شهرزاد
وبما إن السيد رئيس التحرير قد قرأ نصف حكايتي مع نزار قباني وأثني عليها ثناءً كبيراً، فإنني وفاءً بالعهد أستكمل ما جري مع الشاعر الكبير الذي وقع في غرام بلقيس الراوي، تلك الفتاة العراقية الممشوقة التي حضرت أمسية شعرية له فخطفت قلبه من دون أن يشعر!
اقرأ الجزء من الحكاية: أشرف عبد الشافي يحكي: حكاية “شهرزاد” نزار قباني التي أتقنت اللعبة (1)
وإذا به يهيم بها عشقا وهو الذي فتن النساء ولم تفتن قلبه امرأة قبل بلقيس التي أخذت من ملكة سبأ بهاء الاسم ومهابة الجسد وعرش الخيال، وقرر الدبلوماسي المرموق أن يتقدم لخطبتها، لكن الدراما العظيمة رفضت تلك القصة البليدة، ووقفت عائلة الراوي ضد (نزار) رافضةً فكرة ارتباط إحدى بنات العائلة بشاعر النهود والأفخاذ!
“ويا داهية دقي كما يقولون”، فالحب اشتعل والشاعر الكبير على مشارف معركة لم يحسب لها حساب، وعاد مهزوما مكسور الوجدان أمام عناد القبيلة ! وكانت الهزيمة أكبر من القصائد وأكبر من كل الشهرة التي تحوطه من المشرق إلى المغرب، فأصيب باكتئاب وهو شاعر الحب والبهجة، وركب الطائرة إلى أسبانيا هربا من الضغوط، وهناك مع رائحة ليالي الأندلس ونساء قرطبة وعطور الليالي التاريخية تحولت بلقيس إلى أسطورة الهوى، اشتعل الحب كتجربة حقيقة يدخلها الشاعر الكبير ويعيشها:
“.. وخلال هذه السنوات الطويلة كنت أكتب لبلقيس، وكانت تكتب لي.. رغم أن بريد القبيلة كان مراقبا”.
بتلك العبارة البسيطة “بريد القبيلة كان مراقبا” اختصر نزار مأساته وراح كل ليلة يكتوي بلوعة الفراق ومتعة الخيال، فكتب أروع قصائده في تلك الفترة، وكان ديوان “الرسم بالكلمات” شاهداً على حضور بلقيس حتى في غيابها:
حبك ينمو وحده
كما الزهور تزهر
كما بقلب الخوخ.. يجري السكر
حبك.. كالهواء يا حبيبتى
واشتعلت القصائد
تمددت بلقيس في حياة نزار واشتعلت القصائد وعرف الأصدقاء مأساة شاعرهم بعد أن ظنوها قصة عابرة وتمضي، وظلت صباحات تمضي والهوي باق لا يتزحزح بل يزيد ويكبر:
إذا مر يوم ولم أتذكر
به أن أقول: صباحك سكر
ورحتُ أخطّ كطفل صغير
كلاماً غريباً على وجه دفتر
فلا تضجري من ذهولي وصمتى
ولا تحسبي أن شيئاً تغير
فحين أنا. لا أقول: أحبُّ
فمعناه أني أُحبك أكثر
تواصلت المراسيل بينهما حتى جاء ذلك المساء الذي تلقى فيه نزار دعوة لإلقاء الشعر في بغداد. إنه قدر الشاعر ونصيب محبي الشعر الذين سيقرأون بعد سنين طويلة أسطورة هذا الحب، جاء نزار إلى بغداد وكانت بلقيس هي العراق وهي القصيدة:
مرحبا يا عراق.. جئت أغنيك
وبعض من الغناء بكاء
أكل الحزن من حشاشة قلبي
والبقايا تقاسمتها النساء!
وفد رسمي
واهتزت بغداد ونساؤها ورجالها وتعاطفوا مع الشاعر المسكين الذي أصبحت قصته الرومانسية حديث البيوت والمقاهي، وتدخل رجال السياسة لإطفاء لهيب العشق وحل القضية الغرامية، ودعا وزير الشباب آنذاك شفيق الكمالي إلى تشكيل وفد من حزب البعث للذهاب إلى بيت “الراوي ” لطلب يد بلقيس، وبدا الأمر وكأنه مجلس عربي للتصالح بين الحب والقبيلة، ولانت القلوب القاسية ونجحت المفاوضات الغرامية والرسمية في إتمام القصة وتزوج “نزار ” المرأة التي كتب لها وعنها وخلدها في القصائد، وهي التي تحملت جنونه بالنساء والشتاء والهوى وفتحت صدرها له كطفل ينام نهاية المطاف بين ذراعيها معترفا بالاستسلام التام:
أشهد أن لا امراة
أتقنت اللعبة إلا أنتِ
واحتملت حماقتي
عشرة أعوام كما احتملتِ
أشهد أن لا امراة
قد جعلت طفولتي
تمتد خمسين عاما.. إلا أنتِ
وكما يحدث في الأساطير الإغريقية انتهت القصة مبكرا نهاية مفجعة ومؤلمة إذ خطف الموت بلقيس! فجأة.. أصبح الكون بلا بلقيس، وانفجر الحزن والغضب في قلب الشاعر العاشق، فأجمل ملكات الأرض ذهبت ضحية الصراعات العربية، كانت بلقيس في بيروت وقت اشتعال الحرب الأهلية ووقع انفجار هائل بمقر السفارة العراقية وراحت بلقيس تحت الأنقاض في 15 ديسمبر 1981، ونزفت قصائد نزار حرقة وألماً:
شكرًا لكم
شكرًا لكم
فحبيبتي قُتلت..
وصار بوسعكم
أن تشربوا كأسًا على قبر الشهيدة
وقصيدتي اغتيلت..
وهل من أمـةٍ في الأرض -إلا نحن- تغتال القصيدة؟
بلقيس.. كانت
أجمل الملكات في تاريخ بابلْ
بلقيس.. كانت
أطول النخلات في أرض العراق
كانت إذا تمشي
ترافقها طواويسٌ
وتتبعها أيائلْ
بلقيس.. يا وجعي..
ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل
قصيدة “بلقيس” بصوت نزار قباني
وتحولت حياته إلى بلقيس، كل شىء يذكره بها، وكل مكان هي حاضرة فيه:
تذبحني التفاصيل الصغيرة في علاقتنا
وتجلدني الدقائق والثواني
فلكل دبوس صغير.. قصة
ولكل عقد من عقودك قصتان
حتي ملاقط شعرك الذهبي
تغمرني، كعادتها، بأمطار الحنان
لو تدرين ما وجع المكان
في كل ركن.. أنت حائمة كعصفور
فهناك كنت تدخنين
هناك.. كنت تطالعين
هناك.. كنت كنخلة تتمشطين
اقرأو الفاتحة على روح المرأة المُلهمة “بلقيس”، وترحموا على شاعر عاش للهوى ومات به.
