أحدث الحكايا

أيمن بكر يحكي: متى يستخدم «الحكام» الـ«VAR» في الصراعات الدولية؟

صرخ صاحبي:
– حكم ابن (…) والله بينالتي.. والمصحف بينالتي.. هو إحنا دايما كده موعودين بالحكام الظالمين.. يلعن (…) إيه ده؟ شكله هيرجع لـ(الڤار).

ولأنني جاهل كرويا؛ لم أفهم ما يحدث. توجّه الحكم نحو بقعة سوداء خارج الملعب، وقف وحيدا وقد وضع يده على أذنه وأخذ يهمس كمن يلقي بتعويذة أو يتلقى وحيا، أو ربما ذهبت روحه إلى الوراء في الزمن ليرى ما حدث قبل دقائق، ثم عاد ووقف منتصبا قبل أن يشير بيده نحو منطقة الجزاء مع صافرة قوية. صاح صاحبي:
– هيييييييييه بينالتي.. مش قلتلك.. يحيا العدل.

مسار تاريخي

بعد حربين عالميتين يعود الفضل للغرب الأوروبي في إشعالهما، وفيما راح بسببهما من ضحايا في العالم كله، ومع نهاية الحقبة الاستعمارية بصورتها العسكرية الخشنة، استطاع الغرب اليورو-أمريكي أن يقنعنا بأنه صاحب التفوق الحضاري والأخلاقي، القادر على حماية القيم الإنسانية وإقامة العدل دوليا، مبعثرا سردياته التقليدية عن فترة الاستعمار الوحشية، التي تدعي سعي الغرب إلى نشر قيم الحداثة وإنقاذ أمم لم تطلب إنقاذها من غياهب الجهل والتخلف.

لكن ضمير الغرب ليس واحدا وكتل البشر فيه ليست جميعا تعبيرا عن سياساته القمعية، لذلك سنجد سرديات أخرى تشير إلى تفوق أخلاقي جعل الغرب يدرك ما ارتكب من جرائم ويندم عليها (طبعا بدون تقديم أي اعتذار رسمي يستوجب تعويضات). لقد مارس الغرب تعاليه الأخلاقي عبر مؤسسات أسبغ عليها صفة الدولية، في حين أنها كانت تعبيرا مباشرا وبسيطا عن مصالح دول جريحة مهدمة بعد حربين بشعتين، وهو ما يحتاج إلى تعويض وإعادة بناء (غالبا على حساب موارد الدول التي تمثل في الوقت نفسه سوقا رئيسة للمنتج الغربي).

الحرب العالمية الأولى

الحربان العالميتان من زاوية أخرى تعبران عن موروث عنف ممتد في الثقافات الأوروبية، وهو عنف ذو طبيعة خاصة، اقترن دوما بالاعتداء على الغير بسبب نقص الموارد، أو بسبب الطمع السلطوي البسيط، كما كان معتادا في العنف الأوروبي وقوع حالات الإبادة، والتطهير العرقي بالإزاحة الجماعية لقبائل وعرقيات بأكملها من أماكنها بعد مواجهات دامية، وهو ما يحتاج لبحث معمق أنوي القيام به.

لم يختلف تصور الغرب -أعني سياساته بالتحديد- عن العالم غير الأوروبي بوصفه أقل درجة على المستويين الإنساني والعقلي حتى الآن، ما يبرر أخلاقيا استغلال دول العالم غير الأوروبي بصورة شرهة لا تعرف حدودا للشبع على المستويات كافة؛ بداية من الموارد والثروات إلى الإنسان، والهدف النهائي الذي أعلنته الحكومات الغربية المتعاقبة هو رفاهية شعوبها (الأرقى/ الأجمل/ الأكثر عدالة/ الأسمى أخلاقا). المدهش أننا صدقنا التصور الذي صاغه الغرب عن نفسه اعتمادا على مركزيته قِيَمِيًّا وإنسانيا.

الحرب العالمية الثانية

لقد تفوّق الغرب في إنتاج المواد المرئية من أفلام موسيقى وموضات أزياء وتقنيات إعلان مبهرة ووسائل تواصل تخضع لسيطرته المباشرة وغير المباشرة، تفوق في صياغة الرأي العام العالمي كما يحب؛ بحيث أصبحت صورته أقرب للنموذج المثال الذي يتمناه كل إنسان

كان من أهم أسباب هذه الخديعة التاريخية، حرص الغرب على تقديم نفسه عبر ملامح وجه لامعة براقة ومثيرة للخيالات الساذجة، ملامح تشع بالجمال والبراءة وآثار الرفاهية. من الممكن أن نختبر ذلك حرفيا بتحليل نمط الوجوه في إعلانات المنتجات الغربية كالسجائر والمشروبات الغازية والمطاعم منذ بداية القرن العشرين حتى الآن، لندرك ملائكية الصورة الذهنية التي أراد الغرب الأوروبي/الأمريكي إلصاقها عن نفسه في الوعي الجمعي للشعوب المتفرق دمها ووعيها بفعل الاستعمار الغربي: فتيات رشيقات يقطرن فتنة وبراءة معا، ورجال فيهم ملامح نبل عميق مع قوة يحتاجها تصور السيد لإقناع كائنات أقل رقيا/ عبيد/ حيوانات بشرية متناثرين حول العالم، وأطفال متوردة وجوههم ينعمون بالصحة.

أحد إعلانات السجائر في القرن العشرين

 

أقنعنا الغرب اليورو-أمريكي بأنه جميل/ ملائكي/ عادل لفترة طويلة عبر المؤسسات المسماة أممية. والآن تهاوت بصورة كاملة تقريبا مصداقية هذه المؤسسات عبر اختبارها في أزمات دولية كبرى منها حرب فيتنام وقضية أسلحة الدمار الشامل العراقية، وأخيرا ممارسة مذبحة على الهواء مباشرة في غزة.

لكن الغرب كان قد طوّر أدوات فتاكة تنتمي للفترة ما بعد الصناعية “Post-Industrial Period” التي جعلت من خدمات عمليات التصنيع (من شركات استشارات مالية ومراكز تخطيط وترويج للصناعات الغربية وإعلانات ووسائل تواصل.. إلخ) أن يصف منتجاته بأنها الأفضل عالميا.

لقد تفوّق الغرب في إنتاج المواد المرئية من أفلام موسيقى وموضات أزياء وتقنيات إعلان مبهرة ووسائل تواصل تخضع لسيطرته المباشرة وغير المباشرة، تفوق في صياغة الرأي العام العالمي كما يحب؛ بحيث أصبحت صورته أقرب للنموذج المثال الذي يتمناه كل إنسان، فصارت الشعوب المقموعة من نظمها ومن تصوراتها الساذجة، تلك التي سلب الغرب -ولم يزل- ثرواتها، تلقي بشبابها في مياه البحر وراء حلم الغرب الجميل الآمن العادل المرفه.

ومن أخطر أدوات الغرب في إلصاق وهم العدالة المطلقة بصورته حاليا هي المنافسات الرياضية وخصوصا مباريات كرة القدم، وما يتصل بها من قوانين تم تطويرها مؤخرا.

ترافولتا وأوليفيا يحتفلان بمرور 40 عاما على فيلم "جريس"
الدعاية لفيلم “Grease” لجون ترافولتا

المستطيل الأخضر بين عدالة الأوليمب وآلة الزمن

تكررت فكرة أن مباريات كرة القدم هي اختصار لفكرة الصراع في الحياة، لكني أود التركيز هنا تحديدا على العدالة كما يحلم بها الإنسان منذ القديم. ولنبدأ مما هو مطروق بأن المستطيل الأخضر هو العالم بصورة آمنة يدخله مليارات البشر ليمارسوا حالة من التماهي مع أحد طرفي الصراع لساعة ونصف يتم عبرها تفريغ طاقات مصحوب بنوع من التوتر الممتع المجهد الذي ربما يصل حدود الإنهاك في حالات التعصب. الجميع يدخل مباريات كرة القدم عبر الشاشة كمن يوقف الزمن ويستحضر كل خيباته على أمل تحقيق فوز موهوم يمنحه بعض الهدوء اللازم للاستمرار.

محمد صلاح في إحدى مباريات ناديه ليفربول في الدوري الإنجليزي

 

لقد قام الاتحاد الدولي لكرة القدم الذي تهيمن عليه أوروبا بتطوير قوانين اللعبة، ليضمن استمرار شعبيتها عبر إرضاء مليارات البشر، وبالتحديد عن طريق تحقق أعلى درجات العدالة خلال ساعة ونصف الساعة من لعبة هي أقوى مخدر عرفته البشرية حتى الآن.

وبغض النظر عن النتيجة النهائية لهذا التماهي مع أحد طرفي الصراع، وهل هي إيجابية أم سلبية، فإن علاقتنا بكرة القدم تعبر تماما عن أوضاعنا الحياتية الواقعية. أتذكر رد فعل المشجعين اليابانيين حين فاز فريقهم على الفريق الألماني في منافسات كأس العالم الأخيرة، لقد صفق المشجعون -الذين كانوا في أماكن عمل تقريبا- لثوان معدودات بهدوء شديد ثم عادوا لما يفعلون. كان المشهد مثار تعجب وربما سخرية من مشجعي الكرة حول العالم غالبا. لكن هذا الهدوء يعكس موقع كرة القدم في المخيلة اليابانية، ومستوى التورط الباهت لليابانيين في لعبة التماهي مع فريقهم القومي وكذلك مدى تحققهم في حياتهم العملية.

Germany stunned by Japanese comeback
لاعبو اليابان يحتفلون بأحد أهدافهم في مباراتهم ضد ألمانيا في كأس العالم 2022

 

يتخذ التماهي مع مباريات الكرة شكلا تعويضيا عن غياب النجاح والعدل والرغبة في تحقيقهما معا. مباريات الكرة مطالبة بأن تكون الحياة في لحظات انتصارها، فإن لم يكن فعلى الأقل أن تكون المنافسة/الحياة عادلة. لم يكن من الصعب على إمبراطورية الفيفا، التي تفوق ميزانيتها عددا من الدول مجتمعة، أن تدرك أهمية مطلب العدل من قبل ممولها الأهم: الجمهور.

لقد قام الاتحاد الدولي لكرة القدم الذي تهيمن عليه أوروبا بتطوير قوانين اللعبة، ليضمن استمرار شعبيتها عبر إرضاء مليارات البشر، وبالتحديد عن طريق تحقق أعلى درجات العدالة خلال ساعة ونصف الساعة من لعبة هي أقوى مخدر عرفته البشرية حتى الآن.

لكن هذه العدالة لن تتوقف تأثيراتها عند حدود المستطيل الأخضر، بل ستتعداها إلى الحاضنة الأساسية التي تهيمن على اللعبة وتقدم أعلى مستوياتها: الغرب الشهي. سيلتصق مفهوم العدل الذي يتحقق بصورة كبيرة في المباريات بالثقافات الغربية تحديدا وإن بصورة غير واعية في أذهان باقي شعوب العالم.

هنا يأتي دور تقنية حكم الڤيديو المساعد VAR (ومثلها تقنية عين الصقر في لعبة التنس) لتمثل نقلة ذات أبعاد مهمة. إنها ملمح مهم في سبيل العدالة المطلقة التي يقوم على رعايتها الفيفا/الغرب.

حكام الفيديو

 

يتوفر البعد الرمزي للعدالة المطلقة بكل هيبته الغامضة في تقنية الـ VAR حيث يجلس حكامه في مكان مرتفع لا يظهر لنا، إلا بصورة عابرة كلمح خيال في بداية المباراة، ثم يغوص في غموض متعال لا يشك أحد في أنه محايد تماما وبعيد تماما عن التعصب، إنها غرفة تنتمي في دلالاتها الرمزية بصورة عميقة إلى محاكمات جبل الأوليمب في الميثولوجيا اليونانية القديمة، وهو ما يمكن أن تحدث معه أخطاء نادرة تمام كما كان يفعل بعض آلهة الأوليمب حين يتخلون عن حيادهم.

العودة في الزمن

ومن زاوية ثانية تمثل تقنية الڤار VAR تحققا جزئيا لحلم إنساني آخر هو العودة في الزمن؛ وهي عودة هدفها أن تراجع الماضي بما يؤثر على الحاضر والمستقبل. تقنية الڤار هي آلة زمن صغيرة غرضها تصحيح الأوضاع لتحقيق العدالة. وهو موضوع يستحق المزيد من التأمل في مختلف أنشطة الإنسان وقوانينه التي تحاول تحقيق حلم السيطرة على الزمن.

أحد الحكام يراجع باستخدام تقنية الـ Var

 

لكن ألا يحق لنا المطالبة باستخدام تقنية الـ VAR في الصراعات التاريخية؟ ألا يحق لمليارات الكائنات التي تتماهى مع مباريات كرة القدم البحث عن آلية تقود إلى فوز أو هزيمة عادلة، وأن تحلم بتحقق ذلك في الواقع الحي العملي الجاد؟ هل يمكن لمن اقترح تقنية الـ VAR أن يقيم ورشة تعليمية لساسة العالم ومنظماته الدولية كي يتم استخدام الوثائق والحقائق التاريخية مثلما تستخدم تقنية الـ VAR؟ الإجابة الواضحة هي: لا كبيرة، يطلقها الغرب الاستعماري من حين لآخر مع كل مطالبة بتحقيق العدالة في الصراعات التاريخية، معلنا أن جديته في تحقيق تلك العدالة في اللعب أكبر بكثير من جديته في تحقيقها في حياة البشر.

لقد صار اللعب هو العمل الأكثر جدية وقدرة على تحقيق مفهوم العدالة، وصارت مباريات كرة القدم هي مهرب مليارات البشر من ظلم العالم الواقعي، لكنه هروب ذهني تصوري نحو الغرب، الذي يتعامل مع باقي العالم بمعادلة صريحة معلنة تقول بوضوح: لقد طورنا قدرات سيطرة اقتصادية وعسكرية ورمزية كبيرة، وسوف نسحق بها كل من لا يقبل باستغلالنا له وسيطرتنا على موارده. إن حكومات الغرب اليورو-أمريكي ليست وريث العصر الاستعماري، إنها صورته الجديدة التي تحافظ على قواعده وتطورها بأمانة وإصرار.

عن د. أيمن بكر

حاصل على الدكتوراة في جامعة القاهرة، أستاذ الأدب والنقد والدراسات الثقافية في جامعة الخليج للعلوم والتكنولوجيا بالكويت. ورئيس قسم العلوم الإنسانية والاجتماعية. له عدة كتب في النقد الأدبي والثقافي منها السرد في مقامات الهمذاني (1998)، وتشكلات الوعي وجماليات القصة (2002)، وقصيدة النثر العربية (2009)، انفتاح النص النقدي، بالإضافة إلى مؤلفاته الشعرية مثل ديوان «رباعيات» بالعامية المصرية، والروائية مثل «الغابة». فاز بكر ٢٠٢١ بجائزة الشارقة لنقد الشعر العربي في دورتها الأولى عن كتاب بعنوان: الطقوسية، السردية، المبالغة، نحو نظرية للشعر العربي الحديث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *