هذا شاعرٌ يعرفُ كيف يبدأ قصيدته “حُسنُ الابتداءات”، وكيف ينهيها “حُسن الانتهاء أي خواتيم القصائد” وما بينهما “حُسن الخرُوج والتنقُّل داخل النصِّ من حالٍ إلى حالٍ، ومن غرضٍ شعريٍّ إلى آخر”، وقد قال أهل البيان في ذلك: إنه من البلاغة حسن الابتداء، الذي يُسمَّى براعة المطلع، وقالوا أيضًا: وقد أتت فواتحُ السور من القرآن المجيد على أحسن الوجوه وأبلغها وأكملها، ولنا أن نرى قول ابن نباتة:
“بدا ورنَتْ لواحظهُ دلالا
فما أبهى الغزالةِ والغزالا”
نحنُ أمام شاعرٍ ذي خيالٍ خصبٍ جامحٍ، عارفٍ بتراثه الشِّعري والديني، ولذا لا يجد صعوبة في الكتابةِ، خُصوصًا أنه يتسمُ بالسهولة والسلاسة، إذ إنَّ نصَّه قريبٌ من متلقِّيه، ومن ثم عاش طويلًا وانتشر، لكنَّ أهلَ الأدبِ في بلادي قد تناسوه وأهملوه.
الروح المصرية
لا تغيبُ الرُّوح المِصريةُ لحظةً واحدةً عن شِعر ابن نُباتة المصري، الذي ذاع صِيته في المئة الثامنة للهجرة (الرابع عشر الميلادي)، وكان أشعرَ شُعراء مصر في زمانهم، حيثُ ذاع صيته واشتهر شعرُهُ في شتى الآفاق، بعدما خلق لنفسه الشأن والمكانة الرفيعة.
فهو ابن نتاج ثقافةٍ مصريَّةٍ، إذْ انتقل إلى الشام سنة 717 هجرية وعمره ثلاثون عامًا شاعرًا متكونًا متحقِّقًا، وهو غير الشَّاعر ابن نباتة السَّعدي (327 – 405 هجرية / 938 – 1015 ميلادية) أحد شُعراء سيف الدولة الحمداني.
وُلد في زُقاق القناديل في الفسطاط بالقاهرة، وأُطلق عليه “أمير شُعراء المشرق”، لينيرَ قنديلُه أرواحَ من قرأوه شاعرًا أو ناثرًا، وامتاز بالدَّفق المُوسيقي، والذهاب نحو لُغةِ الحياة اليومية، والاعتماد على التورية بتَغْطية القَصْد بإظهار غيره، وإيراد لفظ ذي مَعْنَيَيْن ظاهرٍ وخفيٍّ؛ أي”الإتيان بلفظٍ له معنيان، معنى قريب ظاهر غير مقصُود، ومعنى بعيد خفيٍّ هو المقصُود”، ولإثارة الذِّهن، إذْ هو يستغلُّ ثراء اللغة في دلالات الألفاظ، واهتمامه الشَّخصي بجماليات اللغة وأسرارها، وهو عندي شاعرُ غزلٍ، حيث جاءت مطالعُ أكثر قصائده غزلية، واحتل شِعرُ الحُبِّ مساحةً كبيرةً من ديوانه الذي تجاوز الألف قصيدة مُتفاوتة الطول ما بين بيتين إلى ما فوق المئة بيت، وفي مديح النبي محمد لم يعارض البوصيري (608 – 696 هـجرية / 1213 – 1295 ميلادية) بل كتب قصيدةً مطوَّلةً مُختلفةً عن “البُردة”، لقد أراد أن يكون مُستقلًّا لا مقلِّدًا.
شاعر العصر
لقّبه تقي الدين السبكي (683 – 756 هـجرية / 1284 – 1355 ميلادية) بشاعر العصر، وذكره ابن كثير صاحبُ كتاب “البِدَايَةُ وَالنِهَايَة” بأنه كان حاملًا للواء الشِّعر، كما قال عنه صلاح الدين الصفدي (696 – 764 هـجرية): “الأديب الناظم الناثر تفرّد بلطف النظم، وعذوبة اللفظ، وجودة المعنى، وغرابة المقصد، وجزالة الكلام وانسجام التركيب”، وذكر ابن جُزَيّ أن “الرئاسة في الشعر انتهت إلى ابن نباتة المصري في جميع بلاد المشرق”، ورأى ابن حجة الحموي (767 -837 هـجرية / 1366 – 1433 ميلادية) مطالع قصائده الغزلية “أبهج من مطالع الشمس”. كما يذكر الشوكاني (1172 هـجرية – 1760 ميلادية / 1250 هـجرية – 1834 ميلادية) أن ابن نباتة هو “أشْعَرُ المتأخِّرين، ولاسيما في الغزليات”.
ويذكر عبد الفتاح عبد المحسن الشَّطي في كتابه “عناصر التميز الإبداعي في شعر ابن نباتة المصري 676 – 768 هجرية” -الهيئة المصرية العامة للكتاب 2021- أنَّ ابن نباتة قد سبق الشاعر الإنجليزي وردزورث (1770 – 1850 ميلادية) بنحو خمسمائة سنة، في استخدام لغة العامة وبعض مفرداتها لغةً للشِّعر.
ويصف البعض العُصُور التي عاش فيها الشُّعراء المصريون بأنها عُصور الضَّعف والانحطاط والجُمود والتخلُّف، على الرغم من أنَّ ابن خلدون (732 – 808 هـجرية / 1332 – 1406 ميلادية) قد وصف مصر بأنها “ولا أوفر اليوم في الحضارة من مِصر فهي أمُّ العالم وإيوان الإسلام وينبُوع العلم والصَّنائع.”، وهو الذي قد عاش ثلاثة عقودٍ في زمن ابن نباتة ؛ولذا هو نتاجٌ لازدهار العلوم بمصر، وإحياء التراث العربي.
الغائب عن مناهجنا
يُدرَّسُ شعرُ ابن نباتة المِصري -الذي عاش في أواخر العصر الأيوبي وأوائل العصر المملوكي- في مناهج التعليم العربية، لكننا لا نجدُه في مناهج مصر التعليمية!
“يمتاز ابن نباتة المصريّ (676 – 768 هـجرية / 1278 – 1366 ميلادية) في شعره بالرقّة وحسن التورية وبالاقتباس من القرآن الكريم والحديث الشريف، والمأثور الشعبي والتاريخي، ثم بالاتّكاء على مصطلحات أصحاب النحو والعروض والفقه والتصوّف والفلسفة”.
لقد استفاد من شعر أبي نواس (146 – 198 هـجرية / 763 – 813 ميلادية) خصوصا قوافيه، وعلي بن الجهم (188 – 249 هـجرية / 803 – 863 ميلادية).
كما استفاد محمود سامي البارودي (1255 هجرية / 1839 ميلادية – 1322 هـجرية / 1904 ميلادية) من شِعر ابن نُباتة مثلما رأيناه يعارضُ البردة للبوصيري قبل أحمد شوقي بتسع سنوات في قصيدته “كشف الغمة في مدح سيد الأمة” التي نشرها في كتاب صدر في سنة 1899 ميلادية، بينما ظهرت قصيدة “نهج البردة “سنة 1910 ميلادية، بتقديم الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر وقتذاك. لكن لم يُقدَّر لقصيدة البارودي التي كتبها في منفاه بـ”سَرَنْدِيب” -سيلان الآن- مدة سبعة عشر عاما، أن تشتهر مثلما اشتهرت “نهج البردة ” لشوقي. وسنوات منفاه أكلت عمره وعاد بعدها إلى مصر في الثاني عشر من سبتمبر 1899 ميلادية كهلًا ضريرًا واهنًا. مات عن اثنين وثمانين عامًا، منها خمسة وأربعون عاما تنقَّلَ فيها بين دمشقَ، وحلبَ، وحماةَ، حتى لقبه القدماء بـ”شاعر الشام”، ودُفِنَ في مقابر باب النصر بالقاهرة، وفي أخريات أيامه أصابه الهزال والمرض.
اضطراب حياته
قُتل الناصر حسن سنة 762 هجرية فاضطربت حياة ابن نباتة، فلم تدم حاله الحسنة، خصوصًا أنه كان كثير العيال، فأخذ يكتب شعرا حزينا مثل قوله وهو يذكر أولاده الذين دفنهم في حياته وعددهم ستة عشر ولدا، ويذكر أباه، ويترحم عليه:
تأخرتُ عنكُم يا بنيَّ ويا أبي
وما أنا إلَّا البعض ماضٍ جميعُهُ
وعُودٌ نباتيٌّ مني يرتجي بقا
وقد مات منه أصلهُ وفروعُهُ
وترك تراثًا شعريًّا جُمع بعد موته، وكان السلطان حسن قد أمر بنسخ ديوانه، وأن يُحفظ في المكاتب السلطانيّة، وبذلك فقد أمَّر السلطان شعر ابن نباتة على سائر أشعار شعراء عصره، كما ترك ابن نباتة أيضا نتاجًا نثريًّا كبيرًا، ومن كتبه الأخرى: “سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون”، حيثُ يجمعُ ابن نباتة في هذا الكتاب تراجم الشاعر الأندلسي ابن زيدون، ونوادره، ورسائله، وطرائفه التي تضم أشعاره ورسائله التي رويت على لسان حبيبته ولادة بنت المُستكفي، ويُصنَّف كأحد أبرز مؤلفاته وأعظمها. وتضمَّن أيضا شَرحا للرسالة التي أرسلَها ابنُ زيدون إلى ابنِ جَهْوَر الذي يُعَدُّ واحدا من ملوك الطوائف، وهذا الكتابُ علامةٌ على تمكُّن الشاعر في التاريخ.
ونقتبس هنا طرفا منه، قال في ولَّادة بنت المستكفي:
“كانت بقرطبة امرأةٌ ظريفةٌ من بنات خلفاء الغرب الأمويين المنسوبين إلى عبد الرحمن بن الحكم المعروف بالداخل، من بني عبد الملك بن مروان، تسمَّى ولَّادة بنت المستكفي بالله محمد بن المستظهر بالله عبد الرحمن؛ ابتذل حجابها بعد نكبة أبيها وقتله؛ وتغلب ملوك الطوائف عليه، في خبرٍ يطول شرحه. وصارت تجلس للشُّعراء والكُتَّاب وتعاشرُهم وتحاضرُهم، ويتعشَّقها الكُبراء منهم، وكانت ذات خلقٍ جميل، وأدب غضٍّ، ونوادر عجيبة ونظم جيد.. وكان ابن زيدون كثيرَ الشَّغف بها، والميل اليها؛ وأكثر غزل شعره فيها وفي اسمها”.
رسالة المفاخرة
وكتاب “تلطيف المزاج في شعر ابن الحجاج”، “الفاضل من إنشاء الفاضل”، مختارات من نثره، وكان ابنُ نُباتة معجبًا به، “اختيارات من شعر ابن قلاقس”، “مختار ديوان ابن الرومي”، “مختار ديوان ابن سناء الملك” (المتوفی 608 هجرية)، “السبعة السيارة”، “كتاب خبز الشعير” (في السرقات الشعرية من شعره هو ومن غير شعره، جمع فيه كل ما سرق منه تلميذه الصفدي أو عارضه به)، “مطلع الفوائد ومجمع الفرائد”، “سجع المطوّق”، “زهر المنثور” (في الترسّل)، “رسالة المفاخرة بين السيف والقلم”، ننشر منها هنا هذا المقطع على لسان القلم يردُّ فيه على السيف:
“بسم اللّه الرحمن الرحيم- «ن واَلْقَلَمِ وما يَسْطُرُونَ، ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ» – ثم الحمد للّه «الذي علّم بالقلم» وشرَّفه بالقسم… أما بعد، فإن القلم منار الدين والدنيا، وقصبة سباق ذوي الدرجة العليا، ومفتاح باب اليمن المُجرَّب إذا أعيا… به رقم اللّه الكتاب الذي «لا يَأْتِيهِ اَلْباطِلُ» وسنَّة نبيَّه صلَّى اللّه عليه [وآله] وسلّم التي تهذّب الخواطر الخواطل. فبينه وبين من يفاخره الكتاب والسنّة، وحسبه ما جرى على يده الشريفة من منّة،…أتفاخرني وأنا للوصلِ وأنت للقطعِ، وأنا للعطاءِ وأنت للمنعِ، وأنا للصُّلح وأنت للضِّراب، وأنا للعمارة وأنت للخراب.. أعلى مثلي يشقُّ القول ويرفعُ الصَّوت والصول، وأنا ذو اللفظ المكين، وأنت ممن دخل تحت قوله تعالى: (أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين). فقد تعدَّيتَ حدَّك: وطلبتَ ما لم تبلغ به جهدك هيهات أنا القائمُ بمصالح الدول وأنت في الغمد طريح، والمتعب في تمهيدها وأنت غافلٌ مستريحٌ والسَّاعي في تدبير حال القوم، والمغني لنفعهم العمر، إذا كان نفعك يوما أو بعض يوم، فاقطع عنك أسباب المُفاخرة، واستر أنيابك عند المُكاشرة فما يحسن بالصَّامت محاورة المفصح، والله يعلم المفسد من المصلح.
فعند ذلك نهض السيف عجلا، وتلمَّظ لسانه للقول مرتجلا، وقال:بسم اللّه الرحمن الرحيم- «وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ومَنافِعُ لِلنّاسِ، ولِيَعْلَمَ اَللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ورُسُلَهُ بِالْغَيْبِ؛ إِنَّ اَللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ». الحمد للّه الذي جعل الجنّة تحت ظلال السّيوف، وشرع حدَّها بيد (أهل الطاعة على أهل) العصيان فأغصَّتهم بماء الحتوف، وشيّد بها مراتب «الذين يقاتلون في سبيله صفّا كأنهم بنيان مرصوص» وعقد مرصوف… أما بعد، فإنَّ السيف زند لحقِّ القويِّ وزنده الوريّ؛ به أظهر اللّه الإسلام”..
وله أيضًا “رسالة المفاخرة بين الورد والنرجس”، “حظيرة الأنس في حضرة القدس” (وصف رحلته الى بيت المقدس)، ديوان “خطب منبرية”، “مطلع الفرائد”، “سلوك دول الملوك”، “فرائد السلوك في مصايد الملوك” (وهي أرجوزة في وصف رحلة صيد، وعدد أبياتها مئة وسبعة وستين بيتا)، «ألحان السواجع»، “المأكول المذموم”.