أحدث الحكايا

طريق إيدا وعزلة تالستوي

قرأتُ منذ عدة أعوام روايةَ ريكاردو بيجليا «الطريق إلى إيدا»، تلك الرواية الآسرة التي رسمت ملامحَ الدولةِ العميقةِ في الولايات المتحدة الأمريكية، على نحوٍ شعريٍّ لا يخلو من العادمِ الخانقِ الذي يصاحب انفجاراتِ الحقائقِ الصاخبة.

تتجلّى في تلك الرواية علاقةٌ خاصةٌ بين كاتبها ريكاردو بيجليا وبين الكاتب الروسي ليف تالستوي، من خلال التقاطع المباشر بين الأخلاق والتاريخ، بين الضمير الإنساني والميكنة الآلية للمجتمع.

يتتبع البطلُ الأرجنتيني أسرارَ مقتلِ أستاذةِ الأدب (إيدا براون) الغامض، ذلك الحدث الذي يبدو بمثابةِ صدىً لثورةِ ليف تالستوي ضد الحداثة الصناعية.

 

غلاف رواية (الطريق إلى إيدا)

 

ولو تأملنا كتابَ تالستوي الشهير «مملكة الله داخلك»، لوجدنا سؤالًا يطرحه تالستوي عن مدى شرعيةِ عنف الدولة والتطورِ التكنولوجي، وهي الفكرةُ نفسُها التي عالجها بيجليا في روايته عبر مفاهيمِ الإرهابِ الاقتصادي والراديكاليةِ السياسية.

وقد تردّد صدى عباراتٍ لتالستوي مثل: «من يكفر بالإنسانية يغدُ مادةً خصبةً لليأس»، على لسانِ راوي بيجليا حين قال: «ثورتُك ضد النظام خيرُ دليلٍ على وجوده، وهو بالضبط ما يحتاجه.»

 

الكاتب الأرجنتيني ريكاردو بيجليا

 

يستعير بيجليا بوضوحٍ شخصيةَ «المفكر المغترب» من ليف تالستوي، فالراوي في رواية «الطريق إلى إيدا» هو بالضبط «المراقبُ» المحلِّلُ قويُّ الملاحظةِ لدى تالستوي، الممزّقُ أخلاقيًا، الذي لا يكفّ عن تحليلِ العنفِ وتجلياته في المجتمع المعاصر.

 

غلاف رواية (مملكة الله داخلك) لليف تالستوي باللغة الروسية

 

 

الراوي الذي جاء إلى الولايات المتحدة الأمريكية كي يتأملَ منطقَ الإمبراطورية، انتهى به المطافُ إلى دراسةِ العزلةِ والتهميشِ القاسي الذي يعانيه مَن يقاومها. اكتشف بيجليا جبروتَ الدولةِ العميقةَ حين تعريها، والخطأَ الفادحَ الذي يرتكبه الثوري حين يقاومها.

وقد نجح ريكاردو بيجليا في التأكيدِ على ما توصّل إليه سلفُه وتجلّى في أعماله: أن العزلةَ رفيقٌ لا يمكن عزله عن الصحوة الأخلاقية.

 

 

عن أحمد صلاح الدين

كاتب ومترجم مصري، حاصل على ليسانس الآداب في اللغة الإنجليزية وآدابها من جامعة عين شمس، وعلى درجة الماجيستير في اللسانيات من جامعة ليف تالستوي بروسيا، كما يستعد الآن للدفاع عن أطروحته للدكتوراه في الأدب الروسي المعاصر بمعهد جوركي للأدب بموسكو. قدم صلاح الدين العديد من الترجمات عن اللغة الروسية والإنجليزية، وساهم بمقالاته عبر سنوات في تقديم الأدب الروسي المعاصر للقارئ العربي. من أشهر أعماله "صلاة تشرنوبل" لسفيتلانا إليكسييفيتش، "أورشليم" لجونسالو تفاريس، "يوميات فتاة تحت الاحتلال" لآن فرانك، "الأب سيرجي" لليف تالستوي، و"دون طريق بلا أثر" لدينيس جوتسكو.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *