أحدث الحكايا

أحمد عبد المنعم يحكي: اللص وكلاب كل الأزمنة (2).. الحكاية على الشاشة

التفتت السينما وصانعوها إلى قصة السفاح فور إسدال الستار على فصولها، تقدم كل من فريد شوقي ومديحة يسري للرقابة بمعالجات لتناول قصته، غير أن محمد شعير يذكر فى كتابه “سيرة الرواية المحرمة” أن مدير الرقابة حينها محمد علي ناصف رفض التصريح بإنتاج مثل هذا الفيلم، كان رأيه أن هذا السفاح “مثل شاذ من المجتمع، مجرم آبق لا يحق أن نمجد حياته أو نعرضها للناس.”

إلا أن المخرج كمال الشيخ عاد لاحقًا وعمل مع صبري عزت على كتابة سيناريو مأخوذ عن رواية “اللص والكلاب”. وافقت الرقابة في هذه المرة، ربما أكسبت الرواية واسم نجيب محفوظ ثقلًا للطلب، وربما رأى فيها الرقباء بعدًا أعمق يستحق العرض السينمائي.

شادية وشكري سرحان في “اللص والكلاب”

على الرغم مما هو معروف من أن محفوظ غالبًا ما يبتعد عن عملية تحويل رواياته إلى أفلام، إلا أننا قد نعتبره مشاركًا جزئيًا فى صناعة “اللص والكلاب” ولو كمستشار أو ناصح، إلى أن خرج السيناريو الأخير بشكل متقن ومتماسك ومخلص إلى الرواية إلى حد بعيد

الشيخ يخرج من عباءة هيتشكوك

كان الشيخ معروفًا بأفلامه البوليسية فى فترة الخمسينيات، وكذلك كان مغرمًا بالبحث عن قصص حقيقية يستند إليها فى أفلامه، ولكنه لم يتعامل قبل “اللص والكلاب” مع النصوص الأدبية، ولذا بدا هذا الفيلم كنقطة تحول مفصلية فى سيرته السينمائية، لجأ بعدها إلى العديد من الروايات وارتفعت قيمة ما يقدمه من رؤى وأفكار، فأضافت إلى ايقاعه المشدود وفنون سينماه المزيد من العمق والأهمية.

لجأ كمال الشيخ إلى محفوظ لاستطلاع رأيه فى كل تغيير يود إجراءه على الأصل الأدبي، أبدى الأديب موافقته أحيانًا وتحفظ فى أحيان أخرى، وعلى الرغم مما هو معروف من أن محفوظ غالبًا ما يبتعد عن عملية تحويل رواياته إلى أفلام، إلا أننا قد نعتبره مشاركًا جزئيًا فى صناعة (اللص والكلاب) ولو كمستشار أو ناصح، إلى أن خرج السيناريو الأخير بشكل متقن ومتماسك ومخلص إلى الرواية إلى حد بعيد، حتى أنهم استعانوا بالكثير من الجمل الحوارية الواردة بها، بالطبع جرت عدة تغييرات، بعضها كان ضروريًا بسبب اعتماد الرواية على مجموعة من المونولوجات الداخلية، مما دفع صناع الفيلم إلى إعادة ترتيب الفيلم زمنيًا، دون اللجوء إلى (الفلاش باك)، مع إضافة فصل عن فترة السجن وهو ما لم تتطرق إليه الرواية، كما تعرض الفيلم لبعض التفاصيل الحقيقية التى وقعت فى حادثة محمود أمين سليمان ولم ترد فى رواية محفوظ، كادعاء بعض الفنانات أن السفاح هددهن وطلب منهن مبالغ من المال.

شادية وشكري سرحان وكمال الشيخ في كواليس “اللص والكلاب”

استطاع كمال الشيخ أن يقدم قطعة فنية ببصمته المميزة، أعاد اكتشاف شادية فى قالب جديد، وأمسك بخيوط فيلمه بكل إتقان، بداية من ضبطه المعتاد للإيقاع اللاهث، مرورًا بالعديد من التركيبات البصرية اللافتة، وصولًا إلى مشاهد أيقونية، كمشهد المحاكمة التى يتخيلها سعيد مهران لنفسه، حيث نرى سعيد واقفًا خلف أعمدة النافذة التى تتحول مع تغير الإضاءة إلى أسوار حبس وفجأة يجد سعيد نفسه فى محكمة منعقدة فى فضاء أبيض واسع، وفى مواجهته ثلاثة قضاة على منصة عالية فى خلاء وكأنه السماء، يترافع ويدافع عن نفسه ولكن دون أن يفتح فمه، عبر صوت داخلى ينبثق من قلبه. وكذلك لا ننسى مشهد لجوئه الأخير إلى الشيخ على الجنيدي، حيث يهرع إلى جلسته ويسقط على ركبتيه راكعًا أمامه متوسلًا “مولاى، احميني”، بينما تتردد في الخلفية أصوات المريدين وهم يغنون أبياتا للشاعر الصوفي ابن الفارض، نقلها عنه محفوظ فى نص روايته، ومنها إلى الفيلم:

 واحسرتي، ضاع الزمان، ولم أفُز     منكم، أهيل مودتي بلقاءِ

وكفى غرامًا أن أبِيتَ مُتيَّمًا         شوقي أمامي والقضاءُ ورائي

  عُرض الفيلم فى نوفمبر 1962 بسينمات ميامي وريتس والحرية، واستطاع نقل الصورة التي رسمها محفوظ في روايته إلى الشاشات والتعبير عن أبعادها وتساؤلاتها الفلسفية، ربما لم يعب الفيلم إلا بعض المبالغة في أداء شكرى سرحان.

بوستر فيلم “اللص والكلاب” في السينمات

طموح خائب

لم يتوقف اهتمام السينما بقصة السفاح عند هذا الحد، فخرج فيلمان لاحقان بتيمة متشابهة وصبغة كوميدية عن شخص مهووس بالأضواء أو باحث عن الشهرة، حتى تبهره الشعبية التى نالها السفاح عبر أخباره المتصدرة للصحف والمجلات، فيلجأ إلى نسج أسطورة حول نفسه وإثارة شكوك الشرطة بأنه السفاح المقصود ليجذب الاهتمام ويحصد شهرته وتنتشر صوره.

كان الفيلم الأول من إنتاج عام 1964 باسم “المغامرة الكبرى” وقام ببطولته فريد شوقى وحسن يوسف، أما الفيلم الثاني والأكثر شهرة فهو “سفاح النساء” لفؤاد المهندس وشويكار والذى عرض عام 1970.

بوستر فيلم “سفاح النساء”
بوستر فيلم “المغامرة الكبرى”

عادت السينما في مطلع التسعينيات للالتفات إلى رواية “اللص والكلاب” مرة أخرى، وكأن ثمة تغير اجتماعي وسياسي ملحوظ دفع صناع السينما لإعادة إحياء الرواية واستعادة رمزيتها وطرحها بشكل معاصر، تكرر هذا في فيلمين، أولهما بعنوان “ليل وخونة” والذى بدأ عرضه فى الأيام الأولى من عام 1990، حيث عمل القائمون على الفيلم على تطوير الرواية لتواكب زمن الثمانينيات ومتغيرات ما بعد الانفتاح، واستطاع أشرف فهمي أن يجتذب عددًا كبيرًا من النجوم لفيلمه الجديد، على رأسهم نور الشريف في الدور الموازي لسعيد مهران، وفى الدور المقابل حضر محمود ياسين، إضافة إلى صلاح السعدني وصفية العمري وشهيرة.

فى هذه النسخة تطرأ العديد من المتغيرات على سمات أبطال الرواية، رؤوف علوان لم يعد صحفيًا متنفذًا، بل صار محاميًا، كما كان غريم محمود أمين سليمان الحقيقي، يستغل هذا المحامي صداقته أو أستذته للص كي يسرق له الأخير المستندات والأوراق التى يخوض بها قضاياه ويبتز بها ضحاياه ليتكسب من ورائهم الملايين، فتحولت الشخصية هنا من رجل متلون وخائن لمبادئه ومستفيد من السلطة كما بدا رؤوف علوان الأصلي إلى لص ونصاب كامل، فج وواضح، أما شخصية (نور) الساقطة فنراها فى المشاهد الأخيرة من الفيلم وهي تمتلك سيارة ومنزل بعد احترافها للبغاء، ليست مقهورة مثلما كانت فتيات الليل فى الستينيات، يشير كاتب الفيلم أحمد صالح بوضوح إلى أن هذه هى آثار الانفتاح وانقلاب الموازين، العاهرات تغتني، اللصوص الصغار يُحبسون أما الكبار فيتلقون الدعم.

بوستر فيلم “ليل وخونة”

 

يضيف الفيلم شخصية جديدة للأحداث أداها شوقي شامخ، وهو صديق مخلص للبطل، فقد أطرافه السفلية فى حرب اكتوبر ويحيا فى فقر مدقع على هامش الحياة، وحيد دون أهل أو أصدقاء، لا يهتم به أو يذكره أحد، في مزيد من النقد السياسى لسلطات ما بعد الحرب. أما الشيخ علي فتم تهميشه في هذا العمل ولم يظهر سوى في مشهدين متتاليين دون أي دور حقيقي، بل إنه بدا فى شكل كاريكاتيري، هل كان هذا مقصودًا؟ لا أظن، غير أنه في كل الأحوال ظهر كرسم مشوه.

تبدو الفكرة العامة جيدة، غير أن الفيلم بدا وكأنه مُعد على عجل، بقليل من الإبداع، فجاءت المحاولة الطموح خائبة ولم تحقق هدفها المرتجى، ساهمت المبالغات التي طالت كل عناصر الفيلم فى إفساده، تلك المبالغات التى بلغت ذروتها عند محمود ياسين ولم يفلت من فخها إلا صلاح السعدني.

على الرغم من الخطوط التى تم إضافتها للفيلم، إلا أنه لا يمكن إنكار أن (الهروب) هو نسخة حديثة من (اللص والكلاب)، وأن (منتصر) هو سعيد مهران فى سنين ما بعد الانفتاح.

 

منتصر وسعيد مهران

“مطارد وسيظل مطاردًا إلى آخر لحظة من حياته، وحيد عليه أن يحذر حتى صورته فى المرآة، حى بلا حياة، جثة محنطة، سيجرى من جحر إلى جحر كفأر يتهدده السم والقطط وهراوات المشمئزين، كل هذا وأعداؤه يمرحون.”

 

هروب عاطف الطيب

فى العام اللاحق، 1991، عُرض فيلم آخر شديد الشبه بالرواية نفسها، وإن لم يُنسب إليها بشكل صريح، وهو فيلم “الهروب” لعاطف الطيب. وعلى الرغم من الخطوط التى تم إضافتها للفيلم، إلا أنه لا يمكن إنكار أن “الهروب” هو نسخة حديثة من “اللص والكلاب”، وأن (منتصر) هو سعيد مهران فى سنين ما بعد الانفتاح. تذكر تيترات الفيلم أنه من تأليف مصطفى محرم، إلا أن بشير الديك سيصرح لاحقًا أنه أعاد كتابة الفيلم بناء على طلب من عاطف الطيب، وأن السيناريو الذى تم تنفيذه هو ما كتبه بشير.

بوستر فيلم الهروب

 

يقول مصطفى محرم فى مذكراته أن الفيلم مر على كل من عادل إمام ونور الشريف الذى اعتذر لإصابته بانزلاق غضروفي، بينما كان صلاح السعدني مرشحًا لدور الضابط، فى النهاية استقر الفيلم عند أحمد زكي، وكعادته أدى دوره ببراعة، فيظل صوته يتردد فى خيالك وهو يقول “أمي يا سالم”، غير أن اللافت للنظر حقًا في هذا الفيلم هو التألق الواضح لباقي عناصر الفيلم، فهو بالتأكيد الدور الأفضل في مسيرة هالة صدقي المتواضعة، كما أفرد الفيلم مساحات واسعة لعبد العزيز مخيون وأبو بكر عزت ومحمد وفيق وحسن حسني، تألقوا جميعًا وأبرزوا مواهبهم التى طالما ظلمتها الأفلام وكبتها المخرجون.

وفي خلفية كل هذا الإبداع موسيقى تلمس القلب. اجتمع عاطف الطيب بمودي الإمام وأطلعه على موال نواح تراثي وطلب منه أن ينسج منه تيمة موسيقية للفيلم، كان اختيارًا موفقًا من الطيب، اختياره للموال واختياره لمودي، ثم أضاف الإمام تيمة أخرى بديعة ومعبرة بشجن عن الانكسار الذى أصاب قلب منتصر وهز روحه.

ومثله مثل “ليل وخونة” يعرض الفيلم قصة سعيد مهران ذاتها بعد أن يبدّل فى تفاصيلها لتلائم الثمانينيات ومطلع التسعينيات ومتغيراتهما، فنرى منتصر يعمل في (مكتب سفريات) يقدم الأوراق اللازمة للعمل في الخليج إلى العمال والفقراء المتهافتين بحثًا عن الفرصة وحلم الخلاص مقابل آلاف الجنيهات، ولكن بعض هذه الأوراق مزورة لزيادة مكاسب المكتب، كما أن صاحب المكتب مرتبط بعلاقة عمل مع (مدام نجوان) التي تقوم بتصدير عاهرات إلى الخارج، وبذلك نرصد اختلاف وسائل السرقة والدعارة بعد مرور السنين. ومنتصر ليس منزهًا عن هذا بشكل كامل، ليس مثاليًا تمامًا، حيث تورط في بعض عمليات النصب هذه، غير أنه مازال محتفظًا بإنسانيته ووفائه لأصوله، فيرفض أن تزوّر الأوراق الخاصة بأهل قريته، ويتمسك بالمطالبة بتأشيرات وعقود حقيقية لهم. يتأجج الصراع بينه وبين صاحب المكتب، فيتآمر الأخير مع أحد أصدقاء منتصر ويلقيا به في السجن، بينما تهرب زوجته خارج البلاد. يخوض منتصر نفس رحلة سعيد مهران ومشواره الطويل بكل ما فيه من شجاعة ونخوة وتهور وخيبة.

أحمد زكي وهالة صدقي في مشهد من فيلم “الهروب”

 

خط إضافي

يرسم الفيلم خطًا إضافيًا للرواية وهو خط تعامل الشرطة وأجهزتها مع قضية منتصر، وكيف أنها تستغل الإعلام والصحافة لتبرز قضيته تارة وتخفيها تارة أخرى، تبعًا لتطور الأحداث، فكما حاولت الصحافة –عبر رؤوف علوان– أن تقضي على سعيد مهران، يتكرر الشيء نفسه مع منتصر ولكن بأغراض أخرى كالمداراة على أحداث أكبر مثل هروب المرأة الحديدية أو الفشل فى السيطرة على تجاوزات الجماعة الإسلامية.

لم يقتصر التشابه بين الفيلم والرواية على شخصية البطل ومسار الأحداث، بل إن اختيار الأسماء ذات المغزى كان حاضرًا أيضا، فـ(نور) صارت (صباح)، وحملت أسماء الشخصيتين الأساسيتين، المتهم والضابط، دلالات رمزية، فالضابط (سالم) والمتهم (منتصر)، رغم انهزامه فهو منتصر.

في النهاية لا مجال للمقارنة بين فيلمي أشرف فهمى وعاطف الطيب على مستوى اللمسة الفنية والصدق السينمائي والإتقان، ولذا مازال “الهروب” حاضرًا في الذاكرة بينما نُسيَ الأول أو كاد على الرغم من احتشاده بالنجوم.

أحمد زكي من فيلم “الهروب”

اللص والكلاب.. هنا والآن

والآن، بعد كل هذه الأعوام، ومع تزايد حوادث العنف على خلفيات اجتماعية متعددة، ألسنا في حاجة إلى النظر إلى واقعنا مرة أخرى لندرك كيف تطور الكلاب وتوحشوا وتغيرت سيماهم عبر العصور، بينما يفقد سعيد مهران إنسانيته يومًا بعد يوم، يفقد بوصلته ويزيد توهانه ويتحول إلى مجرم حقيقي وليس أدهم الشرقاوي أو روبين هود بما يتعرض له من هوان وإذلال وإفقار وتجهيل.

رواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ

عن أحمد عبد المنعم

قاص وروائى، صدرت له روايتا "رائحة مولانا" و"رسائل سبتمبر"، وثلاث مجموعات قصصية تحت عناوين "فى مواجهة شون كونرى" و"أحلام الدوبلير" و"قطط تعوي وكلاب تموء"، حصلت الثانية على جائزة أخبار الأدب، هذا بالإضافة إلى كتاب "صورة مع أنور وجدى". ينشر قصصًا ومقالات عن السينما والأدب فى مجلات ومواقع مصرية وعربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *