أحدث الحكايا
فيلم الحريفة

أحمد شوقيِ يحكي: “الحريفة”، “مقسوم”، “فوي فوي فوي!”، “وش ف وش”.. عودة الأمل إلى السينما المصرية

أعترف أني كدت أفقد الأمل في السينما التجارية المصرية، فعلى مدار السنوات العشر الأخيرة كانت الغالبية العُظمى من تجاربي مع الأفلام التجارية المصرية مُحبطة، ليتراكم في كل فيلمٍ جديدٍ نُشاهده شعورًا بأن هذه الصناعة العريقة آخذة في التحلل التدريجي من داخلها، تمامًا كما بدأت رحلة التفكيك من خارجها قبل عقود ولا تزال مستمرة.

عندما أذكر ذلك لا أعني أن ذلك الشعور كان نتيجةً لمشاهدة الأفلام الرديئة التي تخرج باستمرار على مدار العام، فوجود هذا النوع أزلي لا فكاك منه. الأزمة أن الشعور بالتفكك كان قرينًا بالأفلام الكبيرة، التي يُفترض فيها الجودة، والتي يجب أن تُعبّر -على الأقل نظريًا- عن أفضل ما في السينما المصرية. أتحدث هنا -من الذاكرة- عن أفلام مثل “الممر” لشريف عرفة، “كيرة والجن” لمروان حامد، “الخلية” لطارق العريان، “العارف” لأحمد علاء الديب، وغيرها من الأفلام التي تنتمي لنفس المساحة: أكبر وأفضل ما في سينمانا أمام الكاميرا وخلفها.

كل هذه أفلام كبيرة ومقدرة، حافلة بالنجوم، ناجحة جماهيريًا، أقرب للجودة منها للرداءة، جلبت مئات الملايين وكفلت للصناعة أن تخرج بأرقام إجمالية مقبولة في أعوام عرضها. فكيف يُمكن أن تكون نفس الأفلام مؤشرًا -في رأي كاتب السطور- لورطة السينما المحلية؟

العيوب الثلاثة للسينما الكبيرة

السر يكمن في عدة سمات تجمع الأفلام المذكورة وغيرها، صارت مقترنة بالسينما المصرية الجماهيرية مؤخرًا: هوس الضخامة، تناقص الفردانية، والانقطاع عن العالم.

ثمّة هوس بين مخرجينا الكبار بالضخامة: الاستعانة بأغلى النجوم المتاحين حتى في الأدوار الداعمة، السرديات الكبرى التي تحتاج ميزانيات ضخمة لتنفيذها، السعي الدؤوب نحو الإنجاز التقني والإبهار، وهو سعي ينجح بصورة أو بأخرى، لكنه يحوّل صانع الأفلام مديرًا، عمله الرئيس هو تسيير هذا الفريق الضخم وتحقيق الأهداف التقنية والاقتصادية لـ”مشروع” الفيلم، وبالتالي تتناقص مساحة العلاقة الفردية التي تربط الفنان بعمله، بل وتذوب الفروق بين المخرجين طالما كنّا نتحدث عن المستوى الأعلى من الصناعة، وطالما كانت المنافسة بينهم تجري على طريقة ألعاب القوى الأوليمبية، بحثًا عن “الأعلى والأسرع والأقوى”، لا عن الأكثر أصالة وفردانية.

أضف إلى ما سبق شعورا بالانقطاع الكامل عمّا يحدث خارج الحدود المصرية من سينما. لا أقول إن مخرجينا الكبار لا يشاهدون السينما العالمية، لكن مشاهداتهم لا تنعكس على أعمالهم، التي تبدو بوصلتها بالغة المحلية، تخاطب جمهورًا مصريًا فقط، مع بقايا المهتمين من العالم العربي ممن لا يزالوا يملكون الرغبة -وسط حجم الزخم السينمائي المتاح في كل مكان حولهم- أن يشاهدوا أفلامًا مصرية تقوم على نفس الصياغات القديمة، مضافًا إليها مشاهد حركة أعقد، وبذخ إنتاجي أكبر، وأبطال مسلسلات يظهرون كضيوف شرف ليؤدوا مشاهد كانت في الماضي مساحةً لتقديم مواهب جديدة.

نيللي كريم ومحمد فراج من فيلم فوي فوي فوي

 

أسباب للتفاؤل

حسنًا، لا أكتب هذا المقال كي أنتقد مخرجينا الكبار، وإنما لأقول إن تصوراتي المتشائمة حول مستقبل السينما بدأت تتفكك ببطء، والسبب أربعة أفلام عُرضت خلال الأشهر الأخيرة هي حسب ترتيب عرضها “وش ف وش” لوليد الحلفاوي، “فوي فوي فوي!” لعمر هلال، “الحريفة” لرؤوف السيد، و”مقسوم” لكوثر يونس. فيلم الحلفاوي هو عمله الثاني، بينما الأفلام الثلاثة الأخرى أعمال أولى لمخرجيها.

فيلم مقسوم

 

لماذا أجد الأفلام الأربعة سببًا لتعديل الرؤية من تشاؤم إلى تفاؤل مشوب بالحذر؟ هل لكونها أعمالا أولى تُبشر بمواهب إخراجية؟ أم لأنها أفلام متميزة المستوى أخرجت الصناعة من ركود طال عدة سنوات؟

 

فيلم الحريفة

 

الأفلام جيدة بطبيعة الحال وإلا لما وجدت مكانًا داخل حديثنا، والاحتفاء بالمواهب الجديدة أمر بديهي داخل أي صناعة وثقافة سينمائية تحترم نفسها، لكن الأهم في الأعمال الأربعة هو قدرتها على الخروج -جزئيًا- من الفخاخ الثلاثة التي قلنا إنها تُسيطر على جُلّ إنتاجنا من الأفلام الكبيرة ذات التوجه الجماهيري.

قيمة الفيلم المتوسط

لا تُعاني الأفلام المذكورة من هوس الضخامة لسببٍ عمليٍّ بحت؛ فصناعها لم يمتلكوا بعد من النجاح وتثبيت الأقدام ما يجعلهم موضعًا لاستثمارات هائلة الحجم، لا معارك حربية ولا إعادة خلق لفترة تاريخية ولا قتالات بالأيدي والأقدام تستمر عدة دقائق على الشاشة لحسن الحظ، فقط قصص ذكية يُمكن تنفيذها في إطار إنتاجي مقبول.

فيلم وش في وش

 

لكن الأهم هنا هو تخلص تلك الأفلام من هوس الضآلة كذلك، فالوجه الآخر لعملة السينما المصرية الجادة كانت الأفلام البديلة، المستقلة أو المغايرة أو أيًا كان وصفك المُفضل لهذا النوع من الأعمال التي يُمكن اعتبارها -مع بعض التجاوز- أفضل ما قدمته السينما المصرية خلال العقد ونصف الأخيرين على المستوى الفني، والتي صُنع أغلبها بميزانيات متقشفة وبدعم من جهات إقليمية ودولية، بصورة كبّلت أيدي أغلب صناعها تارتين: تارةً لضعف الميزانيات، وتارة لانعدام الأفق الجماهيري الذي يجعل التفكير في ذائقة مبرمج المهرجانات الأوروبي اختيارًا أكثر عمليةً من مخاطبة ذائقة جمهور قاعات وسط القاهرة.

فيلم الحريفة

 

الأفلام الأربعة ليست ضخمة، لكنها ليست صغيرة أيضًا، تضع الجمهور في الاعتبار، فيبني الصانع فيلمه حول قصة صالحة للمشاهدة والتفاعل من قبل مشاهد عادي، أو لنقل مشاهد متوسط لا يُشبع غرائزه في أفلام الراقصات والمغنيين الشعبيين، لكنه يبحث عن حكاية يمكن متابعتها، وإيقاع ملائم لمن لم يشاهد مائتي فيلم أوروبي بعد.

هي أفلام متوسطة من النوعية التي صنعت شعبية السينما المصرية تاريخيًا، فإذا حاولت أن تتذكر أي نجم من الوجوه الأيقونية لسينمانا، ستجد نفسك تربطه في ذاكرتك بأفلام هي أقرب بكثير لـ”وش ف وش” و”مقسوم” منها لـ”العارف” و”الخلية”.

وش في وش

سينما الهموم الشخصية

يقودنا هذا إلى العنصر الثاني، وهو أمر يصعب الإمساك بقرائن واضحة للتدليل عليه، لكن يمكن أن تلمسه في ثنايا الفيلم، وتدركه بشكل أوسع لو شاهدت المخرج يتحدث عن فيلمه، وهو حس الفردانية في العمل. صحيح أن صناعة الأفلام عمل جماعي يشارك فيه عشرات الأشخاص، لكن ثمّة تقدير خاص للأفلام التي نشعر فيها أن صانع الفيلم مهتم بفيلمه بشكل خاص، بكونه يحمل أفكاره ورؤيته للحياة التي يريد أن يشاركها غيره، وليست مجرد علاقة مهنية/ تقنية بين صانع ماهر ووظيفة يُتقن أداءها.

أعرف رؤوف السيد والمؤلف إياد صالح جيدًا، وأعرف أن كرة القدم وأثر الرياضة في الحياة اليومية عنصر مهم في تفكيرهما كان من البديهي أن يُنتج عملًا مثل “الحريفة”. تربطني كذلك صداقة طويلة بكوثر يونس وهيثم دبور، وأوقن أن هاجس العلاقة بالأسرة والأصدقاء وتحليل أثر الزمن على العلاقات فكرة مُلحة تتكرر في أعمالهما المختلفة، يمكن اعتبار “مقسوم” تجليًا منطقيًا لها. لا أعرف عمر هلال ووليد الحلفاوي على المستوى الشخصي، لكن يمكن لكل مصري أن يفهم سر اهتمام فنانين في عمرهما بعمل أفلام عن ضغوط الحياة التي تدفع شباب مصري للهرب بأي ثمن، أو ضغوط الأقران التي تجعل أي زواج ناجح مشروع قنبلة قابلة للانفجار في أي لحظة.

من فيلم مقسوم

 

هذه العلاقة المباشرة، الشخصية، عنصر مهم جدًا في التمييز بين السينما كصناعة، والسينما كصناعة ممتزجة بالفكر والإبداع، يُقدم فيها الفنان ما يخصه حقًا، يطرح رؤيته ويشاركها مع العالم بطريقته. مجددًا، لا أقول إن أفلام المخرجين الكبار صُنعت لأسباب تقنية فقط أو أنها تفتقر للرؤية، لكنها بالتأكيد أقل ارتباطًا بهمومهم الخاصة، اليومية، من الأفلام موضوع حديثنا.

دعونا نأمل

يتبقى عنصر العلاقة بالعالم الخارجي، بالمجتمع السينمائي المعاصر الذي صار فيه من الممكن لفيلم من كوريا الجنوبية أن يتوّج بأوسكار أحسن فيلم في العام (“طفيلي” لبون جون هو)، ولفيلم ناطق بالألمانية أن يترشح لخمس جوائز أوسكار رئيسية (“منطقة الاهتمام” لجوناثان جليزر). الجوائز مجرد حيلة تسويقية لا قيمة فنية حقيقية لها، لكن القيمة الأساسية هي قدرة الفيلم على تجاوز قيود اللغة والثقافة، ليكون قادرًا على التواصل مع جمهور من مكان مختلف كليًا.

على هذا المستوى لا يزال أمام أفلامنا المزيد من الاجتهاد المطلوب كي نصل لتأثير مقارب. يحتاج مبدعونا أن يفتشوا أكثر داخل نفوسهم، أن يتأملوا في حياتهم اليومية، ويرتبطوا بما يدور في العالم خارج حدودنا الوطنية والإقليمية، لذلك أقول إن أفلام المخرجين الشباب الأربعة قد نجحت جزئيًا: منحونا بعض الأمل في أن أصالتنا قد تنتج أفلامًا جماهيرية ممتعة ومؤثرة، وهي خطوة أولى لا ضمانة لاستمرارها، لكن الأمر الأكيد أننا لو كُتب لنا أن تعيش حتى نجد فيلمًا مصريًا يصل لأكبر المنصات العالمية، سيكون هذا الفيلم أقرب لـ “فوي فوي فوي!” منه إلى “الممر”.

عن أحمد شوقي

ناقد سينمائي مصري ومبرمج ومشرف سيناريو. حاليًا هو رئيس الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسى)، ورئيس جمعية نقاد السينما المصريين. ينشر مقالات أسبوعية عن السينما وصناعة الترفيه. كما أصدر ثمانية كتب متخصصة حول السينما المصرية. شوقي يشغل منصب مدير منطلق الجونة، برنامج تطوير المشروعات والإنتاج المشترك الخاص بمهرجان الجونة السينمائي. كما إنه مدير التطوير لمنطقة الشرق الأوسط بمنصة "فيو" الإلكترونية.

2 تعليقات

  1. دائما مبدع استاذ احمد شوقي

  2. عظمة يا احمد كالعادة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *