د. أيمن بكر يحكي (حكايات ثقافية): سبيلبيرج.. حين يكون المبدع عنصريا

آاااااكشن

انطلقت العربة التي يجرها حصان في أزقة ضيقة لسوق قديم. الحوانيت تعرض بضاعتها في الشارع، وملابس الباعة والمشترين جميعا تقول إننا في العصر العباسي، فجأة يظهر البطل الأمريكي بملابس الكاوبوي ممتطيا حصانه الذي يطارد الأشرار أو يفر منهم (لا يهم)، يقفز ويطير ويتدحرج ثم يقوم سليما معافى، بطل أمريكي بكل ما يحمله الخيال العالمي من خزعبلات وقحة عن أمريكا وأبطالها.

لنفترض الآن أنك دخلت قاعة السينما متأخرا لتجد هذا المشهد من الفيلم، غالبا لن يكون أمامك سوى افتراضين للوهلة الأولى: أن يكون هذا فيلم خيال علمي سافر فيه البطل في الزمن عائدا إلى أسواق الشرق الأوسط في العصور الوسطى، أو أن الفيلم يدور في مجتمع صحراوي بدائي يقع على أطراف الحضارة الحديثة ف. لكن الدقائق التالية ستكشف لك العجب العجاب: هذا المشهد يصور القاهرة في ثلاثينيات القرن العشرين، حين كانت القاهرة من أجمل وأرقى مدن العالم، وحين كانت تغني في ملاهيها إيديث بياف، وتأتيها أكبر فرق الأوبرا، وتنزل فيها الموضة قبل باريس. يأتي المشهد السابق في أحد أفلام سلسلة إنديانا جونز، التي كتبها جورج لوكاس وأخرج معظمها ستيفن سبيلبيرج.

لكن أليس من حق المبدع أن يخترع واقعا خياليا يناسب رؤيته التي يود تقديمها؟ بالطبع هذا من حقه تماما، على ألا يكون حقا يراد به باطل، حين يكون الاختراع ومجافاة التاريخ تنتقي أماكن دون أخرى، وشعوبا دون سواها لممارسة تضليل وإعادة صياغة لوعي العوام من المشاهدين، تقوم هذه الانتقائية في توجيه الخيال الإبداعي لشيطنة شعوب بأكملها، ووصم ثقافات هي غالبا أصل الحضارات الإنسانية، في مقابل الوجود الأمريكي العدواني منزوع الحضارة.

هكذا يعطينا سبيلبيرج مثلا لكيف تكون مبدعا كبيرا وعنصريا عظيما في الوقت نفسه، بأن تنتقي ثقافات بعينها وأماكن بعينها تتعارض مع قناعاتك وانحيازاتك، لتسمها بالبدائية والتخلف. أنت مبدع لكنك منحاز بصورة عمياء تصل حد الانحراف النفسي غير القابل للإصلاح، فتتحول دون إرادة منك إلى عنصري بغيض يخطر بعنطزة الطاووس وتفاهته، ويمارس قمعا لمنتقديه وتزييفا للتاريخ مستعينا بقدراته الإبداعية.

كيهودي متشدد، يستطيع سبيلبيرج تمييز مأساة الشعب اليهودي في كل مكان وزمان، كما يرى في الكيان الصهيوني الدولة التي تحقق العدالة لقومه، لذا فهو كيان فوق المحاسبة، ولا يمكن لومه على المذابح التي ارتكبها ويرتكبها بصورة منتظمة.

إيه المناسبة؟

ستيفين سبيلبيرج هو مخرج يهودي من أكبر المدافعين عن الصهيونية وعن إسرائيل، وهو يتحدث كثيرا عن القيم الأخلاقية العليا التي جعلته صاحب مواقف يراها مبدئية، وهي في ما يبدو لي مواقف تعبر عن تشدد ديني/عرقي قبيح وبسيط في الوقت نفسه، إنه منحاز بصورة مطلقة لا تسمح بالرؤية أو المراجعة لمواقف الكيان الصهيوني، الذي يراه هذا المخرج رمزا للهوية اليهودية المظلومة تاريخيا، ولذلك رفض تقاضي أجر عن فيلمه “قائمة شندلر” لأنه سيشعر كمن يقبل “دية” لدماء الضحايا اليهود، ليعمق بموقفه هذا فكرة المأساة التي قادت مخرجا كبيرا للتخلي عن أجره لعظم وقعها على نفسه.

وقد حصل “قائمة شندلر” على سبع جوائز من أصل اثنتي عشرة جائزة تمنحها الأوسكار. وبالطبع تعبر الأوسكار وغيرها من الجوائز الغربية عن المناصرة الصريحة للصهيونية، عن طريق منح الجوائز بسخاء للأعمال التي تظهر مأساة اليهود.

كان من الطبيعي أن يفقد سبيلبيرج المبدع العنصري المنحاز بصورة عقائدية، من يدعي التحلي بمبادئ عليا، إحدى عينيه حين ينظر لما حدث في فلسطين المحتلة، رغم أن دعايته لفيلم “قائمة شندلر” كانت مرتكزة على جملة من التلمود تقول: “من أنقذ روحا فقد أنقذ العالم بأسره”. لكنه طبعا يقصد روحا يهودية فحسب.

لا يستطيع هذا المخرج مقاربة الوضع بالحرية نفسها التي مارسها لصالح اليهود حين كانوا ضحايا، هنا يتدخل الانحياز المسبق، البعيد كل البعد عن المبادئ التي يتشدق بها كل المتشددين، وتلعب المصالح دورها القذر المشهور عبر التاريخ، لكن بأدوات الفن العميقة القادرة على التأثير في ملايين البشر.

يعطينا سبيلبيرج مثلا لكيف تكون مبدعا كبيرا وعنصريا عظيما في الوقت نفسه، بأن تنتقي ثقافات بعينها وأماكن بعينها تتعارض مع قناعاتك وانحيازاتك، لتسمها بالبدائية والتخلف. أنت مبدع لكنك منحاز بصورة عمياء تصل حد الانحراف النفسي غير القابل للإصلاح، فتتحول دون إرادة منك إلى عنصري بغيض

كيهودي متشدد، يستطيع سبيلبيرج تمييز مأساة الشعب اليهودي في كل مكان وزمان، كما يرى في الكيان الصهيوني الدولة التي تحقق العدالة لقومه، لذا فهو كيان فوق المحاسبة، ولا يمكن لومه على المذابح التي ارتكبها ويرتكبها بصورة منتظمة.

الصورة في الغرب حول وضع إسرائيل صورة مخيفة ومحاطة بحقول ألغام من الإدانة التاريخية للذات والمصالح الصلبة خاصة أمريكا (المستفيد الأكبر من الكيان)، وألمانيا (التجسيد الأكثر عنفا لعقدة الذنب تجاه اليهود بسبب ما قام به رايخ هتلر)؛ لذا يفقد الكثير من الغربيين القدرة على الرؤية أصلا، ومن يجاهد نفسه ليرى، سيجد صعوبة في الاعتراف بأنه يرى. وهكذا ينكر سبيلبيرج المذابح التي تقوم بها إسرائيل بالصمت عنها، وتوجيه الانتباه نحو ما فعله خصوم الكيان، مستخدما في ذلك نجوميته واحترامه كمبدع، من دون أن يكتشف أنه غالبا سيتم ذكره في التاريخ القريب بوصفه عنصريا مقيتا.

حتى هذه اللحظة نحن نتكلم عن كائن عنصري متشدد يستخدم الأدوات المتاحة له لدعم انحيازاته، التي أراها ويراها الكثيرون غيري، انحيازات غير عادلة وغير إنسانية. الأمر لا يقف عند سبيلبيرج وحده، فكثير من مخرجي هوليوود ومؤلفيها قد استخدموا كل ما يملكون من طاقات إبداعية لدعم القضية الصهيونية، وتزييف الوجود الفلسطيني وتجهيله لدرجة نفي هذا الوجود، على الأقل لأن هذا الانحياز هو ضامن لوجودهم على ساحة العمل، في ظل سيطرة اللوبي اليهودي على الإعلام الغربي ومؤسسات الإنتاج في هوليوود.

هنا يظهر السؤال الذي يجب أن يصدمنا جميعا: ماذا يقدم الإعلام العربي والإبداع العربي خاصة السينما، لدعم قضايانا التي نراها عادلة مثل تحرير الجولان، وحق الفلسطينيين في دولتهم، واستغلال الدول الغربية لموارد العالم النامي، وازدواجية المعايير التي تحكم العلاقات الدولية، والعنصرية التي يواجهها العرب في الغرب وغيرها من القضايا؟ أين ضغط رؤوس الأموال العربية الضخمة في الغرب؟ متى نستخدم قوانا الناعمة العظيمة ونحرر طاقات مبدعينا ونجتذبهم، بدلا من إلقائهم صيدا سهلا لمؤسسات الغرب العنصري المستغل؟ نحن لا نفعل سوى مخاطبة الداخل العربي، متكالبين على المصالح السياسية والاجتماعية، وتحقيق مكاسب ضيقة ترهقنا بأكثر مما تقوي وجودنا المشترك، ومهملين في الوقت نفسه أدوات التأثير العالمي وأهمها الفنون.

لا يستطيع هذا المخرج مقاربة الوضع بالحرية نفسها التي مارسها لصالح اليهود حين كانوا ضحايا، هنا يتدخل الانحياز المسبق، البعيد كل البعد عن المبادئ التي يتشدق بها كل المتشددين، وتلعب المصالح دورها القذر المشهور عبر التاريخ، لكن بأدوات الفن العميقة القادرة على التأثير في ملايين البشر.

لكن لنعد إلى نموذج المخرج العنصري المبدع الذي ظهر مؤخرا ليعلق على ما حدث في السابع من أكتوبر بعد مرور ما يقارب الشهرين على الحدث. قال سبيلبيرج إنه لم يتصور رؤية شيء مثل هذا يحدث لليهود ثانية خلال حياته، مستدعيا بصورة خبيثة مأساة الهولوكوست لتشوش المخيلة الغربية الجاهلة بما يحدث حولها في أحسن الأحوال، ومقتطعا ما حدث في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ من سياقه، كأي مزيف متعمد للتاريخ، وهو ما يدعو للتساؤل ليس عن موقف سبيلبيرج المفهوم، ولكن عن توقيت الاستعانة به، وتوسيع دائرة انتشاره هو وأمثاله في الدفاع عن الكيان الصهيوني.

اقرأ: سبيلبرج يعلن عن مشروع فيلم لتوثيق هجمات 7 أكتوبر: “لم أتخيل قط” مثل هذه الهمجية

لقد انتبهت الآلة الإعلامية الصهيو/غربية لفداحة الخسارة التي منيت بها، في مواجهة التيك توك وغيره من الوسائل التي تنقل أحداث غزة ثانية بثانية. وهم الآن يعالجون ذلك عبر تشويش الجرائم الإسرائيلية، ومحاولة استعادة التعاطف العالمي السابق مع اليهود كضحايا تاريخيين ووحيدين، فما أحوجنا للانتباه إلى اللعبة الإعلامية/ الإبداعية حول العالم ودخول معتركها بأدوات فنية راقية، كي لا نبقى طويلا خارج الحسابات.