أحدث الحكايا

أحمد شوقي يحكي شهادته: عن الجونة السينمائي من داخله.. بعيدًا عن صخب السجادة الحمراء

“من كان ينتظر السجادة الحمراء فإن السجادة قد أُلغيت، أما من كان ينتظر السينما فقد أتت بكل ثقلها”.

وكأنه شعار افتراضي رفعه مهرجان الجونة السينمائي خلال دورته السادسة، والتي اختتمت قبل ساعات بعدما أقيمت استثنائيًا في الفترة بين 14 و21 ديسمبر، بعد شهرين بالضبط من الموعد الرسمي للمهرجان الذي كان من المقرر أن يُعقد في أكتوبر الماضي.

القصة يعلمها الجميع، فقد كان من المستحيل إقامة المهرجان مساء 13 أكتوبر، بعد ستة أيام فقط من اندلاع المعارك، وبعد ساعات من الاجتياح الدامي لغزة. لكن ما قد لا يعلمه البعض هو الجانب الآخر للحكاية، جانب فريق المهرجان الذي كان قاب قوسين أو أدنى من إطلاق نسخة كان من المفترض أن تكون ضخمة في حجمها، فكتب القدر لها أن تحمل الاستثناء في الشكل والمضمون معًا.

شهادتي بالطبع مجروحة باعتباري عضوًا في فريق المهرجان، للمرة الأولى بعد خمس دورات اكتفيت فيها بلعب دور الناقد والضيف، لكني أزعم أنني أتحرى الصدق والموضوعية قدر استطاعتي، خاصةً أننا نتكلم عن حدث شاهده وحضره الجميع، ويُمكن بسهولة تفنيد أي أكاذيب أو مبالغات، أو تشويش قد تسببه العاطفة تجاه ما حدث في الجونة 2023.

 

الجونة السينمائي ولد حاملًا كل بذور الجدل داخله، فمنذ انطلاقه عام 2017 وهو مادة دسمة لنقاشات لا تنتهي، فهو مهرجان مصري ناجح وجذاب، لكنه يُقام بعيدًا عن المظلة الرسمية للدولة بما تضفيه من شرعية وحماية، وهو مليء بالأنشطة السينمائية والثقافية، لكن وقعها الإعلامي يتوارى وراء الإبهار الذي صاحب المهرجان من اللحظة الأولى.

 

فريق مهرجان الجونة السينمائي في دورته السادسة

معضلة أزلية حلتها الظروف

الجونة السينمائي ولد حاملًا كل بذور الجدل داخله، فمنذ انطلاقه عام 2017 وهو مادة دسمة لنقاشات لا تنتهي، فهو مهرجان مصري ناجح وجذاب، لكنه يُقام بعيدًا عن المظلة الرسمية للدولة بما تضفيه من شرعية وحماية، وهو مليء بالأنشطة السينمائية والثقافية، لكن وقعها الإعلامي يتوارى وراء الإبهار الذي صاحب المهرجان من اللحظة الأولى، بسجاده الأحمر المكتظ بأشهر النجوم والنجمات يطلون في أفخر الأزياء دائمًا، وأكثرها إثارة للجدل أحيانًا، وهو حدث جماهيري يفتح أبوابه لكل من يرغب في حضور عروضه وندواته، لكنه يُقام وراء أسوار مدينة يعلم الجميع أن حائلًا من الثروة يفصلها عمّا وعمّن خارجها، حتى لو سُمح للجمهور بدخول عروض المهرجان خلال أيامه.

هذا الوضع المتفرد للجونة، المدينة والمهرجان، خلق سنوات من الشد والجذب الذي لا ينتهي: من يحضرون المهرجان يدركون قيمته ويروجون له، ومن لا يحضرونه يصعب عليهم إدراك جوهر ما يجري وراء صخب النجوم والتغطيات الإعلامية الخفيفة، وبالتالي يعتبرون ترويج الحضور نوعًا من المجاملة للمهرجان ومنظميه، وهي مُعضلة كانت لتستمر طويلًا، لولا أن جاءت الأحداث المأساوية في فلسطين لتمنح كل المهرجانات فرصة لإثبات حضورها في اللحظة الراهنة، فتفاداها الجميع وقرر الجونة استغلالها.

جانب من حفل افتتاح الدورة الأولى لمهرجان الجونة السينمائي بحضور الفنان عادل إمام

 

نسخة استثنائية بدون أجواء احتفالية، وبدون سجادة حمراء، وبتركيز على أنشطة الصناعة، وبرنامج خاص مُكرّس للسينما الفلسطينية. قد تبدو هذه اختيارات منطقية في ظل ما يجري حولنا، لكنها بالتأكيد ليست قراراتٍ بسيطةً من الناحية التنظيمية.

مهمة عسيرة

نسخة استثنائية بدون أجواء احتفالية، وبدون سجادة حمراء، وبتركيز على أنشطة الصناعة، وبرنامج خاص مُكرّس للسينما الفلسطينية. قد تبدو هذه اختيارات منطقية في ظل ما يجري حولنا، لكنها بالتأكيد ليست قراراتٍ بسيطةً من الناحية التنظيمية.

هذا مهرجان يموّل بالكامل من القطاع الخاص، عبر عقود رعاية مع شركات تدفع ملايين بغرض الترويج لنفسها، وهذا الترويج يتطلب حضور النجوم والاحتفاء بهم، ويستفيد من التغطية الإعلامية الصاخبة. أغلب هؤلاء الرعاة شركات كبرى عابرة للحدود، لدى كل منها سياسة إعلامية وصورة للعلامة التجارية، ترتبط في أغلب الحالات بالابتعاد عن مساحات الجدل السياسي ومناطق الاشتعال، وبالتالي يصعب إقناعها بدعم حدث يأخذ موقفًا سياسيًا وإنسانيًا معلنًا. فكيف يُمكن أن يتم تمويل مهرجان يخالف كل هذه الاشتراطات وإتمامه بصورة لائقة؟

 

اقرأ من هنا خبر انسحاب بعض الرعاة من مهرجان الجونة بعد دعمه لفلسطين 

 

التضامن مع فلسطين كان حاضرا بقوة في دورة هذا العام

 

أضف لذلك أن فريق المهرجان تم تشكيله من البداية لتحقيق دورة ضخمة مليئة بالنجوم والإبهار، فوجد أغلبهم نفسه في الأمتار الأخيرة، وقبل ثلاثة أيام فقط من موعد الافتتاح المقرر، مضطرًا لإعادة كل شيء من البداية، وإنجاز المهام وفقًا لبوصلة مختلفة يُعاد فيها ترتيب الأولويات. مهمة عسيرة بدنيًا ونفسيًا كان على الجميع أن يخوضها ليعرف أنها حقًا ممكنة، وإنها ستُشكل خبرة مهنية استثنائية سمح القدر لنا بخوضها، يصعب تصور تكرارها في أي مكان أو زمان آخر.

قد يبدو الحديث عن المتاعب النفسية لتنظيم مهرجان سينمائي أمرًا تافهًا في ظل موت المئات كل يوم على بعد كيلومترات، لكن الحقيقة إنه ورغم كل الآلام، فعلى الجميع أن يعمل ويستمر في العمل، وأن يحاول استغلال المساحات المتاحة له لكشف الحقائق ومنح منصة كل مظلوم أو مستضعف أو صاحب حق، وهو ما أزعم أن الجونة السينمائي قد حاول تحقيقه قدر المستطاع.

 

منصة صناعة السينما

الشكل الاستثنائي للدورة ربما يكون قد ساعد في إبراز ما يجري في منصة الجونة السينمائية، ذراع المهرجان المخصص لمحترفي صناعة السينما، والذي شرُفت بإدارة أحد أهم أقسامه: منطلق الجونة السينمائي، وهو برنامج دعم وتمويل الأفلام الخاص بالمهرجان، وفيه يجتمع كل عام صناع مشروعات أفلام من مختلف الدول العربية، كان عددهم هذا العام 19 مشروعًا مثلت ثمانية دول عربية، بخلاف التمويل المشترك مع بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة.

كل صانع فيلم يقوم بعرض مشروعه على حضور من المنتجين والموزعين وممثلي المهرجانات والجهات المختلفة، يعقد اجتماعات منفردة مع المهتم منهم بالمشروع، قبل أن يتم توزيع جوائز قيمة بلغ عددها هذا العام 31 جائزة مجموع قيمتها 365 ألف دولار على أفضل المشروعات، بما يساعد الأفلام في استكمال رحلتها وعقد المزيد من الشراكات حتى يخرج الفيلم للنور في أحسن صورة.

ولعل اختيارات لجنة التحكيم التي تشكلت من المخرجة المصرية هالة خليل، المنتج الفرنسي جيوم دي سوي، والمنتج الأردني جورج دافيد المدير السابق للهيئة الملكية للأفلام، قد عبَّرت بشكلٍ غير مقصود عن مضمون تلك الدورة من الجونة السينمائي. لجنة التحكيم اختارت أحسن مشروع في مرحلة التطوير “سرق النار” للفلسطيني عامر الشوملي، عن ماضٍ طويل من سرقة الآثار الفلسطينية، بينما منحت جائزة أحسن مشروع في مراحل ما بعد الإنتاج لفيلم “لم تكن وحيدة” للعراقي حسين الأسدي، عن عجوز تعيش في منطقة الأهوار، وتتمسك ببيتها وأرضها في وقت تحوّلٍ مناخيٍ عنيفٍ وتصحرٍ تتعرض له المنطقة.

الفائز بأحسن مشروع في مرحلة التطوير لفيلم «سرقة النار» من إخراج عامر الشوملي

 

فيلم “لم تكن وحيدة” للمخرج حسين الأسدي، حصل على شهادة المنصة

 

كأن لجنة التحكيم أرادت أن تُعبر باختياراتها عن انحيازات المهرجان هذا العام، وتنتصر للتراث الفلسطيني وللتمسك بالأرض وحماية البيئة، ولا ننسى أن الجونة هو أول مهرجان عربي يمنح جائزة خاصة هي “نجمة الجونة الخضراء” لأحسن فيلم يهتم بقضايا البيئة. وكأن أحداث المنطلق ونتائجه تجليات للشعار الذي بدأنا به المقال، فحتى بدون سجادة حمراء أو إبهار أو عدد لا نهائي من الأحاديث حول الأزياء، تمكن الجونة من الانعقاد بشكل لائق احترمه الجميع، ومن منح منصة للأصوات المغايرة، ودعم القضايا التي تستحق الدعم، وهو ما يجعل فريق المهرجان الكبير -وأنا منهم- نشعر بالفخر لأننا ساهمنا قدر استطاعتنا في هذه الصورة الكبيرة الجميلة.

الفائزون بجوائز منطلق الجونة

عن أحمد شوقي

ناقد سينمائي مصري ومبرمج ومشرف سيناريو. حاليًا هو رئيس الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسى)، ورئيس جمعية نقاد السينما المصريين. ينشر مقالات أسبوعية عن السينما وصناعة الترفيه. كما أصدر ثمانية كتب متخصصة حول السينما المصرية. شوقي يشغل منصب مدير منطلق الجونة، برنامج تطوير المشروعات والإنتاج المشترك الخاص بمهرجان الجونة السينمائي. كما إنه مدير التطوير لمنطقة الشرق الأوسط بمنصة "فيو" الإلكترونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *