أحدث الحكايا

أحمد عبد المنعم يحكي: اللص وكلاب كل الأزمنة.. الحكاية من جديد

فى 3 مارس 1960، تصدرت جريدة الأهرام مانشيتات تشير إلى السفاح الجديد، تلك القصة التي ستلفت الأنظار وتسرق الانتباه لأسابيع لاحقة، “سارق فيلا أمير الشعراء يهرب من السجن ويطلق الرصاص على أربعة”، “سافر إلى الإسكندرية ليقتل محاميًا فلم يجده وأطلق الرصاص على مهندس”، “تنكر في زي ضابط ليطارد المحامي في القاهرة فقتل بواب المنزل وحاول قتل السائق والطباخ.”

بطل الواقعة الشهيرة هو محمود أمين سليمان، ذلك الاسم الذى صار أشهر من نجوم السينما والغناء فى مطلع الستينيات، وتابعه المصريون أكثر من متابعتهم لعبد الحليم أو عبد الناصر نفسه، ولم يكن نجيب محفوظ مختلفًا فى ذلك عن جموع الشعب المتلهفة لأخبار السفاح، بل إنه كان أكثر تعمقًا فى تحليل شخصيته وتتبع خطاه والبحث وراء خباياه. بات سليمان بطلًا شعبيًا فى وجدان المصريين، ونسجوا من حوله القصص والأساطير، كل يوم قصة جديدة وبطولة أكبر، مثل اتصاله بعبد الناصر وعرض خدماته عليه للتخلص من أعدائه الإقليميين.

السفاح محمود أمين سليمان

 

كتب أحمد فؤاد نجم فى سيرته الذاتية المعنونة (الفاجومى) عن لقائه بسليمان فى حبسخانة عابدين، حيث حكى له سليمان عن عمليات السرقة التى قام بها، وأشهرها سرقة بالطو أم كلثوم الذى قدر حينها بثلاثين ألف جنيه، حكى له عن شقيق زوجته الذى طالما أخذ من أموال سرقاته ليلعب القمار ثم وشى به للشرطة على إثر خلاف بينهما، كما أعرب له عن شكه المتزايد بأن ثمة علاقة تجمع بين زوجته ومحاميه. بات نجم على علاقة طيبة مع سليمان وتشاركا فى السجائر والجلسات إلى أن عرف ذات يوم بنقله إلى القصر العينى على إثر خدعة قام بها تمهيدًا للهرب من السجن.

وعلى الرغم من تصوير الصحف له فى صورة القاتل المتعطش للدماء، إلا أن الوجدان الشعبي كان له حكم آخر فتعامل معه كأرسين لوبين أو روبين هود أو أدهم الشرقاوى.

ظلت الصحف تتابع قصة هروب سليمان ومطاردته يومًا بعد يوم، ونشرت الأهرام بعد أقل من أسبوع –طبقًا لتقرير كتبته يسرا الشرقاوى- أنه عاد إلى الظهور مرة أخرى فى الإسكندرية، دخل إحدى دور السينما ثم استقل سيارة أجرة إلى شارع بولينو فى قلب محرم بك، وفى منتصف الطريق عرض على سائق السيارة إحدى الصحف المنشورة فيها صورته وسأله “تعرف صورة مين ده؟”، وقبل أن يجيب السائق استطرد قائلًا “صورتى أنا”، ثم أخرج من جيبه خطابًا، سلمه للسائق وكلفه بتوصيله إلى مفتش المباحث فى قسم الشرطة، كتب سليمان الخطاب بقلم رصاص معاتبًا فيه رجال الشرطة لأنهم يتولون حماية الخونة، زوجته ومحاميه وصديقه المهندس، وأنه مصر كل الإصرار على الانتقام من خيانتهم له وقتلهم.

وعلى الرغم من تصوير الصحف له في صورة القاتل المتعطش للدماء، إلا أن الوجدان الشعبي كان له حكم آخر فتعامل معه كأرسين لوبين أو روبين هود أو أدهم الشرقاوى، اللص الذي يسرق الأغنياء ويقتل الخونة، وزاد تعاطفهم معه يومًا بعد يوم. يقول أحمد فؤاد نجم “بعد كده سمعنا بهرب محمود من القصر العيني بعد ما سطل النفر جبيص اللي هو عسكري الحراسة بتاعه لحد ما عماه، وبدأت سلسلة الحوادث والمطاردة التي ضخمتها الصحافة، وكنا في عنبر (ب) بنتابع أخباره بإعجاب وحماس، وكأننا في ملعب كورة، حتى السجانة ماكنوش بيقدروا يخفوا إعجابهم وتعاطفهم مع محمود في غيبة الظباط.”

مذكرات الشاعر أحمد فؤاد نجم «الفاجومي»

هواجس نجيب محفوظ

تصدرت أخبار السفاح مانشيتات الصحف بشكل شبه يومي، بدأ ذلك فى أعقاب الانتهاء من نشر حلقات رواية (أولاد حارتنا) على صفحات الأهرام، حينها نفض نجيب محفوظ عن نفسه آثار اللغط المثار حول الرواية السابقة وتلقف قصة السفاح لينسج رواية جديدة مستوحاة من سليمان وسيرته، تحوّل محمود أمين سليمان على يد محفوظ إلى (سعيد مهران) بعدما أضفى عليه بُعدًا عميقًا وروحًا تموج بالغضب وعقلًا مطاردًا بالأسئلة وبالبحث عن أجوبة معلقة فى السماء، حيث يقول في حوار مع (باريس ريفيو) ترجمه أحمد شافعي “حينما كتبت القصة، كتبت معها قصتي أنا، وإذا بقصة جريمة بسيطة تصبح تأملًا فلسفيًا، فقد حملت شخصية الرواية الرئيسية كل حيرتي وهواجسي.”

بعد أقل من عام ونصف العام من مقتل السفاح، تحديدًا في أغسطس 1961، بدأ نشر رواية (اللص والكلاب) بشكل مسلسل على صفحات عدد الجمعة الأسبوعي من الأهرام، كتب محفوظ عمله الجديد على شكل تقاطعات تتراوح بين مونولوج داخلي يلقيه سعيد مهران أو روحه فنسمع أصداءه، وبين فقرات تسرد قصته بصيغة الغائب، وأخرى يحدث فيها سعيد نفسه بصيغة المخاطب، وهكذا تنقل محفوظ بين الصيغ الثلاث فى تماوج مناسب لأجواء الراوية اللاهثة ولارتباك البطل وحيرته.

أولى حلقات رواية «اللص والكلاب» في جريدة الأهرام

 

يفتتح محفوظ روايته عند خروج سعيد مهران من السجن على إثر عفو عام فى ظل عيد الثورة، فيما بدا إشارة ضرورية ومبكرة لزمن الأحداث وخلفيتها السياسية، يتتبع الكاتب مسيرة سعيد وخطاه المتخبطة وتوهانه فى عالم لم يعد يعرفه جيدًا وسعيه المتلهف للانتقام من زوجته وتابعه اللذين حاكا مؤامرة للتخلص منه، قلب ممتلئ بالحنق وعين مشتعلة بالغضب من كل ما يحيطها من زيف وكذب وخداع، هاهو يرى من خانوه وهم ينعمون بحياة رغدة سعيدة، وهو ومن على شاكلته يعانون من العذاب بسبب هؤلاء الكلاب!

الأستاذ والشيخ

كان سعيد مهران لصًا بدافع الحاجة وفقط، مثل كثيرين، حتى احتضنه الطالب الجامعي الثوري المقيم في البيت الذى يحرسه، قال له إنه لا يرى عيبًا فيما يفعله، فالسرقة فعل مشروع في مواجهة الظلم والتفاوت الطبقي الذي استشرى في البلاد، هذا الطالب هو رؤوف علوان، الاسمان على وزن واحد، كأنهما كانا شخصًا واحدًا في يوم ما، بدا رؤوف مثقفًا ومتحدثًا لبقًا، فاستطاع إقناع سعيد بوجهة نظره حتى تبناها، وأضاف أن سرقاته يجب أن تكون منظمة وموجهة إلى الأغنياء، ليسترد بعضًا من حقه المسلوب أو ليصرخ في وجه المجتمع الظالم.

غير أن علوان تحوّل بعد الثورة إلى صحفى كبير، وانتقل إلى الطبقة التي طالما لعنها، فسكن في فيلا واسعة وبدّل قناعاته السابقة مع تغير الزمن وانقلب عليها، تخلى عن أفكاره وخانها مُدعيًا أن الزمن البائد قد انقشع وأن عصرًا جديدًا يبدأ، عصرًا لا مجال فيه للسرقة، لكن سعيدًا ينظر إلى رفيق الشباب المبكر، ويقول ساخرًا “ما أجمل أن ينصحنا الأغنياء بالفقر.”

يدفعنا تسلسل الأحداث إلى التساؤل، هل اللص هو المجرم الحقيقي أم أنه المجتمع؟ هل سعيد جانٍ أم مجني عليه؟ وتدفعني الرواية الآن وأنا أعيد قراءتها بعد أكثر من ستين عامًا من صدورها أن أتساءل كيف مازالت تلك الرواية معبرة عن مجتمعنا المشوه، بل إن الواقع بدا أكثر قسوة، توحشت الكلاب وزاد نباحها، بات صوتها يملأ الآذان ليل نهار، أما الفقراء والمهمشون والجوعى فزاد بؤسهم بؤسًا، ودفعت الظروف الضاغطة الكثيرين منهم إلى السرقة أو الذل أو الموت جوعًا، لا طريق رابع أمامهم.

رواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ

 

يقضى سعيد فترة هربه فى بيت (نور) التى تهيم به عشقًا وتسخر حياتها لمساعدته، هي ساقطة وهو لص، يجمعهما مستنقع واحد، غير أنهما يبدوان عبر رواية محفوظ أشرف وأنقى من هذا المجتمع، على الأقل بوضوحهما، يلتقيان فى قهوة (طرزان) حيث تصطحب نور زبائنها السكارى، فيسألها عن عنوانها وما يلبث أن يذهب ليقيم معها بهذا البيت الذي يطل على المقابر، وكأنه على حافة الحياة، فى آخر هوامشها، وكأنهما نصف أحياء ونصف موتى.

يذهب سعيد مهران للبحث عن ابنته، فلا تتعرف عليه وتنكره، ويلجأ إلى معلمه وأستاذه رؤوف علوان، فيجد شخصًا آخر لا يعرفه وينكر كل منهما الآخر، أما الوحيد –غير نور وطرزان- الذى يرحب بسعيد ويتقبله هو الشيخ على الجنيدي، الشيخ الذي طالما كان والد سعيد من مريديه، وعكف على حضور مجالسه واصطحاب سعيد إليها فى طفولته ومراهقته، يذهب سعيد إليه بحثًا عن إجابات للأسئلة التى تؤرقه، بحثًا عن المساعدة والأمان، غير أن كلا منهما يبدو فى وادٍ، لا يفقه سعيد أقوال الشيخ الهادئة العميقة المتسامحة، لا يستسيغها ويجدها بعيدة عن واقعه المتأزم، المغرق في المادية، الخالي من أية روحانيات. يبدو الشيخ رافضًا للحياة بشكلها الواقع، يعيش منفصلًا عن هذا العالم الجاف القاسي، كأنه الجبلاوي في عزلته.

حمّل محفوظ قصة محمود أمين سليمان برؤاه السياسية والاجتماعية والميتافزيقية، دون أن يفقد الطابع البوليسي المشوق للرواية، فباتت ذات طبقات عدة للتلقي كعادة العديد من رواياته، دون مباشرة فجة ودون غموض

كان والد سعيد مريدًا مخلصًا لهذا الشيخ، يجد عنده أجوبة لكل أسئلته، كان هذا في الماضي، فى عهد بعيد طري، وصوت الله يتردد فى أعماق الصدور، أما الآن، فى واقعنا هذا، فسعيد يبدو غير قادر على التواصل معه، فـ”المسدس أهم من الرغيف، المسدس أهم من حلقة الذكر التى تجري إليها وراء أبيك.”

تأثر سعيد برؤوف علوان أكثر من تأثره بالشيخ، وكانت رغبته في الانتقام منه لتخليه عنه وعن مبادئه أكبر من أي قوة أخرى، فبدا أن سعيد –على خلاف السفاح الحقيقي-  لا يبحث عن الانتقام من الخيانة الحسية فقط، بل الفكرية أيضا، إلا أن كل محاولاته للانتقام من رؤوف أو من عليش أو زوجته نبوية تبوء بالفشل، تطيش رصاصاته ويسقط بدلًا منهم المزيد والمزيد من الأبرياء، وكأنهم ضمن ضحاياهم أيضًا، ضحايا بالصدفة في هذه المرة.

قتل الحلم المجنون

يتطلع سعيد طويلًا إلى القرافة التي تطل عليها نافذته وكأنه ينظر إلى نهايته المحتومة، متمتمًا أنها مكان الصدق الوحيد، “مدينة الصمت والحقيقة، ملتقى النجاح والفشل، القاتل والقتيل، مجمع اللصوص والشرطة حيث يرقدون جنبًا إلى جنب فى سلام لأول وآخر مرة.”

يبدو هذا المجتمع محكومًا عليه بالغرق في الظلم والانتصار للصوص أكبر، للخونة وللكلاب، في ظل “حكومة تتحيز لبعض اللصوص دون البعض”. قد يقول أحدنا إن الأمل فى سناء، الطفلة الصغيرة، ابنة سعيد البريئة، ولكن كيف يكون هذا وهي تتربى بين أيادي عليش ونبوية، بين أيادي الكلاب؟

حمّل محفوظ قصة محمود أمين سليمان برؤاه السياسية والاجتماعية والميتافزيقية، دون أن يفقد الطابع البوليسي المشوق للرواية، فباتت ذات طبقات عدة للتلقي كعادة العديد من رواياته، دون مباشرة فجة ودون غموض، وبدا مشهد سعيد وهو ينظر نحو القرافة ويتخيل محاكمته وترافعه أمام القضاة ذروة الكشف في الرواية حيث يقول سعيد “إن من يقتلني إنما يقتل الملايين، أنا الحلم والأمل وفدية الجبناء، وأنا المثل والعزاء والدمع الذى يفضح صاحبه، القول بأننى مجنون ينبغي أن يشمل كافة العاطفيين، فادرسوا أسباب هذه الظاهرة الجنونية واحكموا بما شئتم.”

الطبعة الأحدث من رواية «اللص والكلاب»

سعيد مهران لم يمت

بات (سعيد مهران) اسمًا رمزيًا معبرًا عن صراع اجتماعى مستمر ومستعر، يزداد تأججه يومًا بعد آخر، حتى أن بعض الكتاب أشاروا للاسم ضمن أعمالهم الفنية مثلما فعل محمد حلمي هلال فى مسلسل (اختفاء سعيد مهران)، ومن قبله سيد حجاب عندما أشار إليه فى شعره أكثر من مرة، منها ما كتبه فى قصيدة (لبن العصفور):

وعيون بتصرخ صرخة مقلوبة

و (سعيد أبو مهران) بيتعذب

ناب العذاب فايت في أعصابه

قاسي كتير

لاكين غيه نابه

الأرض لسه بتطرح الحنضل

وقلبه بيصرخ صرخة مقلوبة

وللحكاية بقية..

عن أحمد عبد المنعم

قاص وروائى، صدرت له روايتا "رائحة مولانا" و"رسائل سبتمبر"، وثلاث مجموعات قصصية تحت عناوين "فى مواجهة شون كونرى" و"أحلام الدوبلير" و"قطط تعوي وكلاب تموء"، حصلت الثانية على جائزة أخبار الأدب، هذا بالإضافة إلى كتاب "صورة مع أنور وجدى". ينشر قصصًا ومقالات عن السينما والأدب فى مجلات ومواقع مصرية وعربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *