«جرعة واحدة تخفف الألم لمدة 12 ساعة، أي أكثر من ضعف تأثير الأدوية العادية».. هذه كانت العبارة التسويقية الرئيسية التي أطلقتها شركة الأدوية الأمريكية “بيردو فارما” مع طرح عقار «أوكسيكونتن» عام 1996. هل هو وهم أم سحر؟ ولو كان سحرا فهل ينقلب على الساحر؟ إنها حكاية عقار «أوكسيكونتن».
قالت الشركة للأطباء وقتها إن المرضى لن يضطروا بعد الآن إلى الاستيقاظ في منتصف الليل لتناول حبوبهم، فقرص واحد من “الأوكسيكونتن” في الصباح وآخر قبل النوم من شأنه أن يوفر “تحكمًا سلسًا ومستدامًا في الألم طوال النهار وطوال الليل”. وبفضل هذا الوعد، أصبح “الأوكسيكونتن” مسكن الألم الأكثر مبيعًا في أمريكا، وحصدت بيردو عوائد مالية ضخمة تخطت الـ 31 مليار دولار.
قد تبدو هذه قصة نجاح، أو قصة ملهمة في تحدي الألم، خاصة مع تنامي شعبية العقار الذي تم تسويقه على أنه مادة أفيونية آمنة “لا تسبب الإدمان”، لكن حقيقة الأمر كانت عكس ذلك تمامًا.
حقائق خفية
النجاح المذهل لـ”أوكسيكونتن” يخفي مشكلة أساسية: الدواء يختفي مبكرا لدى كثير من الناس -وفقا لتحقيق أجرته صحيفة “لوس أنجلوس تايمز”- الأوكسيكونتن هو المعادل الكيميائي للهيروين، وعندما لا يستمر، يمكن أن يعاني المرضى من أعراض انسحاب مؤلمة، بما في ذلك الرغبة الشديدة في تعاطي الدواء.
تقدم هذه المشكلة رؤية واضحة حول السبب وراء إدمان العديد من الأشخاص “أوكسيكونتن”، وهو أحد أكثر المستحضرات الصيدلانية تعاطيًا في تاريخ الولايات المتحدة. ووفقًا للمسح الوطني الذي أجرته الحكومة الفيدرالية حول استخدام المخدرات والصحة عام 2016 جاء فيه أنه على مدار العشرين عامًا السابقة له، أساء أكثر من 7 ملايين أمريكي استخدام “أوكسيكونتن”، وأنه يُلقى باللوم على هذا الدواء في انتشار وباء المواد الأفيونية الموصوفة طبيًا في الولايات المتحدة الأمريكية، وتوفي أكثر من 190 ألف شخص بسبب جرعات زائدة من الأوكسيكونتن ومسكنات الألم الأخرى منذ عام 1999.
هذه الدراما الإنسانية تحولت إلى قضايا شغلت الرأي العام الأمريكي بتفاصيل كثيرة بين صراع رأس المال والسلطة والفساد والإنسانية، وهو ما تناوله مسلسل “نتفليكس” الأحدث بعنوان “Painkiller”، الصادر في 10 أغسطس الماضي، وتصدر قائمة الأكثر مشاهدة على المنصة عالميًا، وكذلك على القائمة المصرية.
“Painkiller”
المسلسل عبارة عن دراما توثيقية، مكونة من 6 حلقات نجحت في لفت الأنظار إلى واحدة من أبرز المشكلات في القطاع الطبي للولايات المتحدة طوال العقدين الماضيين. في بداية كل حلقة، وبدلاً من عبارة إخلاء المسؤولية من خلال نص يظهر على الشاشة يوضح أن بعض جوانب العرض خيالية، قام صناع العمل بالاستعانة بأهالي فقدوا أطفالهم بسبب عقار “أوكسيكونتن” تحديدًا، فيروون قصصهم عن الشباب الذين قُتلوا في مقتبل حياتهم، غالبًا بعد سنوات من الإدمان، بدموع حقيقية تعكس حزنًا عميقًا وتمهد الطريق لواحدة من أكثر القصص الأمريكية مأساوية في العقود القليلة الماضية.
يبدأ المسلسل بشخصية “إيدي فلاورز” (تلعب دورها أوزو أدوبا)، وهي محققة سابقة تعمل في مكتب المدعي العام الأمريكي في فيرجينيا، والتي تُطلب شهادتها في واشنطن بعدما أُغلقت القضية التي كانت تعمل عليها، والمعنية بالبحث عن مدى انتشار وخطورة عقار “أوكسيكونتن”. وتعد هي الراوي الأساسي للقصة التي تبدأ من عائلة ساكلر، صاحبة شركة بيردو للأدوية، وبداية فكرة تصنيع عقار جديد، وتنامي فكرة إيجاد معادل كميائي للهيروين يباع كعقار آمن، ما تسبب في خسائر بشرية واجتماعية لا حصر لها نجح المسلسل في الإشارة إليها وتوثيقها، بينما عانى من خلل درامي واضح في الأحداث.
شخصيات مركزية
على الرغم من أن “إيدي” هي الراوي، هناك شخصيات مركزية أخرى تجسّد القصة، مثل “جلين كريجر” (تايلور كيتش)، ميكانيكي سيارات تعرض لمشكلة صحية حادة أثناء العمل ووصف له العقار لاحقًا أثناء تعافيه، وهو الشخصية التي تتجسد فيها المأساة إذ يبدأ تدريجيًا في إدمان الدواء، وبالتالي كل ما يتبع هذا الإدمان من مشكلات صحية ونفسية واجتماعية تنتهي بوفاته بجرعة زائدة. و”شانون شيفر” (ويست دوشوفني) وهي مندوبة مبيعات حديثة التخرج تلعب دورًا محوريًا في شرح كيفية التلاعب بالشباب ليصبحوا ليس فقط متغاضين عن المشكلات التي يرونها بل متواطئون كذلك، وأخيرًا “ريتشارد ساكلر” (ماثيو برودريك)، رئيس شركة بيردو صاحب فكرة إنشاء وتسويق العقار.
يواجه المسلسل، كونه وثائقيًا ودراميًا تحديًا أساسيًا يتمثل في أنه لا يوجد جديد يكشفه المسلسل، فكافة الوثائق والقضايا والمشكلات قد نوقشت بعمق شديد واعتلت موائد الإعلام والصحف لما يقارب من عقدين خاصة مع نشوب الاحتجاجات وبداية المحاكمات في مراحلها المختلفة، وهي حديثة نسبيًا. بالتالي فإن الجمهور، وخاصة الأمريكي، يعرف مسبقًا هذه التفاصيل،
وبالتالي يزيد الحمل على الدراما في تقديم هذه القضية الهامة بشكل مؤثر يوثق لمأساة تسببت في وفاة مئات الآلاف.
وهنا تواجه الدراما كذلك تحديًا آخر وهو تناول عدد من الأعمال والكتب القضية نفسها منها مسلسل وثائقي صادر عن نتفليكس أيضًا بعنوان “The Pharmacist”، وآخر من إنتاج HBO «The Crime Of The Century»، ومسلسل دراما وثائقية ثالث صادر عن منصة HULU، بعنوان «Dopesick».
خطوط ناقصة
نجح المسلسل في تخطي جزء هذه العقبات بتقديم حلقات جذابة ومؤثرة في آن، خاصة مع بدايته القوية بالتأكيد على مأساوية القضية باستدعاء أهالي الضحايا الذين يروون قصصههم بالدموع في تأثر لا يمحوه الزمن، ولعل هذا أقوى ما في المسلسل. فعلى الرغم من تتابع الأحداث بشكل جيد، فإن الأحداث فقدت تماسكها في نهاية المسلسل، إذ انتهى المسلسل مع نهاية ما ترويه “فلاورز” للمحققين الجدد في واشنطن، بانتهاء المحاكمة التي تولت التحقيق فيها، ثم ما تبعها من أحداث كُتبت سريعًا على الشاشة دون استكمال فعلي للحكاية التي بدأها المشاهد.
بالإضافة إلى ذلك ركز المسلسل بشكل كبير على أزمة عائلة “ساكلر” للخروج من المآزق المختلفة ومحاولتهم الحفاظ على الإرث المعنوي والمادي للعائلة، ما جعل هناك تشتتا في تحديد الخط الدرامي الرئيسي للمسلسل هل هو محاولات عائلة ساكلر للنجاة؟ أم الإدمان الذي يدمر عائلة كرينجر والذي صوره في بعض الأحيان كجاني أكثر من ضحية؟ أم أزمة فلاورز مع أخيها؟، رغم أنها خطوط منطقية في مجملها لكن لم تلتق وتمتزج بشكل انسيابي وواضح.
الحقيقة المؤلمة
مشكلة أخرى من المشكلات التي يعاني منها هذا النوع من الدراما الوثائقية، ولم ينجح المسلسل في معالجتها، هي ظهور شخوص المسلسل بشكل أحادي دون عمق حقيقي، فإما أشرار كعائلة “ساكلر” والأطباء المنتفعين، أو أخيار كـ”فلاورز”. ربما الشخصية الوحيدة التي ظهرت بشكل أكثر تعقيدًا هي “شانون”، مندوبة المبيعات الشابة التي ظهر لها أكثر من بعد إنساني غير أحادي وتحولات درامية متعددة منطقية تبعًا للأحداث وللعوامل المحيطة المختلفة.
رغم ذلك قدم المسلسل صورة حقيقية ومؤلمة لتنامي المأساة وانتشارها، واستطاع أن يكشف التأثير الاجتماعي بالغ القسوة لهذه القضية التي لا تزال آثارها موجودة حتى اليوم، رغم تشتت هذه الصورة أحيانًا.
مقال جميل وسرد رائع