحالية في مواقف داعمة لسكان قطاع غزة والقضية الفلسطينية ضد جرائم الاحتلال الإسرائيلي، إذ أضحى هو الطريقة المفضلة لنجوم الكرة العربية للتعبير عن مساندتهم القضية الفلسطينية، وداخل الملاعب المصرية التي عرفت احتفال حنظلة للمرة الأولى في مايو 2021 عن طريق أحمد عبد القادر لاعب سموحة وقتها حين كان معارا من النادي الأهلي، خلال مباراة الإنتاج الحربي ببطولة الدوري العام، والتي جاءت بالتزامن مع حرب الكيان الصهيوني على قطاع غزة في معركة أطلقت عليها المقاومة الفلسطينية «سيف القدس».
حنظلة أديبا
لكن حنظلة عرف طريقه إلى الأدب قبل الملاعب بسنوات عدة، كما في كتابيّ «مذكرات قرية فلسطينية مختفية» (2002)، و«ما وراء الجدران» (2005)، للكاتب محمد الأسعد، لكن الظهور الأبرز كان في رواية «على عهدة حنظلة» الصادرة عام 2017، للأديب الكويتي الكبير الراحل إسماعيل فهد إسماعيل، التي يحاكي فيها بين ناجي العلي وشخصية حنظلة التي اخترعها من واقع مأساته الشخصية والقضية الفلسطينية في آن، ولازمته في مسيرته وحتى بعد رحيله، فصار الاثنان متلازمين معًا في الحياة والموت.
وفي السنوات الأخيرة، شق «حنظلة» طريقه إلى السينما العالمية، تحديدًا عام 2019، من خلال فيلم المخرج الفلسطيني إيليا سليمان «إن شئت كما في السماء» أو «لابد أن تكون الجنة»، وهو العمل الحائز على تنويه خاص من لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي، كما حاز على جائزة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين في المهرجان ذاته، فنجد في هذا العمل تشابهًا بين شخصية إيليا سليمان في الفيلم وشخصية حنظلة في رسومات ناجي العلي، فـ«إيليا» الذي يرى ويتابع ويداه خلف ظهره في الفيلم يبدو وكأنه امتداد منطقي للطفل «حنظلة»، فكلاهما مراقب لا يتفاعل ولا يتداخل مع ما يراه، وكلاهما مقيمان، قديمان وباقيان.